إذا سألك أحدهم يومًا أين يجتمع الأدب بالوقاحة، فقل له مباشرة في “المكتبة الوطنية الإسرائيلية”، وسيكون جوابك كافيًا جدًّا لأن يفهم كيف يجتمع التراث والثقافة والعلم بالاحتلال والاستلاب والنهب، ويُطلق على هذا المزيج غير المتجانس اسم “المكتبة الوطنية”.
وإن لم يكن هذا الجواب كافيًا، فالسطور القادمة ستكشف لك كيف أن العصابة التي اغتصبت أرضًا وأطلقت عليها اسم “إسرائيل”، لم تقتصر على سرقة الأراضي فقط، بل نهبت أشياءً أخرى وأعطتها تسميات تزيل عنها شبهة السرقة، مبررة ذلك بمهمة نبيلة تحت شعار “حفظ التراث والمعرفة”.
نعود هنا إلى ملف “الاستيطان المدني”، لنسلط الضوء على جانب آخر من شبكة الدعم الصهيوني التي أسهمت في تأسيس دولة الاحتلال، وتعزيز وجودها سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وهذه المرة نمرُّ بين رفوف المكتبة الوطنية الإسرائيلية التي تُعتبر “فخر الثقافة اليهودية”، لتكون أحد الأعمدة الأساسية للصهيونية الثقافية وأدوات تطبيعها الأكاديمي والثقافي مع العالم، بما يعكس الوقاحة الإسرائيلية في استلاب ممتلكات الفلسطينيين المهجّرين من أراضيهم، مع الادّعاء بملكيتها الحصرية والأبدية.
مشروع أمريكي لصهينة التاريخ والتراث
في نهاية عام 1843، تأسّست في مدينة نيويورك واحدة من أقدم المنظمات اليهودية، تحت اسم “إخوة العهد” أو “بني بريث”، واعتمدت هدفًا أساسيًا يقوم على رعاية المجتمع اليهودي المهاجر من ألمانيا، وإنشاء نظام أخوي مشابه لتلك المنظمات القائمة على المحافل الأخوية والعضوية المشروطة.
على مرّ السنين، استخدمت المنظمة أنشطتها وأعضائها للتأثير في السياسة الأمريكية بهدف تحسين أوضاع اليهود في أوروبا، خاصة في ألمانيا، كما ركزت على جمع التراث الأدبي اليهودي من مختلف أنحاء العالم، ففي عام 1851 أسّست أول مكتبة يهودية في الولايات المتحدة تحت اسم “قاعة العهد”، تلاها تأسيس مكتبة أخرى في العام التالي أُطلقت عليها اسم “مكتبة موسى بن ميمون”.
في عام 1868، حقّقت منظمة “إخوة العهد” أول اختراق لها في فلسطين العثمانية من خلال تعاونها مع الصليب الأحمر الأمريكي، حيث نجحت في جمع 4 آلاف و522 دولارًا لمساعدة ضحايا وباء الكوليرا. ومع مرور الوقت، توسعت أنشطتها في المنطقة العربية، فأنشأت محفلًا في القاهرة عام 1887 وآخر في القدس عام 1888 على يد إليعازر بن يهودا، المعروف بـ”أبو اللغة العبرية الحديثة”.
وبذلك أصبحت “إخوة العهد” أول منظمة يهودية تقيم اجتماعات عامة تُعقد باللغة العبرية، متفوقة في هذا المجال على المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقده تيودور هرتزل في بازل بـ 9 سنوات، وعند انعقاد هذا المؤتمر كانت المنظمة قد أعدّت بالفعل أجندتها الخاصة، إذ أسّست فرعًا نسائيًا حمل اسم “منظمة النساء اليهوديات”.
كما أسّست أكثر من 500 منظمة طلابية يهودية في الجامعات، بالإضافة إلى منظمة لليهود في المدارس الثانوية حملت اسم “ألف صادق ألف”، ومنظمتَين للفتيان والفتيات اليهود، ومعسكرَين للأطفال والشبّان اليهود، فضلًا عن مكتب للخدمات والتوجيه المهني.
ورغم الأذرع المتعددة التي أنشأتها “بني بريث”، لم تغفل الحاجة لتأسيس ثقافة يهودية قوية، فبدأت في إطلاق سلسلة من المكتبات اليهودية في القدس على يد أعضاء محفل “بني بريث”، إلا أن تلك المبادرة لم تنجح بشكل كامل بسبب نقص التمويل.
في عام 1884، أعادت منظمة “بني بريث” محاولاتها لتأسيس مكتبة يهودية، حيث ضمّت المكتبة الجديدة 1200 مجلد، وفي السياق نفس أسّست مجلة “بني بريث” التي حملت اسم The Menorah Monthly عام 1886، وكانت أول مجلة يهودية في الولايات المتحدة، وفي عدد يوليو/ تموز 1889 من المجلة تمّ الترويج للمكتبة ودُعي القرّاء للتبرّع من أجل دعم استمرارها.
ورغم فشل هذه المحاولة، لم تتوقف المنظمة عن سعيها لتأسيس مكتبة يهودية في القدس، ففي عام 1892 أنشأت “بني بريث” مكتبة جديدة حملت اسم “مدراش أباربانيل”، نسبة إلى الفيلسوف والمفسّر اليهودي أباربانيل، الذي عاش في العصور الوسطى وكان له دور كبير في بلاطات ملوك قشتالة والبرتغال ونابولي، كما أطلق اسم أباربانيل أيضًا على أول كنيس يهودي في إسبانيا، الذي اُفتتح في 3 فبراير/ شباط 1917.
خلال 3 أعوام من تأسيس مكتبة “مدراش أباربانيل”، التي كانت مفتوحة ومجانية لليهود، أصبحت مركزًا ثقافيًا مهمًّا للمستوطنين اليهود في فلسطين، ومع زيادة مخزون المكتبة من الكتب والمخطوطات، تمّ نقلها إلى مقر جديد في شارع بني بريث، لتصبح المكان الوحيد في القدس الذي يقدّم كتبًا في مجالات مثل الرياضيات والعلوم والفلسفة العلمانية.
كما دعمَ توسعة المكتبة عددٌ من العلماء اليهود البارزين مثل ألبرت أينشتاين، وسيغموند فرويد، وإسحاق نيوتن، وأصبحت المكتبة كذلك مركزًا اجتماعيًا للمستوطنين اليهود، ما دفع مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل، إلى توجيه رسالة إلى الطبيب والمثقف اليهودي الروسي جوزيف تشازانوفيتش، الذي كان معروفًا بجمع الكتب والمخطوطات، حاثًّا إياه على دعم المكتبة وجمع الكتب العبرية والمراجع المتعلقة باليهود وتوراتهم. كتب هرتزل في رسالته: “في مدينتنا المقدسة يجب الاحتفاظ بجميع الكتب باللغة العبرية، وجميع الكتب بكل اللغات التي تهتم باليهود وتوراتهم”.
استجاب تشازانوفيتش بسرعة لطلب هيرتزل، حيث حوّل أكثر من 10 آلاف كتاب من مكتبته الشخصية في مدينة بياليستوك في بولندا إلى القدس، لتكون مساهمته بمثابة النواة الأولى لمكتبة “بيت همختاروت”، وهو اسم يطلقه اليهود في أوروبا على المكان الذي يخبئون فيه مقتنياتهم الثمينة، مرادفًا لـ”المخبأ” أو “الموقع تحت الأرض”، وتكريمًا لتبرّعه تمّت إعادة تسمية المكتبة بـ”ميدراش أباربانيل جينزاي يوسف”.
وفي السياق ذاته، تبرّع هيرتزل بمبلغ 300 روبل لصالح المكتبة، داعيًا يهود العالم للتبرع لها بالكتب والمخطوطات والأموال، وبحلول عام 1903 كانت المكتبة تحتوي على أكثر من 22 ألف مجلد في مختلف العلوم واللغات، وكانت تُدار تحت إشراف صمويل هوغو بيرغمان، الذي أصبح لاحقًا أول عميد للجامعة العبرية في القدس، وصديقًا مقرّبًا للكاتب الشهير فرانز كافكا، حيث أشرف على جمع مخطوطاته وضمان إيداعها في المكتبة.
وسط هذا الزخم الثقافي والعلمي، استطاعت منظمة بني بريث عقد مؤتمرها الأول في القدس عام 1905، بدعم من العلماء والكتّاب اليهود الذين كانوا يسعون لمزيد من الاستيطان والتوسع.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، أغلقت المكتبة بأمر من السلطات العثمانية، وكان عدد مقتنياتها قد تجاوز 30 ألف مجلد في تلك الفترة، وكانت تحت إدارة أفرايم كوهين رايس، وبعد انتهاء الحرب تضافرت جهود المكتبة مع المنظمة الصهيونية العالمية بدعم من الانتداب البريطاني، حيث تمّ نقل جزء من مجموعاتها إلى الجامعة العبرية التي افتتحت مقرًّا لها على جبل المشارف في القدس عام 1925، بالتزامن مع افتتاح الجامعة العبرية.
تزامنًا مع هذا الانتقال، أصبح يُطلق على المكتبة أسماء متعددة مثل “المكتبة الوطنية” أو “المكتبة الجامعية اليهودية” أو “مكتبة الشعب اليهودي”، ورفعت شعارًا صهيونيًا بارزًا عُرف بـ”إنشاء أمة لشعب الكتاب”، فقد أسهمت المكتبة بشكل كبير في تعزيز العلاقات العلمية والثقافية والأكاديمية بين المستوطنين اليهود والمجتمعات الغربية، عبر كل من منظمة بني بريث والمنظمة الصهيونية العالمية.
من “أرض بلا شعب” إلى “كتب بلا أصحاب”
عقب تقسيم فلسطين وما تلا هذه المرحلة الفارقة، دخلت المكتبة الوطنية الإسرائيلية فصلًا جديدًا في تاريخها، وهو الفصل الأكثر وضوحًا بالنسبة إلى الباحثين والكتّاب، فرغم أن الأُسُس الصهيونية التي انطلقت منها المكتبة غابت عن العديد منهم، إلا أنها شكّلت حجر الزاوية في تأسيس المكتبة، فقد أسهمت في دعم مشروع استعمار ثقافي للفلسطينيين، مسبّبًا نكبة ثقافية توازي في فداحتها الخسائر المادية والبشرية التي طالت الأرض والشعب.
خلال تلك الفترة، شنّت العصابات الصهيونية حملة ممنهجة ضد الفلسطينيين، حيث استهدفت الأحياء العربية الراقية التي كانت تضمّ شرائح مثقفة ومتعلمة من المجتمع الفلسطيني، مثل القطمون والبقعة وأبو طور والطالبية والمصرارة، وأقدمت على احتلال تلك المناطق وطرد سكانها، لتستبدلهم بالمستوطنين في محاولة لطمس الهوية الثقافية والإنسانية لتلك المناطق، في عملية استيطان ثقافي مدروس.
ترافق هذا مع سياسة صهيونية عسكرية تهدف إلى استلاب الكتب العربية وحفظ الكتب اليهودية، حيث تمّ تهريب مجموعة من محتويات المكتبة الوطنية اليهودية وتوزيعها على عدة مبانٍ في مدينة القدس للحفاظ عليها من القتال الدائر، وفي المقابل تعرّضت المنازل والمكتبات الفلسطينية للنهب والسرقة من قبل العصابات الصهيونية، التي استهدفت الكتب والمخطوطات الثقافية للعائلات الفلسطينية المثقفة.
في مدينة يافا، أصدر الحاكم العسكري مئير لنيادو خلال نكبة عام 1948 أمرًا عسكريًا يحظر إخراج أي كتاب عربي من المدينة، موكلًا مهمة جمع الكتب إلى وزير الأقليات يسرائيل بن زئيف، الذي كان متخصصًا في الأدب والتاريخ العربيَّين، أما في القطمون فقد تمّ جمع الكتب من البيوت في عملية منسقة بين الجيش الصهيوني والجامعة العبرية، وهو ما يعكس التنسيق بين المؤسسات العسكرية والثقافية الإسرائيلية لمصادرة الكتب والمخطوطات الفلسطينية، في خطوة تهدف إلى تعزيز الاستيطان الثقافي وتهميش الثقافة العربية الفلسطينية.
ووفقًا لمخطوط في أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية، الذي كتبه أحد موظفي المكتبة في بداية عام 1949، شملت عملية النهب الممنهجة أكثر من 50 شخصية فلسطينية بارزة، حيث تم الاستيلاء على مكتباتهم الخاصة، ومن بينهم كان محمد إسعاف النشاشيبي، الذي ضمّت مكتبته عشرات الآلاف من الكتب، وكذلك خليل السكاكيني، وهو مربٍّ وأديب عربي مسيحي، كما تمّ نهب مكتبة يعقوب فرج زعيم طائفة الروم الأرثوذوكس، وهنري قطان عضو مجلس القضاء الفلسطيني فترة 1940-1948.
بالإضافة إلى ذلك، شملت عملية الاستيلاء مكتبات كل من خليل بيدس الأديب والمترجم من الروسية، والطبيب توفيق كنعان المهتم بالفولكلور والإنثوغرافيا الوصفية، كما استهدفت المكتبات الخاصة لفؤاد أبو رحمة العضو السابق في المجلس الفلسطيني، ويوسف هيكل رئيس بلدية يافا بين عامي 1947 و1948.
ورغم فداحة الجريمة التي ارتكبتها المكتبة الوطنية الإسرائيلية في استيلائها على الكتب والمخطوطات الفلسطينية، لم تحاول إخفاء آثار فعلتها، بل عمدت إلى تجميلها وتصويرها على أنها جزء من الفكرة الصهيونية الأصلية: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
وهكذا، أصبح الكتاب المسروق وكأنه “كتاب متروك بلا قارئ، لقارئ بلا كتاب”، وحتى أن المكتبة أسّست ما يُسمّى “قسم الأملاك المتروكة”، الذي يضمّ الكتب المنهوبة، في حين أن بعض المصادر الإسرائيلية تقدّر عدد الكتب المسروقة بـ 80 ألف كتاب، رغم أن عدد الكتب المذكور في أرشيف المكتبة يقتصر على أكثر من 8 آلاف كتاب فقط.
هذا التبرير للسرقة الثقافية يتماشى مع رأي المؤرخ الصهيوني إلياهو أشتور، الذي وصف عملية الاستيلاء على الكتب بأنها “جمع وحفظ لها من التلف”، معتبرًا أن إخراجها من ملكية أصحابها الفلسطينيين كان بمثابة “تحرير” لتلك الكتب، حيث انتقلت إلى أيدي آخرين “يعرفون الاستفادة منها في مصلحة العلم والإنسانية”.
على الصفحة الرئيسية للمكتبة الوطنية الإسرائيلية، تتم الإشارة بشكل صريح إلى أن الكتب التي تم نهبها تركت من قبل الفلسطينيين “تمامًا كما خلفوا أرضهم”، حيث تم استيلاء الجيش الإسرائيلي عليها وحمايتها، بينما قام موظفو المكتبة الوطنية بجمعها بعناية.
تضمّنت هذه الكتب لغات متعددة كالعربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، ما يشير إلى أن النهب لم يكن مقتصرًا على المنازل فقط، بل شمل أيضًا مؤسسات تعليمية وكنائس مختلفة.
وفي أرشيف المكتبة الوطنية، يُعرض بشكل صارخ كتب خاصة للمثقف الفلسطيني خليل السكاكيني، مع توقيعه الأسود بأحرف عربية، إلى جانب مكتبة الأديب محمد إسعاف النشاشيبي التي ضمّت عشرات الآلاف من الكتب، والتي ترفض المكتبة الوطنية الإسرائيلية إعادتها إلى الورثة الفلسطينيين، رغم مطالبات العائلة المتكررة.
التغير الذي طرأ على المكتبة الوطنية الإسرائيلية لم يتوقف عند مجرد توسيع مخزونها بالكتب المنهوبة، بل تزامن مع المزيد من الاستيطان، حيث انتقل مقرّها إلى جرف جفعات رام في الجامعة العبرية التي أُقيمت على أنقاض حي الشيخ بدر، في بلدة لفتا الفلسطينية المهجرة التي استولت العصابات الصهيونية عليها، وحولتها إلى تجمع للمؤسسات الحكومية الإسرائيلية، وأطلقت عليها اسم جفعات رام.
ومع دخول الجامعة العبرية على خط عملية النهب الثقافي، أسّست “لجنة كنوز المنفى” المشتركة بين الجامعة والمكتبة الوطنية، بهدف تجميع الممتلكات الثقافية في القدس، تجسيدًا لرؤية هيرتزل في جمع شتات الكتاب في “مدينتنا المقدسة”.
توزع عمل “لجنة كنوز المنفى” بين جمع الكتب من أوروبا، وفرض قوانين تشجّع على تعزيز الحصيلة الثقافية في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، مع توسيع عمليات الشراء والاستحواذ الثقافي بطرق متعددة، كما سعت اللجنة إلى تعزيز سيادة الكتاب العبري، والتخلُّص من المخطوطات التي لا تخدم الأدب اليهودي.
وبحلول عام 1952، تمكنت اللجنة من جمع أكثر من 439 مخطوطًا من ألمانيا، تمّ توزيعها بين القدس والولايات المتحدة وكندا، بالإضافة إلى ذلك تمّ إيداع أكثر من نصف مليون كتاب في المكتبة الوطنية في القدس خلال العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية، ما ساعد على تعزيز مكانة المكتبة كمركز ثقافي رئيسي للسيطرة على المعرفة والتاريخ اليهودي.
ترافق ذلك مع إقرار الكنيست الإسرائيلي في عام 1953 لـ”قانون الإيداع القانوني”، الذي ينصّ على إيداع نسختَين من كل منشور في إسرائيل في المكتبة الوطنية اليهودية والجامعية، بهدف حفظ هذه المنشورات للأجيال القادمة.
ويشمل القانون أي كتاب ينشر داخل حدود “إسرائيل”، بغض النظر عن الموضوع أو اللغة، ما وسّع بشكل كبير عمليات الشراء للمخطوطات الخاصة بالإسلام واليهودية و”إسرائيل” والشرق الأوسط، كما حصلت المكتبة على مخطوطات حصرية في الحديث النبوي والشعر والتصوف، بما في ذلك أعمال ابن عربي، وخاصة كتابه “شمس المعارف”.
في المقابل، أقدمت المكتبة على إتلاف نحو 27 ألف كتاب من ممتلكات الفلسطينيين، بدعوى أنها عديمة القيمة أو تحتوي على خطابات تعتبر تهديدًا للدولة، بالإضافة إلى ذلك توسعت عمليات النهب الثقافي، حيث استهدفت المخطوطات والكتب الخاصة ليهود اليمن، مثل مخطوطات التوراة اليمنية والتأملات الخاصة بطوائفهم، خلال نهاية الأربعينيات ومنتصف الخمسينيات.
ولا تختلف سرقة الكتب اليمنية، التي قُدرت أعدادها بآلاف الكتب وأكثر من 300 مخطوطة توراتية، عن هرس الكتب الفلسطينية في الهدف الاستعماري، فكلاهما انطلق من مبدأ واحد هو توحيد المجتمع اليهودي تحت مظلة إمبريالية غربية، حيث لا تتعدد فيها الانتماءات والثقافات، ولا يوجد فيها سوى ما تراه الصهيونية.
ومع بداية القرن الحالي، كانت المكتبة الوطنية قد وسعت نطاق عملها إلى 3 دوائر رئيسية: الأولى هي دائرة المكتبة الوطنية لـ”دولة إسرائيل”، الثانية المكتبة الوطنية للشعب اليهودي، والثالثة مكتبة الأبحاث المركزية للجامعة العبرية في القدس، التي تشمل 4 مجالات دراسية: الدراسات الإسرائيلية، والدراسات اليهودية، والدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، والعلوم الإنسانية العامة.
حققت المكتبة الوطنية قفزات ثقافية كبيرة بما حوته من مخطوطات متنوعة اللغات، حيث تمتلك أكثر من 2416 مخطوطة باللغات العربية والفارسية والتركية، يعود بعضها إلى القرن التاسع، كما تمتلك المكتبة مجموعة حصرية تضم 1186 مخطوطة من العالم الإسلامي، وأكثر من 630 مخطوطة عربية، حصلت عليها بطرق متنوعة، ما يعزز مكانتها كمركز ثقافي أكاديمي في المنطقة.
إعادة تدوير التاريخ على الرفوف المسروقة
السعي المحموم لتقمّص الثقافة واستيراد التاريخ وبثّ الأدب في الجسد اليهودي لم يتوقف عند حدود النكبة أو النكسة، أو عند نهب مكتبات الفلسطينيين ومؤسساتهم، بل امتد إلى مكتبات الشرق الأوسط التي شهدت حروبًا وصراعات، ومنها المتاحف السورية، حيث تشير روايات متعددة إلى سرقة مخطوطات يهود سوريا بطرق ملتوية، من بينها عمليات استخباراتية عبر عملاء، وهو ما يفسر امتلاك المكتبة الوطنية الإسرائيلية لمخطوطات “تيجان دمشق”.
جرى تهريب هذه المخطوطات من سوريا عام 1993، في عملية نفّذها الموساد بالتعاون مع الناشط الكندي والحاخام السوري أبراهام حمراء، حيث يفاخر الإسرائيليون بهذه العملية، التي تمّت بمساعدة دبلوماسي كندي أخرج أحد التيجان في كيس بلاستيكي أسود.
وفي عام 2020، أكدت المحاكم الإسرائيلية عملية السرقة بإصدار قرار يقضي بعدم إعادة المخطوطات، معتبرة أنها “كنوز مملوكة للشعب اليهودي، ذات أهمية تاريخية ودينية وقومية”، وأن “أفضل طريقة للحفاظ عليها هي استمرار وجودها في المكتبة الوطنية تحت وصاية سلطة عامة”.
يُدرج نهب المتاحف العراقية ضمن سياق النهب المتجدد الذي شهدته المنطقة، إذ تعرّضت المخطوطات والوثائق العراقية لعمليات نهب واسعة مع الاحتلال الأمريكي عام 2003، حيث قدّر مختصون أن المكتبة الوطنية الإسرائيلية، التي تمتلك أكثر من 100 ألف كتاب وألفي مخطوطة إسلامية، حصلت على جزء كبير منها عبر سرقات من المتحف العراقي المركزي في بغداد، بدعم من الجيش الأمريكي.
تصريحات إسرائيلية كشفت أن تهريب هذه المخطوطات تم عبر كردستان وعمان وصولًا إلى “إسرائيل”، ومن بين أهم المسروقات نسخة نادرة من التوراة تُعرف بـ”النسخة العراقية من أسفار العهد القديم”، مكتوبة بعصير الرمان المركّز على جلد حيوان الأيل، وهذه النسخة كانت في يد القوات الأمريكية قبل أن تظهر لاحقًا في “إسرائيل”.
لم تعتبر عمليات الاستيلاء الثقافي التي قامت بها “إسرائيل” نقطة ضعف أو نقص، بل جرى إضفاء الشرعية عليها عبر تشريعات رسمية، من أبرزها قانون المكتبة الوطنية الذي أقرّه الكنيست عام 2007، والذي أعاد صياغة أهداف المكتبة ورسالتها، حيث تمحور القانون حول فكرة “جمع وحفظ ورعاية التراث والمعرفة والثقافة”، مع تركيز خاص على أرض ودولة إسرائيل والشعب اليهودي، بما يجسد مفهوم “شعب الكتاب” الذي تعتز به الحركة الصهيونية.
وفي عام 2010، تبنّت المكتبة الوطنية نهجًا جديدًا يستهدف تعزيز حضورها كمركز محوري للبحث العلمي والثقافي في الشرق الأوسط، وسعيًا لتحقيق هذا الهدف أطلقت مشروع رقمنة ضخم في عام 2012، يهدف إلى تصوير وفهرسة وتصنيف عشرات الآلاف من الكتب والمخطوطات العربية النادرة، وتم تمويل هذا المشروع من الاتحاد الأوروبي، ما أتاح للمكتبة السيطرة على نتائج البحث الرقمي باللغة العربية، متجاوزة بذلك جميع المكتبات العربية في مجال أرشفة الكتب القديمة والحديثة.
أرشيف النكبة ومحاولات استعادة التاريخ المسروق.. حوار مع الباحث فادي عاصلة
في عام 2020، أثارت صفحة “إسرائيل بالعربية” التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية جدلًا واسعًا، عندما أعلنت عبر حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي أن “المكتبة الوطنية الإسرائيلية” في القدس المحتلة حصلت على الأرشيف الرقمي لصحيفة “الأهرام” المصرية، وأوضحت أن ذلك جاء عبر صفقة وُصفت بالمشبوهة، حيث قام رئيس مجلس إدارة “الأهرام” ببيع الأرشيف إلى شركة أميركية تدعى “إيست فيو”، وهي متخصصة في تقديم خدمات البحث والدراسات وإتاحة الوثائق المصنفة للباحثين والكتّاب، ما أثار استياءً واسعًا بسبب التفريط في هذا الإرث الثقافي المصري لصالح جهات أجنبية.
وهو ما كشف لاحقًا عن امتلاك “المكتبة الوطنية الإسرائيلية” لمخزون كبير من المخطوطات العربية غامضة المصادر، ففي عام 2017 أعلنت المكتبة عن احتوائها على أكثر من 2400 مخطوطة عربية، من بينها 100 مخطوطة قرآنية نادرة، لكنها رفضت الإفصاح عن كيفية الحصول عليها.
ومن بين هذه المقتنيات مصاحف نادرة للغاية، أقدمها يعود إلى القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري)، مثل مصحف مضبوط وفق القراءات السبع، ونسخة من القرآن الكريم بالخط الكوفي، إلى جانب مصحف مغربي يرجع تاريخه إلى القرن الحادي عشر الهجري، وغيرها من النوادر التي تثير التساؤلات حول مصادرها.
ولم تتوقف عمليات الاستلاب الثقافي عند هذا الحد، بل استمرت بشكل متكرر، خصوصًا خلال الحروب على قطاع غزة، فقد استهدف الاحتلال المكتبات والمؤسسات الثقافية ومراكز الأرشفة، ما أدّى إلى تدمير ممنهج للبنية الثقافية، ورغم ذلك تسرّبت موجات من السرقة الثقافية والفكرية، حيث يجري نهب الممتلكات الثقافية والإنسانية الفلسطينية بشكل متواصل.
وفي الوقت الذي تتسع فيه موجودات المكتبة الوطنية الإسرائيلية لتشمل أكثر من 4.5 ملايين كتاب، ومليوني ونصف صورة، وأرشيف يضمّ أكثر من 106 آلاف صحيفة ودورية، وما يزيد عن 600 ألف مخطوطة، بالإضافة إلى 12 ألف خريطة، تواصل المكتبة تعزيز مكانتها كمؤسسة محورية في المشروع الصهيوني.
كما شهدت المكتبة انتقالًا إلى مبنى جديد مطلع عام 2023، يقع بين الكنيست ومتحف إسرائيل، في تصميم معماري يعكس فلسفة التوسع والهيمنة التي تمثل جوهر المشروع الصهيوني، ومع ذلك يظل التاريخ أوسع من أن يُستلب، والذاكرة أكبر من أن تُمحى أو تُحتكر، فقد أسفر طرد أكثر من 750 ألف فلسطيني عام 1948 عن نكبة إنسانية، لكنه لم ينجح في كسر حلم العودة يومًا.