نتعرّض بشكلٍ يوميّ تقريبًا لما يُكتب على حسابات التواصل الاجتماعيّ عن قصص التحرّش والاعتداءات الجنسية في العالم ككلّ، وعالمنا العربيّ بشكلٍ خاص. منها ما يركّز على مرحلةٍ معيّنة كالطفولة أو المراهقة ومنها ما يتناول الموضوع بشكلٍ عامٍ وواسع. وفي الآونة الأخيرة ظهرت العديد من الحسابات العربية التي تشجّع الفتيات للحديث عن المواقف الصعبة التي تعرضنَ لها في الطفولة.
والمتتبّع لتلك الحسابات، سيجد أنّ معظم ما يُكتب فيها أو من خلالها تكتبه فتيات تعرّضن بالفعل لحادثة أو أكثر أثناء المراحل المبكّرة من الطفولة، حيث لم يكن هناك وعيٌ كافٍ أو تام للحديث عنها أمام البالغين، أو لصعوبة الحديث لدواعي الخوف أو القلق أو عدم الشعور بالأمان والاطمئنان للوسط الذي يحتويهنّ.
وإنْ كانت تلك الحسابات موجّهة للفتيات، فلا يمكننا الإنكار أبدًا أنّ الأطفال الذكور يتعرّضون أيضًا للتحرّش والاعتداءات الجنسية، بأشكالٍ كثيرة ومختلفة، وإنْ كانت النسبة عند الإناث أكبر بكلّ تأكيد. تشير بعض الأرقام العالمية إلى أنّ معدّلات التحرّش قد تصل إلى نسبة 18% بين الفتيات و8% بين الذكور. فيما تشير الأكاديمية الأمريكية لاضطراب الكرب التالي للصدمة النفسية أنّ 30% من الأطفال الذكور يتمّ التحرّش فيهم بطريقةٍ أو بأخرى، فيما تصل النسبة إلى أكثر من 40% بين الإناث.
قد يستغرق الأطفال ضحايا التحرّش الجنسي ما يصل إلى 26 عامًا حتى يكشفوا أو يفصحوا عمّا تعرّضوا له في مرحلةٍ مبكّرة من حياتهم
لكن هذه الأرقام لا تظهر الصورة كاملةً بالضرورة، فهي بالنهاية تعكس الحالات التي تمّ الإبلاغ والإفصاح عنها، فيما تبقى غيرها، ربما تفوقها بالنسبة، في دائرة الصمت وداخل نطاق عقل الطفل أو الطفلة الصغير. تُشير بعض البيانات إلى أنّ الأطفال ضحايا التحرّش أو الاعتداء الجنسي قد يستغرقون ما يصل إلى 26 عامًا حتى يكشفوا أو يفصحوا عن الاعتداء الذي تعرّضوا له في مرحلةٍ مبكّرة من حياتهم. ما يعني أنّنا هُنا أمام حالة من الصمت والكتمان التي لنْ يستطيع الطفل الخروج منها سوى بمساعدة والديه أو أيّ بالغٍ آخر من حوله.
غالبًا ما يكون ضحايا الاعتداءات الجنسية والتحرّش أصغر من أنْ يعرفوا كيف يعبّرون عن ما يجري معهم
هناك العديد من الأسباب التي تجعل الأطفال لا يكشفون عن سوء المعاملة على الفور. تشمل مشاعر اللوم الذاتي أو الشعور بالإحراج أو الخجل أو العجز أو الخوف من المجرم، لا سيّما إنْ كان أحد أفراد الأسرة أو شخصًا مقرّبًا منها كصديق للعائلة أو جار أو غيرهما ممّن يكون قد أقنع الطفل بأنّ ما يحدث هو أمر طبيعي أو “سر خاص”.
وبشكلٍ عام، غالبًا ما يكون ضحايا الاعتداءات الجنسية والتحرّش أصغر من أنْ يعرفوا كيف يعبّرون عن ما يجري معهم أو يطلبوا المساعدة ممّن حولهم. ولهذا قد يأخذ منهم الكثير من السنوات والمراحل العمرية حتى يستطيعوا تحويل تلك الحادثة إلى كلماتٍ. جميعنا نعرف أنّه إذا لم يتمّ التعامل معها بشكلٍ صحيح، فمن الممكن أنْ تؤدّي إلى اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب.
بعض العلامات والأدلة.. لكنها لا تكفي
غالبًا ما يُظهر الطفل الذي يتعرّض للتحرّش بعض العلامات التي يمكن للوالديْن تمييزها، وهي بذلك تختلف عن أيّ علامات لحالات أخرى كالقلق أو الضيق أو الاكتئاب. وبالمجمل يمكن أنْ تكون تلك العلامات إمّا نفسية/عاطفية أو جسدية. ويمكننا القول أنّ العلامات الجسدية تكون أقلّ شيوعًا في معظم الحالات.
فيما يمكن أنْ تترواح العلامات النفسية ما بين السلوك المثاليّ للغاية إلى العدوانية والسلوكيات السلبية غير المبرّرة. وقد يلجأ الطفل إلى حالة من الانسحاب وفقدان الثقة بالآخرين من حوله، فيرفض الذهاب إلى المدرسة أو الخروج من المنزل، أو قد يخاف كثيرًا من التعرض للّمس أو العناق، ويظهر عدم الرغبة في الخضوع للفحص البدني عند الطبيب على سبيل المثال.
يمكن أنْ تترواح العلامات النفسية للأطفال الذي تعرّضوا للتحرش ما بين السلوك المثاليّ للغاية إلى العدوانية والسلوكيات السلبية غير المبرّرة، فيما قد لا يظهر بعضهم أية علامات
فيما قد يجد بعض الأطفال نتيجةً للاعتداء والتحرّش صعوبةً في التعامل مع الآخرين والتعلّق بهم إلا من خلال الأساليب الجنسية أو المغرية، أو قد يُظهرون بعض السلوكيات الجنسية مع الأطفال الآخرين، أو يشون بمعرفة أو تصرفات جنسية غير ملائمة لعمرهم. إضافةً لمشاكل في الأكل والنوم والتركيز والتبوّل اللاإرادي والتورّط في سلوكيات إيذاء النفس، وغيرها.
كيف تشجّع طفلك على الإفصاح؟
قبل كلّ هذا، من المهم أن نتذكّر أن بعض الأطفال قد لا يظهرون أيّ علامات على الإطلاق. هنا يبرز دور الوالديْن في التعامل مع طفلهما وبناء أساليب تربية تمكّن الطفل من البوح والكلام دون خوف أو توتّر. يبدأ الأمر بمجرّد خلق حوارات يومية مع الطفل لمعرفة أحواله وتشجيعه على الحديث دون قيودٍ تحكمه أو مخاوف تمنعه.
يكون الطفل في المراحل العمرية الأولى أكثر مرونةً وقدرة على الشفاء والتعافي من الصدمات النفسية والتجارب الصعبة في حال وجد المساعدة والدعم في الوقت المناسب
وفي حال كان اعتراف الطفل صعبًا أو وجدته يراوغ، فقد تنمّ أشياء أخرى عن ما يحدث معه، مثل رسوماته أو الكلمات التي يستخدمها أو قد يلجأ إلى لعب عدة ألعاب تعيد تمثيل الموقف الذي تعرّض له أو ممارسة السلوك نفسه أو ما يشبهه مع أخوته أو الأطفال الآخرين من حوله.
على الوالدين أنْ يعيا أنّ الطفل في المراحل العمرية الأولى يكون أكثر مرونةً وقدرة على الشفاء والتعافي من الصدمات النفسية والتجارب الصعبة في حال وجد المساعدة والدعم في الوقت المناسب. لذلك، فاتخاذ بعض الخطوات الأساسية في وقتٍ مبكّر يمكن أنْ يساعد في تعزيز ثقة الطفل وإحساسه بالأمان وإمكانية اللجوء إليك في حال تعرّضه لتجربة قاسية.