“ينبغي على الاشتراكيين أن يكونوا في الصفوف الأمامية في تلك المعارك في يومنا هذا، وللقيام بذلك ينبغي علينا أن نكتسب المهارات اللازمة لتحديد من بيده السلطة داخل قطاع بعينه” جوزيف شوارتز نائب رئيس حركة الاشتراكيين الديمقراطيين بالولايات المتحدة في مقاله لمجلة جاكوبين.
بعد أن عاشت الاشتراكية عقودًا من اليأس على أرض الولايات المتحدة الأمريكية التي تُعرِّف نفسها بأنها دولة الرأسمالية الأكبر في العالم، تغير الأمر كثيرًا على مدار الأعوام الأخيرة، فبدأت الاشتراكية إحياء نفسها من جديد في وجه الرئيس الحاليّ دونالد ترامب، فما الدوافع التي أدت إلى تنامي الاشتراكية من جديد؟ وما مطالبها التي حظيت بقبول كبير لدى الأمريكيين؟ ومن أبرز مُمثليها؟ وكيف يبني ترامب والبيت الأبيض حاجزًا أمامها؟
من بضعة آلاف إلى عشرات الآلاف
بعد انتخاب دونالد ترامب زادت عضوية الاشتراكيين الديمقراطيين من 6 آلاف عضو إلى 47 ألف عضو أي بنسبة تقارب 700%.
أدت خطابات ترامب الأكثر تطرفية ورأسمالية وسياساته المثيرة للجدل بشأن قضايا عدة داخلية وخارجية في أثناء حملته الانتخابية وحتى بعد انتخابه إلى تنامي انجذاب شريحة كبيرة إلى الخطاب الاشتراكي الذي يحوي في مجمله المساواة للجميع، ظهر ذلك الاستقطاب الأعلى نحو الاشتراكية جليًا في إحصائية أجرتها مؤسسة غالوب لاستطلاع الرأي قارنت فيها بين الرأسمالية والاشتراكية، وأشارت نتائجها إلى أن 47% من الديمقراطيين ينظرون للرأسمالية بشكل إيجابي وبذلك تكون قد انخفضت النسبة من 56% طبقًا لإحصاءات المؤسسة عام 2016.
أما الاشتراكية فيراها 57% من الديمقراطيين بشكل إيجابي، أما بالنسبة للجمهوريين فلم تتغير وجهة نظرهم كثيرًا على مدار 8 سنوات ماضية، حيث نظر 16% منهم إلى الاشتراكية بشكل إيجابي.
وقارن الاستطلاع بين فئة الشباب (18 – 29 عامًا) والفئة الأكبر سنًا (50 عامًا وما فوق)، فكانت الفئة الشبابية تؤيد الاشتراكية بنسبة 51% مقابل 45% تأييدًا للرأسمالية، وهذا المعدل الأكبر لفئة الشباب منذ 8 أعوام مضت، أما الفئة الأكبر سنًا كانت أكثر تأييدًا للرأسمالية بنسبة 60%.
بانتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي أواخر القرن الماضي أخمدت الحرب الإيديولوجية بين الرأسمالية والاشتراكية، فأصبحت الاشتراكية في الولايات المتحدة الأمريكية تعني المساواة للجميع
ليس نظريًا فقط، تحولت تلك الأرقام إلى واقع عملي ففي يوليو/تموز من عام 2018 بفندق في ولاية شيكاغو بمؤتمر سُميَّ “بالاشتراكية عام 2018” شاركت فيه عدة منظمات أشهرها حركة الاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكيين، وميز المؤتمر حضور 1700 شخص أغلبيتهم من الشباب الاشتراكي ناقشوا فيه كيفية مقاومة النظام الرأسمالي وخطابه اليميني المتطرف وهيمنة الشركات على قرار الحكومة الأمريكية، رافعين لافتات “عالمٌ آخر ممكن”.
أجمع الكثير ممَّن أدلوا بتصريحاتهم أن انجذاب آلاف الأمريكيين نحو الاشتراكية غايته الرد على دونالد ترامب إثر مواقفه المعادية لقضايا المرأة والعمال والهجرة وإلغائه مشروع الرعاية الصحية التي سعى الرئيس السابق أوباما للعمل عليه وخفض نسب الضرائب ممَّا يصب في مصلحة الشركات الرأسمالية الكبرى ولا مفر من مواجهة خطاب ترامب اليميني المتطرف الذي يهتم بسباق التسلح العسكري بين روسيا والصين حتى على المستوى الفضائي والتدخل العسكري في الجارة الفنزويلية، فضلاً عن امتلاك أكثر من ثلاثة أرباع الثروة في الولايات المتحدة في جيب 10% فقط من الشعب الأمريكي طبقًا لدراسة أصدرها مكتب الاحتياطي الفيدرالي عام 2016 الذي عبر بها عن عدم المساواة بين فئات الشعب وخاب أمل الفئة الشبابية منه في نظام الرأسمالية العنصري.
وبانتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي أواخر القرن الماضي، أخمدت الحرب الإيديولوجية بين الرأسمالية والاشتراكية، فأصبحت الاشتراكية في الولايات المتحدة الأمريكية تعني المساواة للجميع، حتى إن خطابات الاشتراكية جملة لم تحظ بأي نية لتَأميم الشركات وسيطرة الحكومة عليها كمبدأ أساسي من مبادئ الاشتراكية في القرن الماضي ممَّا أدى ذلك إلى تقارب الديمقراطيين من الاشتراكيين في مواجهة يمينية ترامب.
الحذر من الاشتراكية
لم تعد تخاف الاشتراكية الأمريكية في عهد ترامب من البوح بمطالبها وأفكارها ولم يعد يحذر الديمقراطيون من الالتصاق بالاشتراكيين في مطالبهم أمام اليمين الترامبي، على العكس من الخوف الذي بلغ ذروته بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبداية الحرب الباردة بين القطبين الأمريكي والسوفيتي.
وجوه بارزة عُرفت بتبنيها الاشتراكية وحظيت بشعبيةٍ عامة ضمن أعضاء الكونغرس مثل رشيدة طليب وبيرني ساندرز
الفترة التي عرفت بالمكارثية نسبة إلى السيناتور جوزيف مكارثي (6) المساعد الرئيسي للإدارة الأمريكية في إدارة وقمع الشيوعيين واستئصالهِم من الحياة الفكرية والسياسية لدى المجتمع الأمريكي الرأسمالي، ولكن بعد الأزمة الاقتصادية التي مرت بها الولايات المتحدة الأمريكية عام 2008 بدأ صدى صوت الحركات الاحتجاجية العمالية داخل المجتمع من جديد حتى جاء دونالد ترامب إلى الحكم فبدأ حلم العودة يهفو من جديد وسط تحذيرات من مستشاريين اقتصاديين في البيت الأبيض الذين أعدوا تقريرًا في أكتوبر/تشرين الماضي حذروا فيه من سلبيات الاشتراكية، مُذكِرين المجتمع باشتراكية الاتحاد السوفيتي والتقارب الخطابي الواضح بين الاشتراكية الأمريكية الجديدة والسوفيتية القديمة وانتقدوا أهم مطالبهم وهي تفعيل قانون الرعاية الصحية مثل دول كالنرويج والدانمارك وبريطانيا وقارنوا معدل رفاه المواطن الأمريكي عن المواطن الإسكندفانِي التي ذكروا أنها تفوقها بما يقرب 15%، فضلاً عن خطابات دونالد ترامب الأخيرة بالكارثة التي تعرض لها الشعب الفنزويلي من تضخم في عملته المحلية ولجُوء وهجرة وبطالة وانتشار الجرائم والعنف بسبب الاشتراكية التي تنتهجها البلاد بقيادة رئيسها مادورو.
وجوه بارزة عُرفت بتبنيها الاشتراكية وحظيت بشعبيةٍ عامة ضمن أعضاء الكونغرس مثل رشيدة طليب وبيرني ساندرز، وبعد أن أعلن السيناتور الثاني الذي يوصف بالديمقراطي الاشتراكي خوضه سباق الانتخابات الرئاسية النصفية بداية عام 2020 أصبح سباق البيت الأبيض أشد في حمأة وطيسه، لا سيما بعد التفاعل الكبير الذي لقاه ساندرز خلال حملته الانتخابية ويحظى بفكرة الأمل الأخير لدى جموع الديمقراطيين الاشتراكيين والأقليات في مواجهة الرأسمالية الترامبية.
فهو الذي استنكر قانون الإعفاءات الضريبية الذي سنَّه ترامب وبموجبه يتم إعفاء 1% فقط من إجمالي الشعب بضريبة قيمتها تصل إلى تريليون دولار، فضلاً عن تمسكه ببرنامج الرعاية الصحية الذي يوفر الخدمة لأكثر من 32 مليون مواطن أمريكي، إذ يرى ساندرز خوضه الانتخابات الرئاسية التي وصف طريقها في كتابه “Where We Go From Here” بأنها مرحلة نضالية يجب على الجميع الوقوف من أجلها لتحقيق نهضة شاملة على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والحقوقي.
وعلى الطرف الآخر أصبح الآن التغريد أكثر عن قوته وذكائه في القضاء على تنظيم الدولة المكني بداعش، التنظيم الأخطر على الوجود الأمريكي في المنطقة شرق بحر المتوسط، وأن يقف ترامب في حشد مُستشهدًا ببراعته السياسية في تحجيم الدور الإيراني ومشروعها النووي في ذات المنطقة وكبح جماح الشمالية الكورية والتنين الصيني عن طريق المصافحات واللقاءات السياسية الذكية ويفعل كل هذا دون حرج، فقد أزيلت عنه مؤخرًا شبهات تدخل الكرملين لصالحه في سباق رئاسة البيت الأبيض عام 2016 طبقًا لتحقيقات روبرت مولر.
ناهيك عن الدعم الذي ينتظره ترامب من الشبكة اليهودية الأمريكية “أيباك” بعدما قدم دعمًا كبيرًا لـ”إسرائيل” لم يقدمه أي رئيس ديمقراطي أو جمهوري سابق للولايات المتحدة الأمريكية في أربع سنوات أولى من الحكم، فقد أقبل على نقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إلى القدس وقطع المساعدات عن منظمة اللاجئين الفلسطينيين الأونروا وسلط إدارته على من يهاجم نهج “إسرائيل” تجاه الفلسطينين ووصفهم بمعاداة السامية كما حدث مع السيناتور إلهان عُمر، ومؤخرًا إعلان أحقية سيادة “إسرائيل” على الجولان السورية.
يأتي كل هذا الدعم في مصلحة نظيره الإسرائيلي نتنياهو الذي يخوض سباق رئاسي هو الأصعب هذا الشهر، فهو يحتاج دعم الأوساط اليمينية الإسرائيلية بعدما فقدت الثقة في قدرات الرجل للتصدي لضربات صاروخية من كتائب القسام وفي عملية خان يونس في غزة التي راح ضحيتها ضابط إسرائيلي، ممَّا أدى إلى غضب واستقالة وزير الدفاع آنذاك ليبرمان لتهدئة الأوضاع في غزة التي توصل إليها نتنياهو، غير قضايا الفساد والرشوة التي تلاحق الرجل.
فمن المؤكد أن اتجاه تصويت الشبكات اليهودية الأمريكية لن يحظى به الديمقراطيون هذه المرة لا سيما بعدما قاطع شخصيات ديمقراطية رفيعة المستوى حضور المؤتمر السنوى الأخير منها المرشح بيرني ساندرز التي قاطعه احتجاجًا على نهج “إسرائيل” تجاه الشعب الفلسطيني وتجاهل إعطاء حلول حقيقية تجاه القضية الفلسطينية وتقسيم الدولتين، وكرد جميل للرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمساعدة “إسرائيل” للخطو نحو تحقيق أفضل استقرار لها منتظرةً مشروع السلام المعروف بصفقة القرن الذي ينتظر الجميع الإعلان عنه برعاية أمريكية.