وجه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود ببناء مدينة رياضية في العراق كهدية للشعب العراقي بجانب منحة من المملكة بمبلغ مليار دولار للمساهمة في تنميته لتكون الرياض شريكًا أساسيًا في نهضة بلاد الرافدين، حسبما ذكرت وكالة الأنباء السعودية الرسمية “واس“.
التوجيه الملكي أعلنه رئيس وفد السعودية في اجتماعات الدورة الثانية لمجلس التنسيق السعودي – العراقي ببغداد، وزير التجارة والاستثمار الدكتور ماجد بن عبد الله القصبي الذي أعلن عن قنصلية لبلاده في العاصمة العراقية غدًا الجمعة على أن تفتتح ثلاث قنصليات أخرى قريبًا في عدد من المحافظات العراقية.
القصبي في تصريحات له عقب وصوله بغداد أكد أن منفذ عرعر الحدودي بين المملكة والعراق سينتهي العمل به بعد ستة أشهر من الآن، فيما يمضي العمل قدمًا لبناء المدينة الرياضية في بغداد بعد تخصيص الأرض لإنشائها، مشيرًا إلى أن هناك عددًا من الاتفاقات الاقتصادية جاهزة للتوقيع بين البلدين.
تسعى المملكة إلى البحث عن موضع قدم لها في العراق بعد سنوات طويلة من برودة العلاقات بين البلدين منذ الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003، مستندة في ذلك إلى قوتها الناعمة التي باتت اليد الطولى لها لتحقيق أهدافها الخارجية خاصة بعد اتساع رقعة النفوذ الإيراني في المنطقة.
جهود التهدئة
منذ عام 2003 والعلاقات بين الرياض وبغداد في نفق مظلم، أسيرة أمواج متلاطمة من المد والجذر، تقذفها ما بين الحين والآخر تارة هنا وأخرى هناك، وذلك حين ارتأت المملكة لنفسها الابتعاد عن الساحة العراقية وترك المشهد برمته مقسمًا بين القوات الأمريكية والإيرانية.
وطيلة 12 عامًا تقريبًا غابت فيها المملكة عن الساحة العراقية تجمدت فيها العلاقات بشكل تدريجي حتى استشعرت الرياض خطر ترك المشهد برمته لطهران التي توسعت بوتيرة متسارعة، فسمت ثامر السبهان سفيرًا لها في بغداد 2015، لكنه لم يدم طويلاً في هذا المنصب.
وبعد أقل من عام اضطرت الرياض لإبعاده عن الساحة العراقية بعد الاتهامات التي وجهت له بالتدخل في شؤون البلاد الداخلية، وهي الاتهامات التي كادت أن تعيد العلاقات إلى ثلاجة التجميد مرة أخرى لولا استدعاء الديوان الملكي له إرضاءً للعراقيين، حتى إن تم تعيينه وزيرًا للدولة لشؤون الخليج العربي.
ومنذ عام 2017 دشنت المملكة مرحلة جديدة في العلاقات مع بغداد بدأتها بزيارة وزير خارجيتها السابق عادل الجبير للعراق في فبراير، وهي الزيارة الأولى لوزير خارجية سعودي منذ نحو 14عامًا، تبعتها زيارة رئيس أركان الجيش السعودي الفريق أول ركن عبد الرحمن بن صالح في يوليو من نفس العام.
وفي المقابل زار رئيس الحكومة العراقية الأسبق حيدر العبادي الرياض، والتقى العاهل السعودي وبعض كبار الديوان الملكي السعودي، أعقبها زيارة وزير الداخلية قاسم الأعرجي المعروف عنه قربه من طهران وعلاقته القوية بالحشد الشعبي الشيعي، ثم الزيارة المثيرة للجدل لزعيم التيار الصدري الشيعي العراقي مقتدى الصدر في 30 من يوليو 2017، التي أثارت الكثير من الجدل.
مقتدي الصدر خلال زيارته للسعودية 2017
الاقتصاد.. البوابة الأوسع
يعد الاقتصاد البوابة الأوسع لإعادة الحضور السعودي داخل الأراضي العراقية مرة أخرى، حيث شكل البلدان مجلسًا لتنسيق المشاريع الاقتصادية، في أكتوبر 2017، تعرض فيه الفرص الاستثمارية لمناقشة سبل تنفيذها، في محاولة لبناء جسور الثقة مجددًا بين البلدين.
وتتعدد المشروعات الاستثمارية التي تنتوي المملكة القيام بها في العراق، إذ تتجه إلى استثمار مليون هكتار من الأراضي العراقية بهدف تحويلها إلى حقول ومزارع لتربية الأبقار والماشية والدواجن، لتكون بذلك أكبر مشروع استثماري زراعي في العراق على الإطلاق، مستفيدة من تجارب شركاتها مثل المراعي، ومن المتوقع أن يقام في باديتي محافظة الأنبار غربي البلاد وصولاً إلى الجنوب بمحافظة المثنى.
المحلل السياسي العراقي أحمد الميالي، قال تعليقًا على التوجه السعودي الأخير حيال العراق: “العلاقات العراقية السعودية شهدت انفتاحًا بصورة واضحة، منذ تقلّد حيدر العبادي رئاسة الوزراء في 2014، وفي العام الماضي بعد إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش الإرهابي، باتت السياسة الخارجية العراقية تتطلب تحقيق توازن على الصعيدين الإقليمي والدولي”.
المشاركة في الإعمار ستكون الإستراتيجية الأبرز لدى آل سعود للعودة للمشهد العراقي مجددًا
وأضاف الميالي في حديث لـ”الأناضول” “ما شهده العراق لم يكن بعيدًا عن النزاعات التي تشهدها المنطقة، لذلك كانت سياسية حكومة العبادي تتجه إلى إقامة علاقات متوازنة بين السعودية وإيران وتركيا والولايات المتحدة”، مؤكدًا “من الأفضل أن يكون للسعودية دور في الاستثمارات في مختلف القطاعات الاقتصادية بالعراق، بدلًا من لعب دور سلبي كما حدث خلال عامي 2012 و2013، عندما دعمت الاحتجاجات الشعبية المناهضة للحكومة”.
من جانبه، قال المتحدث باسم وزارة الزراعة العراقية حميد النايف إن أي دولة عربية وضمنها السعودية تريد أن تستثمر في العراق سنفتح لها الأبواب لأن الإمكانات العراقية محدودة، إلا أنه في الوقت ذاته أقر بالمخاوف بشأن الاستثمارات في العراق فقال: “رأس المال جبان، وكل مستثمر يريد ضمانات تخدمه، لذلك فإن الكلام يكون أسهل من تنفيذ المشروع على أرض الواقع”.
وأضاف “الكثير من الدول العربية أبدت استعدادها للمساهمة في إعادة إعمار العراق بعد حرب تنظيم الدولة الإسلامية والقيام بمشاريع استثمارية، ولكن السؤال هنا: متى ستأتي؟ نحن نريد إبرام عقود فعلية وليس الاقتصار على الوعود وتبادل زيارات الوفود الرسمية دون جدوى”.
أحد اجتماعات المجلس التنسيقي السعودي العراقي
إعادة الإعمار
التوجيه الملكي ببناء مدينة رياضية وتقديم منحة مليار دولار جاء بحسب وكالة الأنباء السعودية بهدف رغبة الرياض أن يكون لها دور محوري في نهضة بلاد الرافدين مرة أخرى، وهي الرغبة التي طالما عبر عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أكثر من مرة بشأن تحمل المملكة بجانب الإمارات كلفة إعادة الإعمار في كل من العراق وسوريا.
في تقرير نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانية قبل عام تقريبًا تطرق إلى محاولة محمد بن سلمان فتح صفحة جديدة في العلاقات مع العراق بعد تحرير معظم أراضيه من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، مستندًا إلى العديد من الشواهد التي تعزز هذه الفرضية، إلا أن الطريق لن يكون ممهدًا كما يتوقع البعض.
التقرير ذهب إلى أن المشاركة في الإعمار ستكون الإستراتيجية الأبرز لدى آل سعود للعودة للمشهد العراقي مجددًا، وبحسب كبار المسؤولين في السعودية فإن كلفة إعادة الإعمار في العراق تتجاوز تقريبًا 100 مليار دولار، من الممكن أن تبدأها المملكة بالمدن السنية الأربعة (الموصل والفلوجة والرمادي وتكريت) حسبما نقل على لسان وزير الدولة السابق سعد الجابري الذي ألمح أن هذه الخطوة ستمثل محور آمال المصالحة الوطنية في بلد أكثر من ثلثي سكانها من الشيعة.
إحسان الشمري رئيس مركز الفكر السياسي في بغداد، يرى أن مساعي السعودية للتقارب مع العراق عبر بوابة المشاركة في إصلاح ما خلفته الحرب يعد صفحة جديدة من العلاقات السعودية العراقية التي كانت مضطربة وحادة في الماضي، خصوصًا خلال حكم رئيس الوزراء السابق المالكي.
وتماشيًا مع هذا النهج أوضح عبد الباري الزيباري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي أن الإسهام في إعادة الإعمار باب جيد لعودة العلاقات السعودية العراقية، مرجعًا ذلك لرغبة الإدارة الأمريكية في مساعدة السعودية والخليج في إعادة بناء علاقاتها مع بقية دول المنطقة، معلنًا “نحن نرحب بأي تمويل أجنبي أو إقليمي، وستكون هذه خطوة ذكية حقًا من الدول العربية والأجنبية”.
كما نجحت طهران في كسب تأييد الساسة وقادة الجيش والنخبة فإن الرياض تستهدف شريحة الشباب والفئات المهمشة عبر مشروعاتها الرياضية والاستثمارية
إيران.. كلمة السر
إذا أردت أن تبحث عن دوافع أي تقارب سعودي باتجاه أي من دول المنطقة فالإجابة واضحة، إيران هي كلمة السر في أي حراك من هذا النوع، لا سيما بعد تمدد نفوذها في المنطقة خلال السنوات السبعة الأخيرة، فأصبح لها اليد العليا والكلمة المؤثرة في العديد من الملفات الساخنة في المنطقة على رأسها سوريا ولبنان واليمن والعراق، وذلك بالطبع على حساب الدور السعودي الذي تقلص بشكل كبير، وفي العراق على وجه الخصوص الأمر يزداد تعقيدًا، خاصة بعد توغل إيران في مفاصل الجيش العراقي، وما حققته من إحكام القبضة على كثير من خيوط المشهد السياسي، هذا بخلاف الثورة الديموغرافية المتوقعة حال إقرار قانون الجنسية الجديد الذي يناقش الآن داخل البرلمان ويسمح للشيعة الإيرانيين بالحصول على الجنسية العراقية بعد عام واحد فقط من الإقامة بدلاً من عشر سنوات كما كان في السابق.
يرى مراقبون أن الاستثمارات الاقتصادية السعودية في مختلف مناطق العراق، ربما تلعب دورًا مؤثرًا في تحجيم هذا النفوذ المتزايد في هذا البلد، وتدفع السعودية باتجاه المشاريع الاقتصادية والاستثمار في الطبقة الوسطى العراقية المدنية وفي العشائر في الوسط والجنوب، التي تحارب التمدد الإيراني، على الرغم من أن أغلب هذه العشائر شيعية لكنها تعاني من العزلة كما تعاني مدن الوسط والجنوب من تآكل غير مسبوق في الخدمات والإهمال.
ومن شأن ضخ أموال في استثمارات توفر فرص عمل في الجنوب العراقي الفقير، أن تصرف اهتمامات الشبان الشيعة التي تنصب حتى الآن على الانخراط في مجموعات مسلحة تموّلها إيران، إلى هموم تتعلق بتحسين الواقع المعيشي.
الرئيس العراقي برهم صالح مستقبلاً نظيره الإيراني حسن روحاني
القوى الناعمة
في السنوات الأخيرة، سعت الرياض إلى تعزيز نفوذها وتأثيرها على دوائر صناعة القرار في بقية العواصم العربية، مستندة في ذلك إلى قوتها الناعمة لا سيما على المستويين الرياضي والفني، وذلك بضخ المزيد من الاستثمارات في هذا القطاع، وكانت مصر على رأس تلك القائمة في الآونة الأخيرة وها هو العراق يلحق بها.
السعودية وعبر إنشائها لمدينة رياضية في العراق تهدف إلى تحسين صورتها وصورة نظامها الحاكم لدى الشريحة الأهم من الشعب، وهي الشباب، وذلك عبر تقديم منح وهدايا وتوفير فرص عمل وغيره، في محاولة لإزالة التشويه الذي لحق بتلك الصورة خلال السنوات الأخيرة لصالح الدولة الإسلامية الإيرانية.
وكما نجحت طهران في كسب تأييد الساسة وقادة الجيش والنخبة فإن الرياض تستهدف شريحة الشباب والفئات المهمشة عبر مشروعاتها الرياضية والاستثمارية مستغلة في ذلك تجاهل الحراك الإيراني لهذه الشرائح التي في معظمها تكون على أطراف الدولة الحدودية أو أقاليمها النائية التي تعاني من العزلة والتجاهل.
تكثيف واضح لجهود المملكة لاستعادة نفوذها داخل العراق خلال الآونة الأخيرة، وهو الأمر الذي بالطبع لم يكن خافيًا على الجانب الإيراني الذي يخوض حروبًا ضد الرياض على مستويات عدة، وأيًا كانت نتائج هذه الحرب بين الطرفين فإن الرابح الوحيد هو الشعب العراقي.