في 30 من مارس المنصرم وبمناسبة حلول الذكرى الثامنة لانطلاق مشروع سد النهضة عقد رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد اجتماعًا رفيع المستوى ضم جميع الأجهزة التنفيذية المعنية بمشروع السد، وذلك لتقييم وتقدير الوضع العام للمشروع، حيث تم استعراض الخطوات التي اتخذت لمواجهة التحديات الفنية والإدارية التي يواجهها المشروع وتقييم الموقف التفاوضي مع دول المصب.
إثر ذلك صرح رئيس الوزراء أبي أحمد بأن إثيوبيا أصبحت الآن، وبعد عمل دؤوب خلال العام الماضي، في وضع يمكنها من استكمال المشروع في الوقت المحدد وبالجودة المطلوبة.
تتزامن الذكرى الثامنة هذه السنة بمرور عام على التغيير السياسي في إثيوبيا، الذي بموجبه استلم السلطة أبي أحمد رئيس الحزب الأورمي الديمقراطي، أحد الأحزاب المكونة للائتلاف الحاكم في إثيوبيا.
الأهمية الإستراتيجية لسد النهضة وقيمته الاقتصادية والمعنوية مثلت لرئيس الوزراء الشاب وللطبقة السياسية الجديدة الناشئة في إثيوبيا تحديًا كبيرًا في كيفية معالجة التحديات التي يواجهها المشروع الذي تعتبره إثيوبيا أيقونة نهضتها الحديثة.
سد النهضة.. نجاحات وإخفاقات
الأزمة السياسية التي دخلت فيها إثيوبيا منذ اندلاع الاحتجاجات في 2015 واستمرارها حتى استقالة رئيس الوزراء السابق ديسلين هيلاماريا في فبراير 2017، مثلت تهديدًا كبيرًا لمشروع سد النهضة.
ومثلت كذلك وفاة مدير المشروع المهندس سيمانو بيقيلا في يوليو 2018 صدمة كبيرة للشارع الإثيوبي، حيث أفادت التحقيقات فيما بعد أنه انتحر على وقع ضغوط نفسية بسبب قضايا الفساد الذي استشرى في شركة ميتيك التابعة للجيش، وهو ما مثل خيبة أمل كبيرة للشعب الإثيوبي الذي شارك في هذا المشروع عبر التبرعات وشراء السندات السيادية، حيث بلغت المشاركة الشعبية أكثر من نصف مليار دولار.
رغم تواضع خبرات شركة ميتنك الإدارية للمشاريع الضخمة والمعقدة كمشروع سد النهضة، فقد تم منحها بقرار سياسي، عقود حصرية لتنفيذ أعمال الكهروميكانيكية المتعلقة بأعمال اللحامة المعدنية الخاصة بالقنوات الفولاذية الضخمة
شركة ميتيك للصناعات المعدنية هي شركة حكومية تابعة للجيش الإثيوبي أسست في الأصل لتكون أحد أذرع الجيش الإثيوبي للصناعة الثقيلة، ويديرها ضباط الجيش والمخابرات، ورغم تواضع خبراتها الإدارية للمشاريع الضخمة والمعقدة كمشروع سد النهضة، فقد تم منحها بقرار سياسي، عقودًا حصرية لتنفيذ أعمال الكهروميكانيكية المتعلقة بأعمال اللحامة المعدنية الخاصة بالقنوات الفولاذية الضخمة التي تنقل المياه بكميات كبيرة وبضغط عالٍ إلى التوربينات (مولدات الكهرباء من الماء).
كذلك فإنها كانت مخولة أيضًا بتنفيذ الأعمال الهيدروليكية المتعلقة بتوريد التوربينات وتثبيتها وتشغيلها، وكلها أعمال بالغة التعقيد ويتطلب تنفيذها قدرات عالية من الخبرات الفردية، كما أن إدارة هذه الأعمال تحتاج إلى خبرات مؤسسية متراكمة، وهي إمكانات لم تكن متوافرة لدى شركة ميتيك للصناعات المعدنية.
ورغم الصعوبات الفنية التي واجهت المشروع في الفترة الأخيرة، فقد تم الانتهاء من تشييد 83% من هيكل السد، وهو الجسم العام للسد الذي يحتجز المياه وغرف تثبيت التوربينات وبوابات التحكم في منسوب المياه المحتبسة، وهي مهمة قامت بها شركة ساليني الإيطالية، ويبلغ طول السد 1800 متر وارتفاعه 155 مترًا، وتبلغ سعته التخزينية من المياه مليون متر مكعب.
أبي أحمد بين المكاشفة والمواجهة
منذ أبريل 2018 لجأت حكومة أبي أحمد إلى إستراتيجية واضحة للتعامل داخليًا مع مشروع السد، وفي نظري هذه الإستراتيجية قائمة على عنصرين:
ضمن إستراتيجية المكاشفة أطلعت الحكومة وبشفافية كبيرة الشعب الإثيوبي على المشاكل الفنية والإدارية التي يواجهها مشروع السد بسبب الفساد الذي نخر في شركة ميتيك
1- المكاشفة: بإطلاع الشعب الإثيوبي على واقع الأمور والتحديات التي يواجهها المشروع بسبب غياب المحاسبة والشفافية.
2- العمل على مواجهة تلك التحديات وتعديل المسار لاستكمال المشروع، وهو ما أسميه الانطلاقة الثانية لسد النهضة.
فضمن إستراتيجية المكاشفة أطلعت الحكومة وبشفافية كبيرة الشعب الإثيوبي على المشاكل الفنية والإدارية التي يواجهها مشروع السد بسبب الفساد الذي نخر في شركة ميتيك.
ففي أغسطس 2018 وفي أول تعليق له على السد بعد انتحار مديره قال أبي أحمد: “تأخر إنجاز سد النهضة بسبب عدم الكفاءة وغياب المحاسبة داخل شركة ميتيك، وإن كنا نسير على نفس المنوال فإن هذا السد قد لا يرى النور حتى في عشر سنوات”، ثم توالت التقارير الرسمية عن حجم الفساد الذي تعرض له المشروع وزاد في مجمله على 800 مليون دولار.
العنصر الثاني من إستراتيجية حكومة أبي أحمد هي العمل بصمت على تذليل العقبات الإدارية والمالية التي تواجه المشروع في مراحله الأخيرة، وفي هذا الصدد تم إعادة الهيكل الإداري للمشرع، حيث تم سحب تنفيذ الأعمال الكهروميكانيكية الهيدروليكية من شركة ميتيك وتوزيعها على شركات ألمانية وفرنسية وصينية بعقود دولية بلغت قيمتها 1.9 مليار دولار، شملت هذه العقود توريد 16 توربينًا، وتركيبها في أحوض إنتاج الطاقة وتشغيلها وإنهاء أعمال التشطيبات الخاصة بقواعد تثبيت المولدات.
النتائج الإيجابية للمسار التصحيحي لتنفيذ المشروع هو الذي دفع رئيس الوزراء للتأكيد على استكماله قريبًا
كما تم تصحيح المسار الإداري للمشروع، حيث أُدرج ضمن المسؤولية المباشرة لوزراء الري والكهرباء، وذلك لتعزيز المسؤولية السياسية والمحاسبة القانونية.
وبعد استكمال هذه الخطوت التصحيحية لتسريع أعمال السد أعلن وزير المياه والري والطاقة الإثيوبي في يناير الماضي أنه سيبدأ إنتاج الكهرباء من سد النهضة في 2020، بمولدين تبلغ طاقتهما الإنتاجية 750 ميغاوات، بينما سيتم الانتهاء من جميع أعمال السد في 2022.
والنتائج الإيجابية للمسار التصحيحي لتنفيذ المشروع هو الذي دفع رئيس الوزراء للتأكيد على استكماله قريبًا، حيث صرح أبي أحمد قائلاً: “خبراتنا الإدارية للمشروع أفضل من السابق، ولدينا علاقات أفضل يمكن أن تساعدنا على استكمال المشروع، وما بقي من مشروع السد أقل بكثير مما أنجزنا، سنستكمله بلا شك”.
الموقف التفاوضي مع دول المصب (مصر والسودان)
هذه المصارحة والعمل على تصحيح المسار اعتبرته أطراف إقليمية أنه إعلان لفشل المشروع، واحتفلت بذلك بعض الجهات الإعلامية خاصة في مصر، وربما أدركت هذه الأطراف حجم التحديات الفنية التي يواجهها المشروع، لكنها لم تدرك حجم الإصرار الرسمي والشعبي في إثيوبيا لتصحيح المسار والانطلاق من جديد، خاصة في ظل نشوة الانفتاح الداخلي والإقليمي، مما عزز من الأمل العام بإمكانية الخروج من المآزق والأزمات.
سياسيًا أكدت التصريحات الإثيوبية خلال احتفالات الذكرى الثامنة بأن إثيوبيا تسعى لاستكمال السد واضعة في الاعتبار تحفظات دول المصب، وخلال مناقشة تقارير تقدير موقف المشروع، أكد رئيس الوزراء أن إثيوبيا ستعمل على إقناع دول المصب عبر السبل والوسائل العلمية والفنية بموقفها القائم على عدم إضرار السد بمصالح دول المصب.
جل ما يمكن الحديث عنه بالنسبة للمفاوضات بين دول المصب وخاصة مصر هو التوصل لتفاهمات مرضية للطرفين بشأن فترة تعبئة السد
وعليه يمكن القول إن أي نقاش في توقف المشروع أو إمكانية التأثير في استكماله عبر التفاوض مسألة تعداها الزمن بالنسبة لإثيوبيا، فرغم الصعوبات الفنية التي واجهت المشروع، نتحدث عن مشروع اكتمل 83% من أعماله الإنشائية، ووصلت نسبة إنجازه عمومًا 66%، وعليه فإن جل ما يمكن الحديث عنه بالنسبة للمفاوضات بين دول المصب وخاصة مصر هو التوصل لتفاهمات مرضية للطرفين بشأن فترة تعبئة السد.
وعمليًا فإن إثيوبيا تراعي ضمنيًا التحفظات والمخاوف المصرية عند التعبئة، وذلك بالعمل على إنتاج الكهرباء تدريجيًا، بحيث يبدأ الناتج الأولي في نهاية 2020 بمولدين اثنين تصل طاقتهما لـ750 ميغاوات على أن ينتهي العمل الكلي في 2022، وعليه فإن إثيوبيا تستجيب عمليًا وميدانيًا للمخاوف المصرية دون أن تكون هناك التزامات سياسية واضحة حتى الآن على الأقل.
مؤخرًا تحاول مصر استمالة موقف السودان إلى جانبها، بالاستفادة من الظروف السياسية التي يمر بها السودان، لكن لا يوجد في جعبة السودان ما يقدمه لمصر بخصوص سد النهضة، فقد درج خلال الثماني سنوات الماضية على التماهي مع الموقف الإثيوبي والتأكيد على أن بناء السد مفيد للسودان، ولا يمكن تغيير هذه المقاربة ميدانيًا، لأن إثيوبيا تتمسك باتفاقية إعلان المبادئ الثلاثية بين إثيوبيا ومصر والسودان التي تنص على مبدأ عدم الإضرار، وتركت الجوانب الفنية والتفاصيل العملية للحوار والمفاوضات.