على أنغام الحب الإلهي يصدح المنشدون بأعذب الألحان، يُعرها الحاضرون القلوب والأسماع، تتمايل معها الرؤوس شوقا وحنينا، وتلمع الأعين سرورا وابتهاجا، يفترش المارة الطرق، يمينا ويسارًا، كل في فلك يسبحون، فهذا يروي ظمأ شوقه لآل البيت تهليلا وتكبيرًا، وذاك يطلق فؤاده العنان لعل تصيبه نفحة من نفحات السماء..فأنت في حضرة السيدة زينب رضي الله عنها.
في الليلة الكبرى لمولد أم العواجز كما يلقبها المصريون، تتحول الساحة المحيطة بمسجدها وسط العاصمة المصرية القاهرة، إلى لوحة فنية قلما تكتمل أركانها في مشهد واحد، حيث تمتزج ألحان المديح بأصوات الباعة، وتعانق أناشيد الصوفية صرخات الأطفال، وتتداخل خيوط عناقيد الأنوار التي تزين المسجد وماحوله بألوان الحلوى المبهجة فترى ألوان الطيف مجتمعة في صورة تأخذ ناظريها إلى آفاق روحانية أخرى.
قلما تجد شعبا يعشق آل البيت كما المصريون، فحب النبي وآله امتزج بالدماء فبات شريانا يغذي الأرواح قبل العقول، ونهرا خالدًا يعبر أودية الجسد اليابسة فيحولها إلى بساتين يانعة، تخضر فيها أزهار الحب، فيفوح منها عبير الاشتياق على عتبات أضرحة العارفين.
مسجد السيدة زينب
يعد مسجد السيدة زينب في وسط القاهرة أحد أكبر وأشهر مساجد المحروسة وينسب إلى السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجميع، يقع في حي السيدة زينب بالقاهرة حيث أخذ الحي اسمه من صاحبة المقام الموجود في داخل المسجد، وهو يتوسط الحي ويعرف الميدان المقابل للمسجد أيضا بميدان السيدة زينب.
يقال أن المسجد بني فوق قبر السيدة زينب، أخت الحسن والحسين، حيث يروي بعض المؤرخين أن زينب رحلت إلى مصر بعد معركة كربلاء ببضعة أشهر واستقرت بها 9 أشهر ثم ماتت ودفنت حيث المشهد الآن، ويعتبر الحي الذي يقع فيه المسجد من أشهر الأحياء الشعبية بالقاهرة حيث يكتظ بالمقاهي ومطاعم الأكلات الشعبية واعتاد أهل القاهرة خصوصا في رمضان الذهاب إلى مقاهي هذا الحي وتناول وجبات السحور خصوصا هناك.
يستغرق الاحتفال بالمولد قرابة الأسبوع، ويتجاوز الحضور المليون شخص، وفق تقديرات غير رسمية، حيث ينطلق أبناء الطرق الصوفية في تجهيز الميدان وما حوله بالزينة، ونصب الخيام التي تعد مأوى للزائرين والمريدين على مدار أيام الاحتفال
تاريخ إقامة المسجد على وجه التحديد لم يستقر عليها المؤرخون، فلم يتوفر مصدر تاريخي موثوق يشير إلى تاريخ تدشينه، غير أن المراجع أشارت إلى أن علي باشا، والي مصر العثماني، قام عام 1547م بتجديد المسجد ثم أعاد تجديده مرة أخرى الأمير عبد الرحمن كتخدا عام1768م ، وفي عام 1940م قامت وزارة الأوقاف المصرية بهدم المسجد القديم تماما وأقامت المسجد الموجود حاليا.
المسجد يتكون من سبع أروقة موازية لجدار القبلة يتوسطها صحن مربع مغطى بقبة، وفي الجهة المقابلة لجدار القبلة يوجد ضريح السيدة زينب رضي الله عنها محاط بسياج من النحاس الأصفر ويعلوه قبة شامخة، وفي عام 1969 قامت وزارة الأوقاف بمضاعفة مساحة المسجد، بعدما تحول إلى قبلة للمريدين من كل محافظات مصر وخارجها كل عام.
ضريح مسجد السيدة زينب
طقوس وعادات
يتميز الاحتفال بمولد أم العواجز بالعديد من الطقوس والعادات تتشابه في كثير منها مع غيرها من الاحتفالات الصوفية الأخرى كمولد الإمام الحسين وصالح الجعفري والسيدة نفيسة في مساجدهم وسط القاهرة والسيد البدوي بمسجده في مدينة طنطا بمحافظة الغربية (غرب)، وإبراهيم الدسوقي بمحافظة كفر الشيخ (شمال)، والمرسي أبو العباس بالأسكندرية(شمال شرق).
يستغرق الاحتفال بالمولد قرابة الأسبوع، ويتجاوز الحضور المليون شخص، وفق تقديرات غير رسمية، حيث ينطلق أبناء الطرق الصوفية في تجهيز الميدان وما حوله بالزينة، ونصب الخيام التي تعد مأوى للزائرين والمريدين على مدار أيام الاحتفال، ويتنافس المنشدون بالأهازيج والقصائد في حب النبي وآله، ويتحول الميدان إلى سوق عكاظ من نوع آخر بين محترفي المديح في مصر على رأسهم الشيخ ياسين التهامي الذي يعد أكثرهم شهرة ومكانة في قلوب المتصوفة.
اللوحة الفنية الرائعة لم تقف عند هذا الحد، فينما يتمايل زوار البيت على أنغام الحب الإلهي عبر أصوات المنشدين الصداحة، هناك فريق أخر يتكسب من وراء تلك الموالد، التي باتت مصدر رزق أساسي له، فتفترش الطرق والشوارع المجاورة بالحلوى واللعب والهدايا التي تلقى قبولا ورواجا كبيرًا من الزائرين.
فريق آخر قصد أم العواجز في ميلادها بغرض التقرب إلى الله عن طريقها، لاسيما أصحاب الحاجات، من حديثي الزواج والمرضى، تبركا بمقامها بأن ينعم الله عليهم بالذرية الصالحة أو يرفع عنهم الغم والكرب، حيث يتحول الضريح الذي يقال إنها مدفونة بداخله إلى قبلة للآلآف من المريدين أكثرهم من النساء.
ومن أبرز الطقوس التي يعتاد عشرات الأسر المصرية وغير المصرية عليها خلال الاحتفال بالمولد، ما يسمى بالوفاء بالنذور، حيث تذهب تلك الأسر حاملة معاها العديد من الهدايا التي تأخذ صورا مختلفة، منها على شكل ذبائح تقدم وتوزع على الدراويش من عشاق السيدة أو أموال وذهب وشيكات تصرف لحاملها توضع بصندوق النذور بالمسجد.
المولد موسم جيد للبائعين
قبلة المريدين
“تشعر وأنت بين حضرتها أنك في عالم آخر، روحك تسمو فوق البشر، تحس أنك تغسل روحك وتنظف جسدك مما علق به من دنايا الدنيا”.. هكذا أجاب بسيوني رضا، الذي أكد حرصه على المشاركة سنويًا في احتفالات ميلاد السيدة زينب، لافتا إلى أنها متعته الأساسية في هذه الحياة.
بسيوني البالغ من العمر 65 عامًا والمقيم بإحدى قرى مدينة المنصورة (شرق) يضيف في حديثه لـ “نون بوست” أنه يجهز نفسه قبل المولد بأكثر من شهر، حيث يعد الهدايا والنذور وأشهى المأكولات ويصطحب زوجته وأبنائه للإقامة بجوار مقام السيدة طيلة أسبوع الاحتفالات، مؤكدًا أن لم يتخلف عن تلك العادة طيلة 30 عاما الأخيرة.
الباعة وأصحاب المقاهي والمطاعم والمحال القريبة من الميدان، فيعتبرون فترة المولد فرصة جيدة لتعويض حالة الركود طيلة العام
فيما ذهبت أم محمد، عجوز تجاوزت العقود السبع، تقيم في محافظة الشرقية(شرق) إلى أبعد من ذلك، فتشير إلى أنها تحرص كل عام على الذهاب لضريح السيدة للتبرك من أجل زواج ابنتها، لافتة في حديثها لـ”نون بوست” إلى أنها منذ خمس سنوات تقريبا تذهب كل عام على أمل أن يمن الله عليها بزواج ابنتها الوحيدة التي تبلغ من العمر 35 عاما، وهو السن الذي يعد في الأقاليم كبيرًا للغاية.
أما الباعة وأصحاب المقاهي والمطاعم والمحال القريبة من الميدان، فيعتبرون فترة المولد فرصة جيدة لتعويض حالة الركود طيلة العام والمستمرة طيلة السنوات الماضية، حيث تنشط حركة البيع والشراء في هذه الأجواء بصورة تحول ساحة المسجد والمناطق القريبة منه إلى سوق كبير.
وبصرف النظر عن الموقف الشرعي من إقامة مثل هذه الموالد ومدى مصداقية الأقاويل التي تشير إلى بناء المسجد فوق قبر حفيدة الرسول، إلا أن الأجواء هناك في هذا الوقت من كل عام تعبر بالروح إلى آفاق أخرى، فهي لوحة فنية جديرة بالزيارة، وقبلة للباحثين عن الراحة النفسية والهروب من ضغوط الحياة الصعبة.