أنهى الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، مساء أمس الثلاثاء، مسيرة حكمه التي امتدت لأكثر من 20 سنة، بتقديم استقالته على إثر الحراك الشعبي المطالب برحيله وتخلي أبرز حلفائه عنه ومنهم الجيش الذي كان أبرز حليف له وعامود حكمه الفقري، لكن السؤال المطروح الآن: ماذا بعد بوتفليقة؟
تسارع الأحداث
قبل شهر، لم يكن أبرز المتفائلين يتوقع ما حصل أمس، فمعظم المؤشرات كانت توحي باستمرارية النظام بالعهدة الخامسة، فالكارتل المالي يساند بوتفليقة والجيش أيضًا، والنقابات العمالية، حتى أحزاب المعارضة لم يكن بيدها شيء سوى إصدار بيانات التنديد والاستنكار لا أكثر، فالرئيس ومحيطه يسيطرون على كل شيء.
جاء يوم الـ16 من فبراير/شباط الماضي، خرج المئات من المحتجين في مدينة خراطة التي تتركز فيها المعارضة شرق البلاد، وقالوا “لا للعهدة الخامسة”، ظن الجميع أن النظام سيتصدى بقوة للمظاهرة، لكن لم يحصل ذلك، وتكلم المحتجون كثيرًا ثم عادوا إلى بيوتهم.
تكرر الأمر يوم الـ22 من نفس الشهر، لكن هذه المرة الأعداد أكبر والجماهير خرجت في العاصمة التي يمنع فيها التظاهر منذ أكثر من عقد، كانت قوات الأمن تؤمن محيط المظاهرات، لكن قيادة الجيش تصف المحتجين بالمغرر بهم.
تواصل الأمر على هذه الشاكلة، ونفض الشعب الجزائري غبار الخوف عنه وأعلن الانتفاضة على الواقع السائد والمطالبة برحيل النظام، حاول أعمدة النظام التقليل من أهمية هذا الحراك بتصريحات متفرقة لا تغني ولا تسمن من جوع، فالجماهير قررت ألا عودة إلا بتحقيق الهدف المنشود وهو التغيير ورحيل بوتفليقة وجماعته.
سقط بوتفليقة كما سقط غيره، تحت وطأة الأصوات الثائرة وشعارات الرحيل الصارخة من أفواه ملايين الغاضبين من الشعوب العربية
تسارعت الأحداث وتحول الشارع الذي لم يكن له تأثير يذكر إلى لاعب أساسي في المشهد الجزائري، فبدأ محيط الرئيس بالانسحاب تدريجيًا بعد أن فشلت المناورات وسقطت الأطروحة التي قدمها بوتفليقة لإنجاز انتخابات لا يترشح لها في غضون سنة.
تحرك الجيش باتجاه ما يعتبره مسؤولية دستورية وإنقاذ البلد وحماية أمنه وطالب باستقالة الرئيس وتنفيذ المادة 102 من الدستور، بعد أن كان أول المساندين لعبد العزيز بوتفليقة، متهمًا بعض الأطراف التي وصفها بـ”العصابة” في إشارة لمحيط الرئيس بمحاولة إرباك الوضع في البلاد.
كل هذه التطورات، جعلت الرئيس الجزائري بوتفليقة يقدم استقالته، قبل أقل من 20 يومًا من انتهاء ولايته الرابعة، منهيًا بذلك فترة حكم استمرت 20 عامًا بدأت بالمصالحة الوطنية وانتهت برحيل قسري على مقعد متحرك.
دخل بوتفليقة معترك السياسة صغير السن، فقد تقلد منصب وزير الشباب وهو لم يتجاوز 25 ربيعًا، قبل أن يصبح أصغر وزير للخارجية في العالم وهو في الـ26 من العمر، ووصل إلى الحكم سنة 1999، وينظر إليه في الجزائر كمهندس المصالحة الوطنية التي أخرجت البلاد من مرحلة “العشرية السوداء”.
خامس رئيس يسقطه الشعب
استقالة بوتفليقة بعد مكابرة، ليكون بذلك خامس رئيس عربي تسقطه الجماهير الثائرة، لحق بوتفليقة الذي تقلد مناصب عدة في الجزائر قبل أن يتولى حكم البلاد سنة 1999، بالرؤساء العرب المغضوب عليهم من الشعوب التي تطمح إلى التحرر من قبضة الديكتاتورية.
سقط بوتفليقة كما سقط غيره، تحت وطأة الأصوات الثائرة وشعارات الرحيل الصارخة من أفواه ملايين الغاضبين من الشعوب العربية، الغاضبين من سياسات أنظمة ديكتاتورية ظلت جاثمة على صدورهم لعقود عدة تجني فيها الأرباح لصالحهم الشخصي دون إيلاء أي اهتمام للصالح العام.
أحيت استقالة بوتفليقة الربيع العربي
أخيرًا، لحق الرئيس الجزائري المستقيل عبد العزيز بوتفليقة برؤساء تونس ومصر وليبيا واليمن الذي يتوارون قتلاً أو هربًا أو تنحيًا أمام مطارق الجماهير الغاضبة، فالرئيس التونسي هرب إلى السعودية والليبي قتل على يد الثوار والمصري متوارٍ عن الأنظار واليمني لقي نفس مصير الليبي.
برحيل بوتفليقة تحتفل الجماهير الجزائرية بإسقاط رئيسها المغضوب عليه، وتحتفل الشعوب العربية أيضًا باستئناف الربيع العربي الذي انطلق من تونس في ديسمبر/كانون الأول 2010، ومر عبر دول عدة من ليبيا ومصر واليمن وسوريا، وها هو الآن يطرق أبواب السودان.
الشعب يحتفل لكن…
مباشرة إثر إعلان الرئاسة الجزائرية استقالة بوتفليقة، نزل آلاف الجزائريين إلى وسط العاصمة احتفالاً بهذا القرار وتجمع المئات بساحة البريد المركزي بوسط العاصمة حاملين الأعلام الجزائرية ومرددين شعارات تمجد الشعب، فيما أطلق سائقو السيارات العنان لأبواق سياراتهم احتفالاً بانتصار الحراك الشعبي الذي انطلق في 22 من فبراير/شباط الماضي.
لم تكن العاصمة الاستثناء، فقد خرج آلاف الجزائريين في مختلف المدن في مظاهرات مماثلة، احتفالاً باستجابة بوتفليقة لقرارهم، مؤكدين مواصلة المشوار وما هذه الاستقالة إلا بداية الطريق الذي سيسعون فيه إلى تحقيق الديمقراطية المنشودة.
تمثل استقالة عبد العزيز بوتفليقة من منصبه كرئيس للجمهورية، وفق الصحفي الجزائري فاروق حركات “انتصارًا كبيرًا للشعب ولإرادته ولحلمه في التغيير السلمي، لأن الجزائريين كانوا في وقت سابق خارج أي معادلة للتغيير السياسي، وستبقى الإطاحة ببوتفليقة مثالاً في التغيير السلمي لشعوب العالم أجمع”.
وأضاف حركات في تصريح لنون بوست “النظام في الجزائر تهاوى منذ بداية الحراك الشعبي، كون هذه المسيرات الشعبية لم تكن في الحسبان، ومع التصعيد المتواصل بالخروج إلى الشارع من كل الفئات والقطاعات وتقريبًا طيلة أيام الأسبوع، لم تجد عصابة شقيق الرئيس السابق غير الرضوخ والاستسلام للأمر الواقع”.
بدورها تقول الصحفية الجزائرية إيمان علالة التي شاركت في الاحتجاجات الشعبية من بدايتها: “استقالة بوتفليقة تعني أن فخامة الشعب زعزع كيان الحكومة، وهو من حرك الجيش للخروج ببيانات تدعو إلى ضرورة تطبيق كل من المادة 07 و08 و102 من الدستور”.
وتضيف إيمان علالة في تصريح لنون بوست “الشعب دفع الحكومة لإحداث تغيير وزاري رغم لأن التغيير الذي تم لم نرض به لأنه جاء من عند الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة، وكل هذه المحطات تعتبر مهمة في تاريخ الجزائر المجيدة”.
من جهته، يقول أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الجزائرية حسام حمزة: “استقالة بوتفليقة في هذا الظرف هي نهاية متوقعة ومنطقية في ظل معطيات الراهن وتراكمات الأسابيع الست الأخيرة”، وأضاف “هبة الشعب القوية التي عبرت عن رفض حكم بوتفليقة لعهدة جديدة أو حتى تمديد عهدته الحاليّة، ثم السند القوي جدًا الذي تلقاه هذا المطلب من الجيش وقيادته الذي عبر منذ بداية الحراك أن مطالب الشعب شرعية ويجب الاستجابة لها وأنه في صف الشعب حتى يحقق مطالبه، جعلت الرئيس يقدم استقالته”.
تنص المادة 102 من الدستور الجزائري على تولي رئيس مجلس الأمة مهام رئيس الدولة لمدة أقصاها 90 يومًا، تنظم خلالها انتخابات رئاسية
في رسالة استقالته التي نشرتها وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية قال بوتفليقة: “المقصد من اتخاذي هذا القرار إيمانًا واحتسابًا، هو الإسهام في تهدئة نفوس مواطني وعقولهم لكي يتأتى لهم الانتقال جماعيًا بالجزائر إلى المستقبل الأفضل الذي يطمحون إليه طموحًا مشروعًا”، وأضاف أنه أقدم على هذا القرار “حرصًا منه على تفادي ودرء المهاترات اللفظية التي تشوب، ويا للأسف، الوضع الراهن، واجتناب أن تتحول إلى انزلاقات وخيمة المغبة على ضمان حماية الأشخاص والممتلكات، الذي يظل من الاختصاصات الجوهرية للدولة”، وأكد أنه اتخذ “في هذا المنظور، الإجراءات المواتية، عملاً بصلاحياتي الدستورية، وفق ما تقتضيه ديمومة الدولة وسلامة سير مؤسساتها أثناء الفترة الانتقالية التي ستفضي إلى انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية”.
بدء تطبيق المادة 102
يقول أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الجزائرية حسام حمزة: “الجزائر الآن ستتجه مباشرة نحو تطبيق المادة 102 بعد أن أخطر رئيس الجمهورية المجلس الدستوري باستقالته، وتنص المادة المذكورة على أنه بمجرد إثبات الشغور يتولى رئيس مجلس الأمة رئاسة الدولة لمدة 90 يومًا تنظم خلالها انتخابات رئاسية”.
ويشير حمزة في حديثه لنون بوست إلى إشكالين يمكن أن يحدثا وهما: إما رفض الشعب لشخص رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، باعتباره محسوبًا على النظام وجناح الرئيس المستقيل، أو رفض كل من بن صالح ورئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز الذين يحسبان على جناح السعيد بوتفليقة، رئاسة الدولة، وهنا يمكن أن نشهد مماطلة وتعطيلاً في تطبيق المادة 102.
يخشى الجزائريون من التفاف الجيش على مطالبهم
تنص المادة 102 من الدستور الجزائري على تولي رئيس مجلس الأمة مهام رئيس الدولة لمدة أقصاها 90 يومًا، تنظم خلالها انتخابات رئاسية، ولا يحق لرئيس الدولة المعين – وفق نفس المادة – بهذه الطريقة أن يترشح لرئاسة الجمهورية.
وفي حال رفض كل من بن صالح وبلعيز رئاسة البلاد، باعتبار أن السلطة تنتقل من رئيس مجلس الأمة إلى رئيس المجلس الدستوري إذا رفض الأول الرئاسة، يقول حمزة إن منصب الرئاسة سيتجه نحو رئيس المجلس الشعبي الوطني وهو أيضًا غير دستوري ومنبوذ شعبيًا، وهو ما سيمثل مدخلاً للطعن في شرعية الانتخابات القادمة.
ماذا عن الجيش؟
لم يكن الجيش الجزائري في البداية مساندًا للحراك الشعبي، فقد وصف قائد الأركان الفريق قايد صالح المحتجين بالمغرر بهم، قبل أن يتدارك الأمر وينضم إلى صفوف المتظاهرين وينادي بضرورة الاستجابة لمطالبهم واستقالة الرئيس بوتفليقة وفسح المجال أمام استلام الشعب للسلطة.
تموقع الجيش في البداية إلى صف الرئيس المستقيل ثم التحول إلى الحراك الشعبي، جعل الجزائريين يباركون الأمر لكن بحذر كبير، فهم يخشون التفاف الجيش على مطالبهم والعودة إلى نظام الحكم العسكري المباشر أو حكم العسكر وراء رئيس مدني.
وتقول الصحفية الجزائرية إيمان علالة في هذا الشأن لنون بوست: “هناك خشية كبيرة من التفاف الجيش على مطالب شعبنا”، وتضيف “الشعب يطلب من الجيش أن يكون حاميًا له وليس مقررًا ولا حاكمًا، الشعب يريد أن يحقق فعلاً الجمهورية الجزائرية الديمقراطية، مؤكدًا على الديمقراطية التي تعني حكم الشعب”.
وعن سبب خشية الجزائريين من الجيش تقول إيمان: “نحن نبغي التغيير الشامل، وإذا حكم الجيش يعني سنبقى تحت حكم كلاسيكي وكأنه لم نفعل شيئًا، نحن نريد أن يكون هناك أشخاص مترشحين للانتخابات متفق عليهم من الشعب، وتتم انتخابات نزيهة وشفافة تفرز رئيس اختاره الشعب دون غيره”.
يطالب المتظاهرون الذين يسيرون في شوارع العاصمة ومختلف المدن الجزائرية منذ أكثر من شهر بمئات الآلاف أسبوعيًا، برحيل النظام بأكمله
تتهم أوساط جزائرية الجيش بالسيطرة على الحياة العامة في البلاد والتغلغل داخل مؤسسات الدولة وسحق إرادة الشعب، نظرًا لعمله خارج حدود وظيفته، ووجوده كعامل رئيسي ومرجح في أي انتخابات في البلاد أو أي حدث أو مجال آخر، ويعتبر الجيش الجزائري صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في البلاد، فمنذ الاستقلال والجيش يحكم قبضته الحديدية على مقاليد الحكم هناك، فيتحكم في الاقتصاد وينتج الحكام ويطيح بهم متى أراد وبالطريقة التي يريد أيضًا.
في مقابل ذلك أكد الصحفي الجزائري فيصل عثمان أن لا خشية من الجيش حاليًّا، وقال في تصريح لنون بوست: “الجيش مؤسسة ملتزمة بمهامها الدستورية إلى حد الآن وعليها أن تبقى كذلك”، وأضاف “لا أرى أن هناك التفافًا”، لكنه استدرك بالقول “وجب الانتباه إلى أي محاولة للالتفاف على مطالب الشعب”.
استمرار التظاهرات
غموض الوضع في البلاد سيحتم على المحتجين مواصلة حراكهم، وفق العديد من الجزائريين الذين تحدث معهم نون بوست، وأكد عدد من الجزائريين المشاركين في الحراك الشعبي المتواصل منذ أكثر من شهر، نيتهم مواصلة التظاهر رغم استقالة بوتفليقة.
ويرى هؤلاء أن القرار ما زال عند النظام إلى الآن رغم الهزة التي حصلت له وأسفرت عن رحيل بوتفليقة، ويصر الجزائريون على حماية ثورتهم وضمان تحقيق مطالبهم الكاملة وعدم الالتفاف على حراكهم.
ويطالب المتظاهرون الذين يسيرون في شوارع العاصمة ومختلف المدن الجزائرية منذ أكثر من شهر بمئات الآلاف أسبوعيًا، برحيل النظام بأكمله، غير أن ما حصل الآن هو رحيل الرئيس فقط، وباقي النظام ما زال متحكمًا في السلطة ولا ينوي الخروج منها ولا التسليم بالأمر الواقع.
تواصل المظاهرات في المدن الجزائرية
يقول العديد من الجزائريين إن الحراك الحقيقي بدأ للتو، خاصة أن استقالة بوتفليقة لن تغير شيئًا، فهذا الأخير انتهى منذ فترة وليس الحاكم الفعلي، بل المحيطون به هم الذين يديرون الأمور، والدليل على ذلك أن الحكومة التي تركها بوتفليقة وستشرف على تنظيم الانتخابات تمثل النظام.
وأكد فاروق حركات أن الشعب سيخرج في الجمعة السابعة يوم 5 من أبريل/نيسان الحاليّ للمطالبة بتحقيق المطالب المعلقة إلى الآن وهي “رحيل كل من رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، وكذلك الوزير الأول نور الدين بدوي وحكومته، وتعيين شخصية توافقية تلقى إجماعًا عند عموم الجزائريين عبر مشاورات سياسية بين المجتمع المدني وقيادة الأركان والأحزاب، أين سنكون أمام إجراءات سياسية وليس دستورية”.