في الوقت الذي يشهد فيه العالم تقدّمًا واضحًا وملحوظًا في أساليب العلاج والوقاية من الأمراض، لا يزال الكثير من الناس يصرّون على زيف العلم والطبّ وخداعهما في بعض المجالات. وقد خرجت واحدة من أكثر الآراء المثيرة للجدل في عالم الصحة والطب بخصوص ضرورة ونجاعة اللقاحات والتطعيمات ضدّ بعض الأمراض بما فيها الجدري وشلل الأطفال والحصبة الألمانية وغيرها.
إذ يرفض العديد من الأشخاص في العقدين الأخيرين تلقيح أطفالهم بناءً على عددٍ من المعتقدات والأفكار التي يؤمنون بها، قد يكون آخرها هو الزعم بأنّ اللقاحات تؤدّي لمرض التوحّد، وهو الادّعاء الذي يدحضه الإجماع العلميّ والطبيّ كليًّا. وتشهد حركة مكافحة التطعيمات هذه نموًّا متزايدًا في كلٍّ من أوروبا وأمريكا وأستراليا، فالكثير من الآباء يرفضون إعطاء أطفالهم التطعيمات الإلزامية في المدارس، كما يرفض أصحاب الحيوانات الأليفة تحصين كلابهم أو قططهم تبعًا للفكرة نفسها.
فيما يرى بعض أولئك المناهضين أنّ إلزام الأهل بما يقارب العشرة لقاحات لأطفالهم الصغار هو المشكلة. فهذا العدد كثير برأيهم ويتمّ في وقتٍ مبكّر للغاية من العمر، في حين أنّهم لم يكونوا بحاجة إلى هذا العدد في الماضي. وهم بذلك يخشون من أن لا تحتمل أجهزة المناعة عند أطفالهم عدد الجرعات وتطوّر مضاعفات أسوأ.
تزعم الحركة المناهضة للقاحات والتطعيمات بأنها تؤدّي لمرض التوحّد عند الأطفال
أدت تلك الحملات بمرض الحصبة إلى التفشّي في أمريكا للمرة الأولى منذ الإعلان عن القضاء على المرض عام 2000. إذ أشارت الإحصائيات الصادرة عن المراكز الأمريكية لمراقبة والوقاية من الأمراض إلى تسجيل 290 حالة مؤكّدة في 15 ولاية أمريكية منذ بداية العام الجاري وحتى نهاية شهر آذار/مارس الماضي. ونتيجة لذلك، قامت منظمة الصحة العالمية باعتبار الحركة المناهضة للتلقيحات كواحدة من أكبر عشرة تهديدات صحية عالمية في عام 2019، عدا عن أنّ بعض الولايات والدول في العالم قد أعلنت حالة الطوارئ في مواجهة المرض داعية إلى حظر ارتياد الأطفال غير الملقحين ضده للأماكن العامة.
المؤامرة واللقاحات: وسيلة لجني المال والسيطرة
على عكس ما يعتقد البعض، فتاريخ هذه الحركات لا يقتصر فقط على الفترة الأخيرة وحسب، بل ترجع أصولها إلى القرن التاسع عشر تقريبًا في بريطانيا، حيث كان اللقاح ضدّ الجدري هو اللقاح الوحيد المتاح للشعب على نطاقٍ واسع، ويتمّ عن طريق إحداث جروحٍ عميقة في ذراع الطفل لإدخال عيّنة من جرح طفل تمّ تطعيمه مسبقًا.
في القرن التاسع عشر، خرجت العديد من الأصوات التي تعتبر التطعيم الإجباري ما هو إلا وسيلة لزيادة أرباح الأطباء على حساب العامّة.
بطبيعة الحال، لم يكن من المستبعد أبدًا أنّ تترك تلك الجروح العديد من الأطفال عرضةً للتسمّم والعدوى أو قد يصل بهم الأمر للإصابة بالغرغرينا. فما كان من بعض الآباء والأمّهات سوى رفض تلقيح أطفالهم خوفًا من أيّ مضاعفات لاحقة قد تحدث معهم. ثمّ علت أصواتهم حتى بدأوا بالمطالبة بمقاطعة اللقاحات من خلال الكتابة في الصحف والمجلات المحلّية.
وقد جادلوا في مطالباتهم بأنّ الأطباء والعلماء خدعوا الحكومة لفرض التطعيم الإجباري حتى يتمكنوا من جني المزيد من الفوائد المالية. وبالتالي، خرجت الأصوات التي تعتبر التطعيم الإجباري ما هو إلا وسيلة لزيادة أرباح الأطباء على حساب العامّة. فيما أخذ بعض الناس منحىً أكثر تطرّفًا بإيمانهم بأنّ تلك اللقاحات تهدف إلى الإبادة المطلقة للجنس البشري نتيجة المضاعفات التي تحدث مع الأطفال وقد تؤدي بهم للموت في بعض الأحيان.
يرى البعض أنّ اللقاحات الإجبارية تعدّ تدخّلًا في حقوق المواطنين الأحرار عن طريق الحكومة ومؤسساتها
من جهةٍ ثانية، كانت المقاطعة بالنسبة للكثيرين مرتبطة بحقوق الفرد؛ إذ اعتقدوا أنّ قوانين التطعيم الإجباري ما هي إلّا تدخّل وتوغّل في الحقوق التي يتمتع بها المواطنون الأحرار عن طريق دخول الطبيب -الذي يعمل مع الحكومة- للمنازل والسيطرة على الأطفال وحقنهم سواء وافق الوالدان أم لا.
لماذا يعتقد مناهضو اللقاحات بصوابهم؟
قد يكون تفسير ازدياد شعبية هذه الحركات والدعوات بناءً على عدم إيمانها بالطبّ والأدوية أمرًا غير صحيح لدرجةٍ ما، فالكثير من مناهضي التطعيمات يلجؤون لمسكّنات الألم وغيرها من الأدوية في حال المرض. باختصار، يمكن عزو صعود الحركة إلى ما يسمّيه علماء النفس بالإيمان بالنظريات الشعبية أو النظريات الساذجة حول العالم.
لقيت حركة مناهضة اللقاحات شيوعًا أكبر في السنوات الأخيرة بزيادة شعبية الأحزاب الشعبوية في الغرب؛ فهناك عدم ثقة بالنظام ومؤسساته الطبّية والصحية.
تتنوّع تلك النظريات لتشمل الكثير من المجالات، بما فيها الفيزياء والبيولوجيا وعلم النفس والطبّ والصحة وغيرها. وتعمل بقوّة وإصرارٍ شديدين على مواجهة الحجج العلمية والأدلة المثبتة التي تناقضها وتنفيها بالكامل. وقد لقيت شيوعًا أكبر في السنوات الأخيرة بزيادة شعبية الأحزاب الشعبوية في الغرب؛ فهناك عدم ثقة بالنظام ومؤسساته الطبّية والصحية. عوضًا عن أنّ الحركة المناهضة للتطعيمات قد لاقت دعمًا من حركات سياسية شعبوية تشكّك بالحكومة وشركات الأدوية وتدعم نظرية المؤامرة.
وقد ساعدت مشاركة هذه الآراء على مواقع التواصل الاجتماعي في تزايد شعبية الحركة وإقبال الأفراد على أفكارها. فالعديد من منظّري هذه الحركة يشاركون على حساباتهم عددًا من المعلومات المضلّلة لتصعيد حالة عدم اليقين بين السكان على نطاق أوسع نظرًا لأنّ ملايين الناس اليوم يتخلون عن المصادر الأصلية للمعلومات لصالح مواقع التواصل الاجتماعيّ ومنشوراته وتغريداته.
العديد من الأطّباء والمسؤولين الحكوميّين صرّحوا أنّ مواقع التواصل الاجتماعي هي المنصة الأساسية لمزاعم حركة مكافحة التلقيح المضللة. فعلى الرغم من أنّ أعداد الناشطين المناهضين يمثّلون أقلية صغيرة، إلا أنّ تلك المواقع تجعلهم يبدون وكأنهم أغلبية ذات أصوات مرتفعة. ونتيجة لهذا التطوّر، ما كان من فيسبوك وإنستغرام ويوتيوب سوى حظر نشر تلك المعلومات أو تعطيل الإعلانات المروّجة لها في حساباتها لمنع انتشارها أكثر. كما حظر موقع Pinterest عمليات البحث عن كلمة “اللقاحات” أو ما يرتبط بها، فيما سحبت شركة أمازون الأفلام الوثائقية المضادة للتطعيمات من فهرسها تمامًا.
يمكن عزو صعود حركة مناهضة التطعيمات إلى ما يسمّيه علماء النفس بالإيمان بالنظريات الشعبية أو الساذجة حول العالم
ما يعني أنّ نقص المعلومات والثقافة ليس هو المشكلة بالنهاية. إنما تكمن المشكلة في الطريقة التي يعالج بها الناس هذه المعلومات والتي تدفعهم إلى رفض ما يحاول العلماء إخبارهم به نتيجة العديد من التحيّزات المعرفية التي يتّبعها الدماغ في تعامله مع الأمور التي تحدث من حوله في العالم والناتجة عن معتقداتهم وآرائهم الشخصية البحتة.
باختصار، يمكن فهم الأمر كالآتي: إذا كان الفرد ميّالًا للحصول على معلومات علمية جديدة والإيمان بها فسوف ينظر للمعلومات ويتعامل معها بطريقة إيجابية حتى لو كانت تخالف ما يؤمن به. ولكن إذا حكمته تحيّزاته المعرفية وكانت المعلومات الجديدة تخالف المعلومات الموجودة مسبقًا وتبدّدها، فلن يقبلها أو يؤمن بها أبدًا.
كما يلعب ما يُسمّى في علم النفس بتأثير أو تحيّز السلبية “negativity bias” دورًا في ذلك. إذ أنه من المرجّح أنّ مشاركة القصص والمطالبات والدعوات المناهضة، والتي غالبًا ما تكون مصحوبة بصور عاطفية للأطفال المرضى، بشكلٍ أكبر وأكثر كثافة من مشاركة المحتوى المحايد أو الإيجابي، سيعمل على تضخيم الرسائل المتعلّقة بمخاطر اللقاحات وسلبيّاتها ويجعل الناس يعتقدون أكثر بذلك.
ربما تكون خطوة مواقع التواصل بحظر تلك الدعوات جيّدة كبداية لمنع انتشارها أكثر وأكثر. لكنّنا بالفعل بحاجة إلى جهود حكومية على مستوىً واسع تتخذ التدابير اللازمة لمنع تفشّي الأمراض بدايةً ثمّ تعمل على الحدّ من تلك الأفكار والدعوات بطرقٍ شتى كأنْ تغيّر في القوانين وتحسّن من مصادر المعلومات التي يلجأ إليها الأفراد ومقاومة العلوم الزائفة والشعبية الآخذة بالانتشار مع الوقت.