وضعت معركة الانتخابات البلدية التركية أوزارها أو على الأقل اقتربت من ذلك، لكنها خلفت جدلاً واسع النطاق عما أسفرت عنه من نتائج، خاصة خسارة حزب العدالة والتنمية لبلديتي أنقرة وإسطنبول أهم مدينتين في البلاد، الأولى العاصمة السياسية والثانية العاصمة الاقتصادية.
خروج العاصمتين من تحت عباءة الحزب الحاكم هي الأولى منذ تأسيسه طيلة الأعوام الـ17 الماضية، ومنذ ربع قرن تقريبًا (1994) لم تسقط أي منهما من أيدي المحافظين إلا في المعركة الأخيرة التي جاءت في تفاصيلها وما تمخص عنها مثيرة للجدل ومفعمة بالدروس المستفادة.
النتائج شبه النهائية حتى الآن أظهرت تقدّم التحالف الحاكم بنسبة نحو 52% مقابل نحو 38% لتحالف المعارضة، إلا أن سقوط إسطنبول وأنقرة وبهذه الطريقة دفع العديد من الأحزاب إلى تقديم طعون في النتائج المعلنة على رأسها حزب العدالة والتنمية، فعلي لسان المتحدث باسمه عمر جليك فإن محاضر نتائج الاقتراع متناقضة مع جداول عد وفرز الأصوات بصناديق البلدتين.
وأضاف خلال مؤتمر صحفي عقده في أنقره أن هناك عدم انسجام واضح بين محاضر نتائج الاقتراع وجداول عد وفرز الأصوات بصناديق أنقرة وإسطنبول، مؤكدًا أنه من الطبيعي الطعن في نتائج الانتخابات لحل هذا التناقض، داعيًا إلى احترام حق الاعتراض.
وأيًا كانت النتائج، وسواء تأكد فوز مرشح المعارضة أم استعاد العدالة والتنمية قبضته على البلدتين أو أي منهما مرة أخرى، فإن المناخ العام الذي جرت فيه الانتخابات فند كثير من الاتهامات التي وجهت لنظام أردوغان، وبشهادة الجميع فإن مخرجات العملية وبصرف النظر عن الرابح والخاسر فيها تحسب للنظام الحاكم، فالجميع فائز، الحكومة والمعارضة والشعب والدولة التركية ذاتها، لكن تبقى الديمقراطية الفائز الأكبر في هذا المضمار.
الحفاظ على الصدارة
بعيدًا عن حالة الصخب الإعلامي التي رافقت العملية الانتخابية، داخل تركيا وخارجها، التي صورت ما حدث بالسقوط المدوي لأردوغان ورفاقه، فإن النتائج شبه الرسمية أكدت حفاظ تحالف “العدالة والتنمية” على الصدارة، بنسبة 56% من البلديات، 44.4% للعدالة و7.2% للحركة القومية، محققًا الفوز الـ15 على التوالي في الانتخابات.
التحالف الحاكم فاز في عموم تركيا، بـ16 بلدية كبرى و24 بلدية في مدن أصغر و538 بلدية أقضية و200 بلدة، فيما فاز حليفه حزب “الحركة القومية”، ببلدية كبرى واحدة و10 ولايات و146 منطقة و70 بلدة بمجموع 227.
الاقتصاد هو الجانب الأهم في قائمة أولويات الناخبين، وهو الأداة الأبرز التي استطاع أردوغان من خلالها الوصول إلى قلوب مؤيديه في العواصم الكبرى
وفي المقابل فاز حزب “الشعب الجمهوري” المعارض بـ10 بلديات كبرى و10 ولايات و192 منطقة و34 بلدة، بمجموع 246، وحليفه الحزب “الجيد” فاز في 18 ولاية و3 بلدات، بنسبة أصوات نحو 37.2%، 30% للشعب و7.2% للحزب الجيد، فيما حصل حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي على 4.3 %من الأصوات وفاز في 3 بلديات كبرى و5 ولايات و50 منطقة و11 بلدة، بمجموع 69، بينما ذهبت بقية البلديات للمستقلين.
وبلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة نحو 84% من أصل 57 مليون مواطن لهم حق الاقتراع، مقارنة بـ89% من أصل 48 مليون ناخب لهم حق التصويت في انتخابات 2014، ورغم تراجع النسبة عما كانت عليه قبل 5 سنوات فإنها تعد جيدة في ضوء التحديات الأخيرة.
It is over. Even the widely-criticized, state-run Anatolia news agency has painted Istanbul in red now, showing opposition candidate Imamoglu with a lead no longer vincible.#TurkeyElections2019 pic.twitter.com/WUOGSQfoX8
— Mustafa E. Yilmaz (@MustafaEdib) April 1, 2019
الاقتصاد.. كلمة السر
من أقوى المؤشرات التي أفرزتها نتائج الانتخابات أن الاقتصاد هو الجانب الأهم في قائمة أولويات الناخبين، وهو الأداة الأبرز التي استطاع أردوغان من خلالها الوصول إلى قلوب مؤيديه في العواصم الكبرى، حين أولى اهتمامه الأجل بتنمية موارد إسطنبول وإنعاش اقتصادها وإحداث حراك معيشي بها.
هذه الأداة وتلك الجهود التي قام بها الرئيس منذ أن كان حاكمًا لولاية إسطنبول كانت الضمانة الأبرز لتربعه على عرش قلوب مواطني البلدة بعدما لمسوه من تغيير حقيقي في مستوى حياتهم، فتراجعت البطالة وزادت معدلات النمو وقل التضخم وتوافرت فرص العمل.
بصرف النظر عما أفرزته الانتخابات من نتائج، إلا أنها أعطت درسًا رائعًا في الديمقراطية، قلما يتوافر في بلدان الشرق الأوسط بأكملها
لكن خلال الفترة الأخيرة ولأسباب يتعلق بعضها بالسياسات الداخلية والأكثرية منها بالضغوط الخارجية مني الاقتصاد التركي ببعض الهزات العنيفة، أسفرت عن تراجع في قيمة العملة الوطنية “الليرة” فضلاً عن زيادة ملموسة في موجات التضخم والبطالة، ما أثار موجة من السخط لدى قطاع من المواطنين تم التعبير عنه داخل صناديق الاقتراع.
الانتخابات الحاليّة ربما تكون رسالة واضحة لأردوغان بأن يعيد الاقتصاد مرة أخرى للصدارة في قائمة أولوياته الفترة القادمة، لعلمه أن الفورة الاقتصادية التي شهدها عهده كانت من أهم الأسباب التي جعلته يحتفظ بالحكم حتى الآن، وأنها ستكون الريمونتادا السريعة لاستعادة مكتسباته مرة أخرى.
العامل الاقتصادي كان أبرز العوامل التي أثرت في أصوات الناخبين
الديمقراطية.. الفائز الأكبر
بصرف النظر عما أفرزته الانتخابات من نتائج، إلا أنها أعطت درسًا رائعًا في الديمقراطية، قلما يتوافر في بلدان الشرق الأوسط بأكملها، فالفروق الضئيلة بين المتنافسين، وتعليق النتائج حتى الدقائق الأخيرة من الفرز، وخسارة الحزب الحاكم لأكبر الولايات لصالح المعارضة كانت رسائل قوية بشهادة الجميع.
ألم يكن باستطاعة أردوغان وحزبه الحصول على النسبة الأكبر في الانتخابات حال تدخلهما في مجريات العملية الانتخابية، خاصة وهو الحزب الحاكم الذي يسيطر على السلطات كافة؟ الإجابة بالطبع “نعم” يستطيع، لكن أن يقبل بالنتائج المعلنة حتى الآن رغم ما تعرض له من خسارة في بعض معاقله، فهذا وبشهادة الجميع يحسب له لا عليه.
مشاركة قوية في الانتخابات
لم يكن أشد المتشائمين في حزب “العدالة والتنمية”، ولا أشد المتفائلين في المعارضة، يتوقع أن تسفر نتائج الانتخابات عن فقدان الحزب الحاكم أهم معقلين له، إسطنبول وأنقرة، على الرغم من أن الحزب حافظ تقريبًا على أصواته في عموم تركيا، وحقق نجاحات في مناطق جنوب شرق البلاد، وهو ما يفند العديد من الاتهامات التي وجهت للنظام بالتدخل لصالحه في الاستحقاقات الانتخابية فضلاً عن اتهامات غياب الديمقراطية.
زعيم حزب “الشعب الجمهوري” المعارض، كمال كليجدار أوغلو، عبر عن نتائج الانتخابات قائلاً: “الشعب أظهر موقفًا مؤيدًا للديمقراطية، وهذا يمثل ضوءًا مهمًا للغاية بالنسبة لنا”، مضيفًا في مؤتمر صحفي له مساء الأحد “الجميع بلا استثناء، ليس في تركيا وحدها، بل في العالم أجمع يشعرون بارتياح من المشهد في البلاد، وذلك لأن تطور الديمقراطية عندنا وتأصلها أمر مهم للغاية للمنطقة بأسرها، وليس لتركيا وحدها، إذ إن تركيا تعتبر دولة نموذجًا للبلدان المظلومة بشكل خاص”.
ما زال الشعب التركي يقدم دروسه في الديمقراطية التي تخجل أولئك الذين يتغنون بحكم الجنرالات.. ويرقصون على نغمات الإستبداد.
#الانتخابات_البلدية_تركيا_2019#الإنتخابات_التركية #الانتخابات_البلدية_التركية #TurkeyElections2019 #Ankara #istanbul
— سامي كمال الدين (@samykamaleldeen) April 1, 2019
استراحة لإعادة الهيكلة
الانتخابات في ضوء ما أفرزته من نتائج ربما تأتي في صالح الحزب الحاكم، فالصدمة التي تعرض لها بخسارته أكبر قلعتين، جاءت بمثابة جرس إنذار لإعادة تقييم الموقف برمته، والعمل على معالجة أوجه القصور وترتيب البيت من الداخل مرة أخرى، خاصة أن هناك أربعة أعوام ونصف لن يكون فيهم أي استحقاقات انتخابية.
أردوغان نفسه عبر عن ذلك بشكل ضمني حين علق على النتيجة بقوله: “السبب الوحيد الذي حال دون حصولنا على النتيجة المرجوة من الانتخابات هو عدم تقديم أنفسنا للشعب بشكل كافٍ”، وفي خطاب ألقاه أمام جمهور من أنصاره في المقر الرئيس للحزب في أنقرة مساء الأحد، قال: “اعتبارًا من صباح غد (الإثنين) سنقوم بتحديد أوجه القصور لدينا، والعمل على تلافيها… إذا كانت لدينا نواقص فإن إصلاحها دين على عاتقنا”.
الاستراحة الانتخابية المقبلة التي تقدر بأربع سنوات ونصف ستكون فرصة جيدة لحزب العدالة والتنمية لمراجعة نفسه في الكثير من السياسات، الداخلية والخارجية، وعلاج أوجه القصور في محاولة لاستعادة شعبيته مرة أخرى
وعن إستراتيجيته خلال المرحلة المقبلة أضاف: “أولويتنا خلال الفترة الممتدة للعام 2023 هي تعزيز الاقتصاد ومواصلة النمو مع التركيز على التكنولوجيا والتصدير وزيادة فرص العمل”، ولفت إلى أن “هدف تركيا مساعدة اللاجئين السوريين للعودة إلى ديارهم وجعل منبج وشرق الفرات مناطق آمنة”.
الكثير من الملفات على أردوغان إعادة تقييمها مرة أخرى، فبعيدًا عن الملف الاقتصادي وضرورة إعطائه الأولوية الكاملة فهناك كذلك الملف السوري، خاصة بعدما استغلت أطراف في المعارضة التركية وجود مئات آلاف اللاجئين السوريين عبر اعتماد خطاب عنصري ضد الوجود السوري في تركيا، ويبدو أن ذلك انعكس على أصوات الناخبين.
وفي المجمل فإن الاستراحة الانتخابية المقبلة التي تقدر بأربع سنوات ونصف ستكون فرصة جيدة لحزب العدالة والتنمية لمراجعة نفسه في الكثير من السياسات، الداخلية والخارجية، وعلاج أوجه القصور في محاولة لاستعادة شعبيته مرة أخرى، وفي المقابل لا شك أن المعارضة لن تركن للراحة كذلك، بل ستعمل لتعزيز المكاسب التي حققتها في الانتخابات، لتبقى السنوات المقبلة ساحة قوية للتنافس والعمل الجاد.