هذه السنة الرابعة من حرب اليمن، وقد طُويت صفحتها منذ أيام قليلة، كانت خلالها تكلفة الحرب قاسية على السعودية، قائدة التحالف العربي، لكنها أشد قسوة على اليمنيين الصغار، فمنهم من وُلد في الحرب ومن كَبُر قليلاً، وكثيرون آخرون لا يصعدون الحافلات إلى مدرسة أو منتزة، بل إلى حرب يذهبون إليها، أو تأتيهم هي على شكل غارة أو صاروخ، يموتون جائعين أو مقتولين أو قاتلين.
ما زالت فصول جديدة تتكشف من هذه الحرب، فقد أصبح تجنيد أطفال اليمن السياسة الممنهجة لقوات التحالف بقيادة السعودية والإمارات، الأمر الذي يكشف استغلال المملكة العربية السعودية للوضع المعيشي اليمني المتدهور لإنجاح مخططاتها وتجند الأطفال اليمنيين بطرق خفية للدفاع عنها.
البحث عن الحياة في أماكن الموت
في الهاوية العميقة، وفي ظل الخراب الكبير الذي يسكن اليمن، جرى الترويج مؤخرًا لمنطقة جغرافية تسمى “البُقع”، وهي أحد المنافذ البرية التي تربط السعودية باليمن، تدور فيها معارك طاحنة بين جماعة الحوثي والتحالف السعودي الإماراتي وجيش “الشرعية”، وتبعد نحو 150 كيلومترًا عن صعدة ومئة كيلومتر عن نجران، وهي أحد المنافذ البرية التي تربط بين اليمن والسعودية.
دفعت الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها اليمن بسبب الحرب الجميع للبحث عن مصدر دخل مهما كان الثمن
مقابل حفنة من الريالات تتراوح بين 1500 و3000 ريال سعودي يقتنص السماسرة المحليين كل يوم فرصة للتغرير بأطفال دفعهم ضيق العيش لترك ذويهم وحمل السلاح دفاعًا عن حدود المملكة العربية السعودية من التقدم الحوثي تجاهها، وبعد أن يصبحوا جنودًا وهميين في صفوف التحالف السعودي الإماراتي وجيش الشرعية يواجهون مصيرًا مجهولاً.
دفعت الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها اليمن بسبب الحرب الجميع للبحث عن مصدر دخل مهما كان الثمن، وتحت ضغط الحاجة وإغراءات السماسرة يتسابق الأطفال والشباب إلى اتخاذ قرار المخاطرة، فيذهبون إلى منطقة “البقع” لأنهم يحصلون على مردود مادي يعيلون به أسرهم، خاصة مع عدم توافر الأعمال وتخريب كل شيء والحصار المفروض على المنافذ والموانئ اليمنية، يضطر الناس بعد ذلك إلى الذهاب للبقع وبيع أنفسهم.
تبدأ القصة مع وصول الطفل اليمني الصف التاسع، أي يبلغ من العمر 15 سنة، حينها تمنحه المدرسة رقم جلوس كبطاقة تعريفية تسمح له بدخول منفذ الوديعة، وإذا لم يكن بحوزة الطفل رقم جلوس فتصدر له بطاقة عسكرية غير رسمية، الأمر الذي زاد أعداد السماسرة، وخلق سوقًا يمكن لأي فرد المتاجرة فيه بأطفال تركوا مقاعد الدراسة بحثًا عن عمل.
وبحسب شهادات كشفها تحقيق “الجزيرة“، تبدأ السمسرة من الأسواق أو بعض الناس الذين يستقطبون عددًا من الأشخاص، ثم يرتبون الاتصال مع إحدى الحافلات، ويتولى الإنفاق عليهم إما السمسار أو سائقو الحافلان، ثم يوصلونهم إلى منطقة المعارك بعد أن يجمعوا الأوراق الثبوتية، ويسلموها لأحد الأشخاص، ويستلمون عن كل طفل 500 ريال سعودي، ثم يستلم الطرف الثاني ألف ريال سعودي ويسلمهم لطرف ثالث، مع احتجاز الأوراق الثبوتية التابعة للمجموعة، وهو بدوره يستلم عن كل شخص 1500 ريال سعودي، ثم يزج بهم في المعارك بعد ذلك.
كيف يتم استقطاب الأطفال؟
تتبعت قناة “الجزيرة” في تحقيق بثته مؤخرًا، مصير طفلين تم استقطابهما إلى جبهات القتال للدفاع عن حدود السعودية، وفي التحقيق حصلت الجزيرة على شهادات من أحمد النقيب، وهو طفل مقاتل سابق في قوات التحالف خاطر بحياته من أجل المال، وألقت به السعودية في الحرب المستعرة دون أي تدريب.
من مدينة تعز في رحلة برية تستغرق أيامًا عبر حافلات السماسرة، لم يهرب أحمد النقيب وحده، بل هرب محمد علي محمد الحميد أيضًا، في رحلتين منفصلتين، وكلاهما لم يتجاوز 16 عامًا، وذلك من خلال مسارات وطرق بعيدة عن سيطرة الحوثيين، متجهيْن إلى منفذ الوديعة الحدودي مع السعودية.
وفي ضوء هذه المعاملة والزج بالأطفال في الحرب وسياسة بيع الأرواح، قرر أحمد الفرار من القتل في إحدى المعارك والعودة إلى دياره في تعز بعدما اكتشف الخديعة مبكرًا وكشفها لذويه، لكنه لم يكن يتخيل يومًا أن تكون هذه المعلومات يومًا سببًا في مقتله، فقد انتهت حياته بطلقة غادرة في الرأس من إحدى الميليشيات في تعز، أنهت نضاله من أجل الحياة في يمن حوله تجار الحرب إلى مقبرة.
بينما محمد الولد الذي أفلت من الموت بعد وفاة 6 من أخوته بظروف المرض والولادة، أصبح جنديًا طفلاً على الحدود السعودية بعدما ترك الدراسة واتجه للعمل، ولم يتصل بأهله منذ شهور، ولم يعد يراه أحد إلا في الصورة المعلقة على الجدار، ليعلم والده نهاية المطاف أنه غُرر به للقتال ضد جماعة الحوثي من أجل المال.
سبب استغلال هؤلاء الأطفال من السعودية هو انخفاض التكلفة على الرياض مقابل الجندي السعودي باهظ الثمن
وفي محاولة لتتبع مصير الطفل محمد، استطاع فريق التحقيق الاطلاع على نسخة سرية من كشف سري قدمته الشرعية في اتفاق السويد يوثق أسماء المعتقلين لدى الحوثيين، لكن اسمه لم يكن موجودًا، فمصيره بين احتمالين، إمَّا أنه مات أو مفقود.
محمد علي محمد الحميد واحد من عشرات الأطفال الذين غامروا بحياتهم مقابل لقمة العيش، فقريته الصغيرة عرفت خروج عدد من أقرانه خلال فترة زمنية وجيزة، لكن “لا توجد إحصائية دقيقة لأعداد المدنيين والأطفال في تلك المعارك بسبب عدم قدرة المنظمات الدولية على الوصول إلى تلك الجبهات، لكنهم يقدرون بالآلاف”، بحسب توفيق الحميدي من منظمة سام لحقوق الإنسان.
الطفل الجندي رخيص الثمن
لم تتمكن السعودية من حماية حدودها من هجمات الحوثيين، فلجأت لتجنيد المدنيين والأطفال بطرق ملتوية من داخل وخارج اليمن، وتوظيفهم للدفاع عنها في البقع وكتاف وعلب وباقي المنافذ الحدودية للمملكة العربية السعودية.
يثير ذلك تساؤل مهم عن الأسباب التي تدفع السعودية للاستعانة بمقاتلين يمنيين بدلاً من الاعتماد على جنودها في حماية الحدود، وقد تكون الإجابة على موقع وزارة الدفاع السعودية؛ ففي حال قتل الجندي السعودي، تُمنح مساعدة عاجلة لأهله بقيمة مئة ألف ريال، ويُصرف لأسرته تعويض بقيمة مليون ريال سعودي، إضافة إلى الالتزامات الأخرى التي تتكفل بها الحكومة السعودية.
في فضيحة تكبر وتدق بقوة أبواب الحكومة البريطانية، نشرت صحيفة “ديلي ميل” البريطانية صورًا لأطفال تجندهم السعودية والإمارات للقتال في اليمن
هنا يبدو من المنطقي أن تزج السعودية بأطفال يتم شراؤهم بثمن بخس لرميهم في الصفوف الأولى من الجبهات، دون تدريبهم وتأهيلهم، إذ يبدو واضخًا أن سبب استغلال هؤلاء الأطفال من السعودية هو انخفاض التكلفة على الرياض مقابل الجندي السعودي باهظ الثمن الذي يكلف خزينة المملكة أكثر من مليون ريال سعودي في حال وفاته، لذلك كان لزامًا عليهم إيجاد بديل أرخص قد لا يكلف 15 ألف ريال.
ترفض الرياض الكشف عن أرقام دقيقة لعدد القتلى في صفوف قواتها منذ بداية الحرب التي تستنزف جميع الأطراف، لكن إحصاءات سعودية رسمية تقول إن قتلى الجيش السعودي في مواجهات الحد الجنوبي زادوا على 40 منذ مايو الماضي، في حين تقول مصادر إن عدد القتلى 4 أضعاف الرقم المعلن.
ولي العهد محمد بن سلمان في استقبال بعض أبناء الضباط الذين قتلوا على الحدود الجنوبية
صادقت السعودية على البروتوكول الخاص بعدم إشراك الأطفال في الحروب عام 2011، ويحدد البروتوكول المقصود بالطفل هو “كل إنسان يقل عمره عن 18 سنة ما لم يكن بلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق على الطفل”، لكنها اُتهمت مؤخرًا بتجنيد الأطفال، واستغلال حاجة الفقراء في حربها على اليمن، واليوم تجند السعودية الأطفال اليمنيين بطرق خفية للدفاع عنها.
رغم ذلك تنفي السعودية تجنيد الأطفال في حربها باليمن، وتتهم الحوثيين باستغلال الوضع المعيشي للأسر اليمنية كي تجند أطفالها، بل تتحدث وسائل الإعلام السعودية عن جهود مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية في إعادة تأهيل الأطفال اليمنيين الذين جندتهم ميليشيات الحوثي وزجت بهم في جبهات القتال، وذلك لإزالة الأضرار النفسية التي أصابتهم تمهيدًا لإعادتهم إلى أسرهم.
بندقية قد يفوق طولها طول حاملها
في فضيحة تكبر وتدق بقوة أبواب الحكومة البريطانية، نشرت صحيفة “ديلي ميل” البريطانية صورًا لأطفال تجندهم السعودية والإمارات للقتال في اليمن، إذ تتحدث الصحيفة عن مشاركة قوات بريطانية في الحرب، وعن إمكان تورطها في ضربات جوية لأهداف مدنية منها مستشفى أطفال في اليمن.
قبل 3 أشهر كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية استقدام التحالف السعودي الإماراتي قُصَّرًا من دارفور في السودان وإرسالهم إلى جبهات القتال الأمامية
فيما تحدثت “الغارديان” البريطانية أيضًا عن شكوك بأن تكون قوات بريطانية تشارك في تدريب أطفال يمنيين على القتال، ونقلت عن وزير الدولة البريطاني للشؤون الآسيوية مارك فيلد قوله: “هناك تقارير تشير إلى أن 40% من جنود قوات التحالف السعودي في اليمن من الأطفال”.
هؤلاء الأطفال المساقون إلى حتفهم بحفنة ريالات يأتون من أرض اليمن ومن بعيد أيضًا، فقبل 3 أشهر كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية عن استقدام التحالف السعودي الإماراتي قُصَّرًا من دارفور في السودان وإرسالهم إلى جبهات القتال الأمامية.
تقارير عن مشاركة #بريطانيا في حرب اليمن وتجنيدها لمئات الأطفال في الجنوب ضد الحوثي، حكومة ماي قد تتعرض لأزمة إذا ثبتت صحة التقارير تُضاف لأزماتها السابقة في مشكلة الخروج من الاتحاد، ربما هذه التقارير كانت رداً على زيارة مسئولي الدولة لمدينة #عدن مؤخرا لإثبات تورطها في جرائم الحرب
— سامح عسكر (@sameh_asker) March 27, 2019
ولأن تجديد من هم دون 18 يرقى في القانون الدولي إلى جرائم حرب، تحركت الأمم المتحدة وطلبت من صحيفة “ديلي ميل” ما لديها من وثائق تدعم ما تقوله، ووافقت الصحيفة على ذلك، فهل يُمكن أن تُولد لجنة تحقيق لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الطفولة المهدورة والمغدورة في اليمن؟
تتشارك أطراف الحرب المسؤولية، فجماعة الحوثي متهمة دوليًا بتجنيد أطفال للقتال، وإن تمثلت دوافعها في التعبئة الإيدلوجية أكثر من الإغراء المال، بيد أن تورط التحالف الذي يمثل دولاً وحكومات من شأنه أن يضع الكل في مرتبة واحدة، فأن تفعل دولة ما تفعله ميليشيا صفعة كبرى للدولة.
وتفتح تلك التقارير سيل الشكوك عن الواقع الميداني الذي يدفع التحالف لرشوة زعماء القبائل وطلب الأطفال منهم مقابل المال، كما تقول الصحيفة، كما سيدفع ذلك الكتَّاب للبحث عن اسم يُطلق على “القاصر فاقد الإرداة والأهلية” المجند لأمر يُسمى البالغون إن فعلوه “مرتزقة”.
كما يدفع ذلك للتساؤل عن الحاجة أيضًا للمرتزقة في وجود قوات التحالف الخائضة في حرب تزيد كلفتها على 80 مليار دولار في السنة دون أن تربح، ولا يرى منها اليمنيون صغار ولا كبار إلا الموت بكل ألوانه، أحمر بالرصاص، أصفر بالكوليرا، أسود بالجوع.