إن أحد أبرز التساؤلات التي تثار اليوم في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في لبنان، الذي دخل حيز التنفيذ صباح اليوم الأربعاء، حول مآلات التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على العراق، ردًا على هجمات الفصائل المسلحة العراقية المدعومة من إيران، فأحد أبرز مسارات التصعيد بين هذه الفصائل و”إسرائيل”، كان مبني بالأساس على موقفها من الحرب، سواء على مستوى الانخراط المباشر، أم على مستوى تقديم الدعم العسكري واللوجستي لـ”حزب الله” اللبناني.
مما لا شك فيه أن محاولات “إسرائيل” لفتح جبهة في العراق، أو على أقل تقدير احتواء الهجمات التي تشنها الفصائل المسلحة العراقية، مثلت توجهًا إسرائيليًا واضحًا منذ اللحظات الأولى لاندلاع الحرب في جنوب لبنان، إذ أدت الهجمات التي شنتها هذه الفصائل على الجولان أو ميناء أم الرشاش داخل العمق الإسرائيلي، إلى ردود فعل عنيفة قامت بها “إسرائيل”، ومنها الهجوم الأخير الذي شنته على موقع عسكري للفصائل المسلحة العراقية في تدمر شرق سوريا الأسبوع الماضي، والذي خلف العديد من القتلى والجرحى، ما يشير بدوره إلى حجم التهديد غير المباشر للهجمات التي تشنها هذه الفصائل داخل العمق الإسرائيلي.
العراق والإدراك الإسرائيلي
يبدو واضحًا أن النهج العسكري الإسرائيلي بني بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، على اعتماد مبدأ “عزل الساحات” كرد فعل على مبدأ “وحدة الساحات” الذي حاولت إيران جعلها جزءًا من استراتيجية مواجهة مع “إسرائيل”، عبر تشغيل كل الساحات في آن واحد: حرب في غزة، واستنزاف في لبنان، وتهديد لموارد الطاقة في اليمن، ودعم لوجستي وعسكري من العراق.
في حين تتولى إيران مهمة إدارة العمليات الإقليمية من الخلف، ومن ثم فإن إدراك “إسرائيل” لمثل هذا التوجه الإيراني، جعلها تفكر مليًا في كيفية عزل هذه الساحات، عبر توزيع كُلف المواجهة على الجميع، ومنها الساحة العراقية.
ورغم أن الساحة العراقية لم تنخرط بشكل كبير في سياق المواجهة الإقليمية الراهنة، فإنها مارست دورًا سياسيًا وإعلاميًا ولوجستيًا في مسار الحرب بلبنان، ورغم انخراط المرجع الشيعي الأعلى في العراق، علي السيستاني، في رسم ملامح دور العراق الرسمي من الحرب في لبنان، عبر التأكيد على الدور الإغاثي والإنساني والسياسي، فإن العراق غير الرسمي الذي تمثله الفصائل المسلحة المدعومة من إيران ظل يراهن على الحل العسكري، وهو ما أدى إلى حالة إرباك واضحة في سلوك حكومة رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، في كيفية ضبط مسارات التهدئة والتصعيد في الساحة العراقية.
وبناءً على الدور المزعزع للفصائل المسلحة العراقية، لوحت “إسرائيل” في أكثر من رسالة، سواءً التي نقلتها السفيرة الأمريكية في بغداد، إلينا رومانوفيسكي، أو السفير الأذربيجاني في بغداد، نصر محمدوف، من أن الاستمرار بالهجمات التي تشنها هذه الفصائل، قد يدفع “إسرائيل” للرد عليها، بغض النظر عن العواقب التي قد تنتج عن ذلك، كما أنها لن تفرق بين هدف فصائلي أو عراقي، طالما أن الهجمات تأتي من داخل العراق.
وفي هذا السياق، انخرطت حكومة السوداني، وكذلك الإطار التنسيقي، في حوارات موسعة، سواءً مع الجانب الإيراني أو الفصائل المدعومة من قبله، بضرورة الكف عن هذه الهجمات، بالنظر للتهديدات الإسرائيلية الجدية بالرد أو الهجوم على العراق.
ورغم الزيارات التي أجراها مستشار الأمن القومي العراقي، قاسم الأعرجي، لإيران، أو الحوارات التي يقوم بها قادة الإطار التنسيقي مع قيادات في الفصائل المسلحة، فإن كل هذه الجهود لم تؤد إلى منع أو إيقاف الهجمات التي تشنها الفصائل على “إسرائيل”، ومنها الهجوم الذي وقع أمس الثلاثاء الموافق 26 نوفمبر/تشرين الثاني، عبر طائرة مسيرة استهدفت العمق الإسرائيلي.
ويمكن القول بأن “إسرائيل” تدرك خطورة وأهمية الساحة العراقية في إدامة الجهد العسكري في غزة ولبنان، وفيما يتعلق بلبنان، فإنه على الرغم من وقف إطلاق النار، فإن “إسرائيل” تدرك أن المخاطر الرئيسية تكمن في مرحلة ما بعد إيقاف الحرب، إذ ستعمل إيران بشكل واسع على إعادة ترميم البنية التحتية العسكرية للحزب التي تضررت خلال الحرب، وكذلك إعادة ترميم شبكاته الاقتصادية.
وهذا لن يتم إلاّ عبر الساحة العراقية، ما يعني أن “إسرائيل” ستحاول إنتاج سيناريو يلائم التحديات المقبلة القادمة على الساحة العراقية، وبمعنى أدق فإن الساحة العراقية ستكون محور الاهتمام الإسرائيلي في المرحلة المقبلة.
ماذا بعد ذلك؟
يمكن القول بأن السيناريوهات التي سترسم ملامح التوجه الاستراتيجي الإسرائيلي حيال العراق، ستكون محكومة بالدرجة الأساس بمدى قدرة “إسرائيل” على الاستمرار في فتح الساحات واحدة تلو الأخرى، وكذلك على النهج الاستراتيجي الذي ستعتمده الفصائل المسلحة المدعومة من إيران، في الاستمرار بالهجمات التي تشنها، أو تعليقها وحتى إيقافها، بعد توقف إطلاق النار في لبنان، فمما لا شك فيه أن المرحلة المقبلة ستكون مرحلة اختبار نوايا، وعلى أساس هذه النوايا ستتشكل ملامح المواجهة بين “إسرائيل” والفصائل المسلحة العراقية.
إن التحذيرات الإسرائيلية بشن هجوم على العراق، تأتي وفق سياق التهديد عبر إدارة التصعيد مع الفصائل المسلحة، ومن بعدها إيران، فنجاح “إسرائيل” في تهذيب دور إيران بالحرب في غزة ولبنان، عبر الهجوم الأخير الذي شنته داخل العمق الإيراني في نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلى جانب التهديد بشن هجوم على العراق، قد تشكل رغبة إسرائيلية بالحصول على فترة انتقالية مريحة، تعيد من خلالها رسم ملامح المشهد الإقليمي ما بعد الحرب، خصوصًا مع قرب استلام الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، إدارة البيت الأبيض.
وبالتالي قد تطمح “إسرائيل” في تحقيق ما تريده عبر السياسة، بعد أن فشلت في تحقيق ذلك عبر الآلة العسكرية، وتحديدًا في غزة، التي أثبتت فيها حركة حماس قدرتها على الصمود، في ضوء قبول “حزب الله” اللبناني بقرار وقف إطلاق النار أضعفه كثيرًا، وهدم الكثير من النجاحات العسكرية التي حققها بعد حرب يوليو/تموز 2006.
إن محاولة خلق فجوة بين الهجمات التي تشنها الفصائل المسلحة العراقية، ورسائل التهديد التي ترسلها “إسرائيل” بين الحين والآخر، تتوقف بالدرجة الأساس على جهود حكومة السوداني في مدى قدرتها على تعزيز موقف الدولة العراقية في مسار الصراع الإقليمي الحالي، خصوصًا أن الحكومة عبرت مرارًا عن دعمها للحل السياسي، وعدم وجود رغبة في الانخراط بالصراع الحالي.
إن عدم وجود إجماع عراقي على الدخول في حرب مع “إسرائيل”، إلى جانب الإجراءات الأمنية التي اتخذتها الحكومة العراقية في منع أي هجمات تنطلق من الأراضي العراقية، قد يلعب دورًا بشكل أو آخر، في تحييد الساحة العراقية عن الهجوم الإسرائيلي المحتمل، بل وقد يدفع “إسرائيل” إلى تصفية حساباتها مع الفصائل المسلحة، على الحدود العراقية السورية، أو في الداخل السوري، دون الحاجة إلى نقل الحرب لداخل العراق، لأنه في تلك اللحظة قد تنقل الصراع إلى مستوى أعلى، من الحرب مع فصائل مسلحة، إلى حرب مع الدولة العراقية كلها.
ورغم أن العراق لا يمتلك القدرة على المواجهة العسكرية مع “إسرائيل”، بالنظر إلى فارق القدرات العسكرية بين الطرفين، فإن وجود القوات الأمريكية في العراق، والانتشار الكبير للمصالح والشركات الأجنبية فيه، قد يدفع “إسرائيل” إلى عدم الذهاب بعيدًا في هذه التهديدات، عبر تشكيل ردود مركبة توازن بين حاجاتها الأمنية، ورغبة الولايات المتحدة في عدم تحريك الساحة العراقية، ومدى صحة هذه الرؤية تتوقف بشكل أو آخر، على الجهود التي مارستها إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، حتى الآن في الضغط على “إسرائيل” بعدم الهجوم على العراق، ومن ثم فإن التساؤل المهم الذي يطرح نفسه هنا: هل ستمارس إدارة ترامب نفس الضغوط، أم ستترك الباب مفتوحًا أمام “إسرائيل” للذهاب بشكل مباشر إلى العراق، بغض النظر عن العواقب التي قد تنتج عن ذلك.