خنع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أخيرًا مساء الثلاثاء الـ2 من أبريل/نيسان لمطالب الجزائريين الذين باشروا منذ جمعة 22 من فبراير/شباط الماضي حراكًا شعبيًا يطالب برحيل الرئيس ونظامه، وذلك بعد مقاومة استمرت 39 يومًا عدها الجزائريون بالساعات والدقائق، ففي كل لحظة كانت البلاد تعرف تطورات تميل مرة لمعسكر بوتفليقة ومرة للمطالبين برحيله، لكن أيام قبل التنحي وساعات قبل الاستقالة كانت تشير جلها إلى أن موعد التتويج بلقب رئيس سابق قد آن، فماذا تضمنت الساعات الأخيرة من تفاصيل؟
بهذه الاستقالة يكون بوتفليقة قد غادر منصبه مكرهًا قبل 26 يومًا من انتهاء ولايته الحاليّة، وهو الذي أودع في 3 من مارس الماضي ملف ترشحه لولاية خامسة، قبل أن يتخلى عن جنون السلطة هذا بمقترح لتمديد ولايته الرابعة، لكن رفض الجزائريين الذين عاشوا الأمرين خاصة في عهدته الأخيرة لكل مقترحاته جعله لا يرى مخرجًا له سوى التنحي.
تنحٍ مؤجل
بعد كشف تفاصيل الاجتماع الذي جرى السبت الماضي 30 من مارس الذي دار بين السعيد بوتفليقة ورئيس المخابرات السابق محمد مدين المعروف باسم الجنرال توفيق، ومباشرة الجهات القضائية في إصدار قرارات المنع من السفر لرجال الأعمال المنتمين للكارتل المالي الذي دعم نظام الرئيس بوتفليقة، اضطر الأخير إلى أن يلعب مساء الإثنين بآخر أوراقه خاصة بعد أن تأكد أن الجيش بقيادة رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح تخلى عن دعم الرئيس المطالب بالرحيل فورًا من الحراك الشعبي.
كان باديًا منذ مساء الإثنين أن معسكر بوتفليقة قد وهن وبقاءه في السلطة سيزيده وهنًا، لأن نتيجة المباراة كانت تسير نحو فوز المؤسسة العسكرية في هجومها على من أسمتهم العصابة التي تحاول القفز على مواد الدستور
ومساء الإثنين، نقلت وكالة الأنباء الجزائرية بيانًا للرئاسة الجزائرية جاء فيه أنه “بعد تعيينه للحكومة الجديدة، يوم 31 من مارس 2019، سيتولى رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، إصدار قرارات مهمة طبقا للأحكام الدستورية قصد ضمان استمرارية سير مؤسسات الدولة أثناء الفترة الانتقالية التي ستنطلق اعتبارًا من التاريخ الذي سيقرر فيه استقالته”، وأضاف البيان “ستتم استقالة رئيس الجمهورية قبل نهاية عهدته الانتخابية المحددة في يوم الأحد 28 من أبريل”.
غير أن وسائل إعلام جزائرية سرعان ما نقلت عن مصادر غير معلنة تشكيكها في كتابة بوتفليقة لهذا البيان، واتهمت ضمنيًا شقيقه المتهم بسرقة ختم رئاسة الجمهورية بصياغته بهدف الالتفاف على مطالب الشعب وربح بعض الوقت للتصدي للحرب التي أعلنتها قيادة الجيش عليه.
وكان باديًا منذ مساء الإثنين أن معسكر بوتفليقة قد وهن وبقاءه في السلطة سيزيده وهنًا، لأن نتيجة المباراة كانت تسير نحو فوز المؤسسة العسكرية في هجومها على من أسمتهم العصابة التي تحاول القفز على مواد الدستور خاصة ما تعلق بالمواد 7 و8 و102.
رسالة زروال
في حدود الواحدة والنصف زوالاً بالتوقيت الجزائري، تصل قاعات تحرير الصحف والتليفزيونات الجزائرية رسالة للرئيس السابق اليامين زروال الذي يحظى بمصداقية كبيرة نظرًا لتخليه عن السياسة في 1999، ورفضه بعدها لكل دعوة أو امتياز رسمي.
شكلت رسالة الرئيس السابق ضربة غير منتظرة لمعسكر بوتفليقة الذي فقد بذلك أي ورقة للمناورة، بعد أن أكد كلام زروال التحذيرات التي أطلقتها المؤسسة العسكرية بخصوص اجتماع السبت
أكدت الرسالة ما حذرت منه قيادة الجيش بشأن اجتماع مشبوه لقوى غير دستورية يمثله السعيد شقيق الرئيس بوتفليقة والجنرال توفيق، وهما لا يشكلان جهة رسمية حتى ينظرا في مستقبل البلاد.
وقال زروال: “ككل الجزائريين شدتني قوة المسيرات الحاشدة المنظمة من قبل الشعب الجزائري، مسيرات ساندتها منذ اللحظات الأولى، وأنا أيضًا مثلكم جميعًا قلق من غياب رد سياسي في مستوى هذه المطالب الديمقراطية المشروعة”، وأضاف “منذ الاستقلال نظامنا السياسي لم يعرف كيفية الاستماع للشعب والتجدد، وتحديث نفسه والارتقاء لمستوى تطلعات شعب عظيم، الذي يوم 22 فيفري لم يضيع موعده مع الديمقراطية وللتصالح مع تاريخه، فكما تعلمون منذ 2004 أرفض كل الدعوات السياسية وفي كل مرة أطلب بتنظيم تداول يسمح ببزوغ أجيال جديدة لي فيها ثقة كاملة وعملت دائمًا على تشجيعها”.
وأردف قائلاً “بداعي الشفافية وواجب احترام الحقيقة، أود أن أعلم أنني استقبلت يوم 30 مارس – بطلب منه – الفريق المتقاعد محمد مدين الذي حمل لي اقتراحًا لرئاسة هيئة مكلفة بتسيير المرحلة الانتقالية، وأكد لي أن الاقتراح تم بالاتفاق مع السعيد بوتفليقة، مستشار لدى الرئاسة، فعبرت لمحدثي عن ثقتي الكاملة في الملايين من المتظاهرين وكذا ضرورة عدم عرقلة مسيرة الشعب الذي استعاد السيطرة على مصيره”.
وختم زروال رسالته قائلاً: “اليوم وأمام خطورة الوضعية يجب على أصحاب القرار التحلي بالعقل والارتقاء لمستوى شعبنا لتفادي أي انزلاق تكون له عواقب غير محسوبة العواقب للبلاد وترك الجزائريين يعبرون بحرية وفرض إرادة الشعب”.
بعد ما حملته رسالة زروال من معطيات أكدت ما حذر منه الجيش، كان الجميع ينتظر ما سيخرج به اجتماع رئيس الأركان بقادة القوات والنواحي العسكرية المختلفة
شكلت رسالة الرئيس السابق ضربة غير منتظرة لمعسكر بوتفليقة الذي فقد بذلك أي ورقة للمناورة، بعد أن أكد كلام زروال التحذيرات التي أطلقتها المؤسسة العسكرية بخصوص اجتماع السبت.
الجيش يتوعد
بعد ما حملته رسالة زروال من معطيات أكدت ما حذر منه الجيش، كان الجميع ينتظر ما سيخرج به اجتماع رئيس الأركان بقادة القوات والنواحي العسكرية المختلفة الذي جاء في حدود السادسة مساءً و25 دقيقة من يوم الثلاثاء، وحمل كلامًا صريحًا من طرف قائد الجيش، عبر بيان لوزارة الدفاع.
وأوضحت وزارة الدفاع أن الاجتماع يندرج في إطار متابعة التطورات المرتبطة بالاقتراح الذي تقدم به الجيش الوطني الشعبي الرامي إلى تفعيل المواد 7 و8 و102 من الدستور.
وقال رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح خلال الاجتماع: “لقد استحسن الشعب الجزائري ورحب بهذا المسعى الذي رأى فيه بادرة خير وأمل للخروج من الأزمة، لكن مع الأسف الشديد قوبل هذا المسعى بالتماطل والتعنت بل والتحايل من قبل أشخاص يعملون على إطالة عمر الأزمة وتعقيدها، والذين لا يهمهم سوى الحفاظ على مصالحهم الشخصية الضيقة غير مكترثين بمصالح الشعب وبمصير البلاد”، ويشير قايد صالح في هذه الفقرة إلى السعيد بوتفليقة وتعاونه مع الفريق محمد مدين للعمل خارج الأطر الدستورية.
قال رئيس الأركان في بيان قبل استقالة بوتفليقة: “في الوقت الذي كان الشعب الجزائري ينتظر بفارغ الصبر الاستجابة لمطالبه المشروعة، صدر يوم الفاتح من أبريل بيان منسوب لرئيس الجمهورية، لكنه في الحقيقة صدر عن جهات غير دستورية وغير مخولة”
وقال قايد صالح: “المساعي المبذولة من الجيش الوطني الشعبي منذ بداية الأزمة وانحيازه الكلي إلى المطالب الشعبية، تؤكد أن طموحه الوحيد هو السهر على الحفاظ على النهج الدستوري للدولة، وضمان أمن واستقرار البلاد وحماية الشعب من العصابة التي استولت بغير وجه حق على مقدرات الشعب الجزائري، وهي الآن بصدد الالتفاف على مطالبه المشروعة من خلال اعتماد مخططات مشبوهة، ترمي إلى زعزعة استقرار البلاد والدفع بها نحو الوقوع في فخ الفراغ الدستوري”.
وبخصوص عمليات النهب التي عاشتها البلاد، وتبذير مقدراتها الاقتصادية والمالية فقد تساءل قايد صالح كيف تمكنت هذه العصابة من تكوين ثروات طائلة بطرق غير شرعية وفي وقت قصير، دون رقيب ولا حسيب، مستغلة قربها من بعض مراكز القرار المشبوهة، وتحاول هذه الأيام تهريب هذه الأموال المنهوبة والفرار إلى الخارج.
وقال رئيس الأركان في بيان قبل استقالة بوتفليقة: “في الوقت الذي كان الشعب الجزائري ينتظر بفارغ الصبر الاستجابة لمطالبه المشروعة، صدر يوم الفاتح من أبريل بيان منسوب لرئيس الجمهورية، لكنه في الحقيقة صدر عن جهات غير دستورية وغير مخولة، يتحدث عن اتخاذ قرارات هامة تخص المرحلة الانتقالية، وفي هذا الصدد بالذات، نؤكد أن أي قرار يتخذ خارج الإطار الدستوري مرفوض جملة وتفصيلاً”.
وبين قايد صالح أن “الاجتماعات المشبوهة التي تعقد في الخفاء من أجل التآمر على مطالب الشعب وتبني حلول مزعومة خارج نطاق الدستور من أجل عرقلة مساعي الجيش ومقترحاته لحل الأزمة وبالتالي تأزيم الوضع أكثر فأكثر، كل هذا تم بتنسيق الجهات غير الدستورية، إلا أن بعض هذه الأطراف خرجت تحاول عبثًا نفي وجودها في هذه الاجتماعات ومغالطة الرأي العام، رغم وجود أدلة قطعية تثبت هذه الوقائع المغرضة”.
أكدت رسالة رئيس الأركان أن الجيش لن يتراجع إلى الوراء رغم الحملة الإلكترونية التي حاولت بعض المواقع الإلكترونية الوهمية الإساءة إليه من خلالها
وجدد قايد صالح مواقفه السابقة المتعلقة بانحيازه للشعب بالقول: “لقد أكدت في العديد من المرات على أنني بصفتي مجاهد كافحت بالأمس المستعمر الغاشم وعايشت معاناة الشعب في تلك الفترة العصيبة، لا يمكنني السكوت عن ما يحاك ضد هذا الشعب من مؤامرات ودسائس دنيئة من طرف عصابة امتهنت الغش والتدليس والخداع، ومن أجل ذلك فأنا في صفه وإلى جانبه في السراء والضراء، كما كنت بالأمس، وأتعهد أمام الله والوطن والشعب أنني لن أدخر جهدًا في سبيل ذلك، مهما كلفني الأمر”، وختم قايد صالح كلامه قائلاً: “نؤمن يقينًا أن الأشخاص مهما طال الأمد فمصيرها إلى الزوال، أما الوطن فهو باق إلى الأبد”.
وأكدت رسالة رئيس الأركان أن الجيش لن يتراجع إلى الوراء رغم الحملة الإلكترونية التي حاولت بعض المواقع الإلكترونية الوهمية الإساءة إليه من خلالها.
الاستقالة
وبعد ساعتين من رسالة الجيش التي حملت خطابًا مضمونه أنه لا تراجع إلى الخلف، أوردت وكالة الأنباء الجزائرية برقية عاجلة مفادها أن بوتفليقة أنهى عهدته الحاليّة وقرر الاستقالة قبل انتهاء ولايته.
وبلغ بوتفليقة الثلاثاء المجلس الدستوري قرار إنهاء عهدته بصفة رئيس للجمهورية عبر رسالة جاء فيها: “يشرفني أن أنهي رسميًا إلى علمكم أنني قررت إنهاء عهدتي بصفتي رئيس الجمهورية، وذلك اعتبارًا من تاريخ اليوم الثلاثاء”، وأضاف قائلاً “قصدي من اتخاذي هذا القرار إيمانًا واحتسابًا، هو الإسهام في تهدئة نفوس مواطني وعقولهم لكي يتأتى لهم الانتقال جماعيًا بالجزائر إلى المستقبل الأفضل الذي يطمحون إليه طموحًا مشروعًا”.
بالنسبة للجزائريين فإن رحيل الرئيس بوتفليقة هو بداية أولى في معركة تغيير النظام، التي لن تكون سهلة في ظل وجود حراك شعبي يبقى لحد الآن غير منظم
وجاء بيان الجيش بعد لحظات قليلة من إعلان المعارضة رفضها لكل ما يصدر عن الرئاسة كونها تفتقد للشرعية الشعبية، وهو ما أظهر أن قائد الأركان لن يتراجع خطوة للوراء في حملته ضد رؤوس الفساد وعصابة الكارتل المالي.
وبعدها، ظهر الرئيس بوتفليقة عبر التليفزيون العمومي وهو يقدم قرار استقالته لرئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز، وبحضور رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح الذي سيخلف بوتفليقة في هرم السلطة وفق المادة 102 من الدستور.
وبالنسبة للجزائريين فإن رحيل الرئيس بوتفليقة هو بداية أولى في معركة تغيير النظام، التي لن تكون سهلة في ظل وجود حراك شعبي يبقى لحد الآن غير منظم، وفي وجود مخارج دستورية محدودة لا تتيح حلولاً كثيرة للخروج من الأزمة الحاليّة.