منذ بداية النزاع في السودان، أثارت جرائم قوات الدعم السريع صدمة كبيرة في المجتمع الدولي، خصوصًا ما يتعلق بالعنف الجنسي ضد النساء، ومع مرور الوقت وتزايد هذه الجرائم، أصبح الحديث عنها أمرًا معتادًا، حيث تعامل الإعلام والمجتمع الدولي مع الانتهاكات كجزء من الواقع اليومي في السودان، دون استغراب كما كان في البداية.
هذا التعود على نوع الجرائم وكثافتها، ساهم في تراجع الاهتمام العالمي، وأدّى إلى “تطبيع” الصمت إزاء ما يحدث من فظاعات، فيما تستمر قوات الدعم السريع في الاعتماد على العنف الجنسي كوسيلة لكسر المدنيين أو تهديدهم به.
إذ وصف وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، توم فليتشر، ما رآه في زيارته الأخيرة للسودان بـ”وباء عنف جنسي” تعيشه النساء السودانيات، منذ بدء الصراع المسلح في أبريل/ نيسان 2023، مشددًا على أن انتشار هذه الجرائم بات في نطاق غير معقول، وأنه يشعر بالخجل من عدم القدرة على حماية السودانيات.
حجم الانتهاكات في ولاية الجزيرة
تعدّ ولاية الجزيرة من أكثر المناطق تضررًا من النزاع في السودان، حيث تفتقر إلى المرافق الأساسية والبنية التحتية الصحية والتعليمية، مما فاقم معاناة سكانها، وبحسب تقرير الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، نزح أكثر من 135 ألف شخص بسبب الهجمات على أكثر من 30 قرية منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
تكون هذه الظروف أشد وطأة على النساء، بسبب ما يتعرضن له من اعتقالات تعسفية واعتداءات جنسية أمام أعين ذويهن أثناء اقتحام القرى أو بعد اقتيادهن إلى أماكن مجهولة لعرضهم للبيع في أسواق مخصصة للنساء المختطفات، يجبرن فيها على تقديم خدمات جنسية للمقاتلين، إذ وثقت الأمم المتحدة حالات الاستعباد الجنسي والاغتصاب الجماعي للنساء الهاربات من مناطق النزاع، حيث تم احتجازهن في ظروف مروعة، بغرض بيعهن في تلك الأسواق، دون أمل في الهروب أو النجاة.
يضاف إلى ذلك عمليات الخطف القسري التي تُجبر النساء على الزواج من المقاتلين أو احتجازهن لفترات طويلة مقابل فدية، حيث أفاد شهود عيان برؤية نساء وفتيات قاصرات مقيدات بسلاسل، يُنقلن على متن سيارات من نوع “بيك أب” في مناطق مختلفة من السودان.
ضاعفت قوات الدعم السريع من بشاعة جرائمها الجنسية بحق النساء في السودان، عبر احتجاز الفتيات اللاتي تظهر عليهن أعراض الحمل في السجون، ليتمَّ قتلهن لاحقًا وأخذ الأطفال الذكور منهم، كما وثقت تقارير حالات قتل لآباء حاولوا حماية بناتهم، بمنع الجنود من دخول المنازل وتفتيشها.
كما كشفت حملة “معًا ضد الاغتصاب والعنف الجنسي” التي انطلقت في مايو/أيار 2024 عن فقدان أثر حوالي نصف مليون امرأة سودانية خلال 18 شهرًا من المعارك، بالإضافة إلى إصابة الناجيات منهن بفيروس نقص المناعة البشرية، ما يرجّح إصابتهن بالعديد من الأمراض المنقولة جنسيًا.
محاولات يائسة للنجاة
تواصل المنظمات الإنسانية بذل جهود حثيثة لتقديم الدعم الطبي والنفسي للناجيات، وخاصة توفير الرعاية السريرية اللازمة لضحايا الاغتصاب، إلا أن التستُّر المجتمعي على هذه الحالات خوفًا من الوصمة الاجتماعية، يقلّل من فرص تلقي المساعدة، ويعيق أيضًا جمع البيانات الدقيقة حول مدى حجم المأساة.
وفي ظل غياب الآليات التي تكفل الحماية الكافية، تتسع دائرة العنف لتشمل المجتمع بأسره، ما يفرض العودة إلى أساليب قديمة كانت تُستخدم في الأزمات والحروب، والتي يراها البعض حلًّا واقعيًا لمواجهة هذه الكوارث.
يأتي التزويج المبكر على رأس هذه الحلول المأساوية، حيث يرى فيه بعض الأهالي حلًّا منطقيًا لحماية بناتهم من خطر الاغتصاب في زمن الحرب، لا سيما الفتيات القاصرات، وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة قد تكون حلًا مؤقتًا، إلا أنها في الحقيقة لا تقي الفتاة من العنف، بل تضاعف معاناتها.
من جهة أخرى، أكدت سارة الجاك، مديرة مركز الفأل الثقافي، أن بعض الفتيات تعرضن للخداع من شباب تقدموا للزواج بمهر مشترك، ما أدى إلى تعرضهن للاغتصاب “بشكل شرعي”، كما أشارت سليمة إسحق، رئيسة مركز مكافحة العنف ضد المرأة، إلى حالات اعتداء مستمرة على نساء، رغم محاولات أمهاتهن التدخل لوقف المعتدي، بينما تضطر بعض الأمهات إلى “فداء” بناتهن أو بنات جيرانهن بأجسادهن، خوفًا من عواقب الاغتصاب النفسية والاجتماعية.
إحدى الحالات التي تعكس الوحشية المستمرة كانت عندما تعرضت فتاة للاغتصاب لساعات رغم توسلات أمها في الغرفة المجاورة، وهو ما يعكس حقيقة مريرة بأن العنف لا يتوقف حتى في وجود من يحاول التدخل لإنقاذ الضحية.
كما ورد عن تقارير من ناشطات سودانيات، أن 134 امرأة في ولاية الجزيرة أقدمن على الانتحار الجماعي في النيل، حال اقتراب قوات الدعم السريع، بهدف تجنُّب العنف الجنسي والاغتصاب والعبودية الجنسية، في مشهد صادم يعكس مدى اليأس الذي وصلن إليه.
هذه الظاهرة ليست جديدة، إذ شهدت الحروب السابقة، مثل حملة الدفتردار الانتقامية عام 1820، اختيار النساء تلويث أنفسهن بفضلات الحيوانات وحلق رؤوسهن لإبعاد المعتدين، وأيضًا رمي أنفسهن في النيل.
سليمة إسحق وصفت الجرائم الجنسية التي ترتكبها قوات الدعم السريع بأنها “ممنهجة ومتكررة” في مناطق مثل الخرطوم ودارفور والجزيرة، مشيرة إلى أن 98% من هذه الجرائم ارتكبها أفراد من قوات الدعم السريع خلال سيطرتهم الميدانية على العديد من المناطق.
وأضافت أن هذه الجرائم لا تحدث في مناطق القتال، بل داخل المنازل، أي بنيّةٍ واضحة وممنهجة لتدمير النسيج الاجتماعي وتدمير المجتمع من الداخل، بدءًا من تفكيك الروابط الأسرية وصولًا إلى وصم الأجيال المستقبلية ونبذها بشكل قاطع.
تؤكد هذه الشهادة، إلى جانب عشرات التقارير الإنسانية والحقوقية الصادرة منذ بداية الاقتتال، أن هذه المعارك تستهدف العنصر البشري في هذه المناطق بشكل منهجي وموجّه، وحيث إن النساء جزء حيوي من النسيج الاجتماعي، فإن جرائم العنف الجنسي وخصوصًا الاغتصاب منها، تعتبر سلاحًا سلطويًا يهدف إلى تدمير المجتمع، ليتجاوز أثره ضرر الجسد الإنساني ويصل إلى كسر الروابط الأسرية والاجتماعية.