اتسمت العلاقات الدبلوماسية بين الجارين العربيين – الجزائر والمغرب – في العقود الأخيرة بالتوتر، نتيجة اختلاف الرؤى في العديد من المواضيع خاصة مسألة الصحراء الغربية، ما أثر على البلدين وعلى كامل المنطقة، علاقات متوترة تطمح العديد من الأطراف خاصة داخل البلدين الشقيقين إلى تجاوزها وبناء علاقات متطورة تعود بالفائدة على بلديهما، وقد أعاد الحراك الجزائري واستقالة بوتفليقة عن الرئاسة هذه التطلعات، فهل نشهد إذابة الجليد أم أن المسألة أعمق من رحيل رئيس أحد البلدين؟
تفاؤل كبير
استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة والحراك الشعبي الكبير في الجزائر المستمر منذ أكثر من شهر، يرى فيه العديد من المحللين خاصة المغاربة منهم، فرصة مهمة لحلحلة الأزمة الأبرز في منطقة المغرب العربي وإيجاد حل للتسوية.
يرى هؤلاء أن التحولات في الجزائر ربما تكون بداية انفراجة حقيقية في الأزمة مع المغرب، ومقدمة لإعادة فتح الحدود بين البلدين الشقيقين، وانطلاق مسيرة الحوار المنتظر بشأن القضية الأهم التي باعدت بينهما، وهي قضية الصحراء الغربية، وربما إلى حل مقبول يرضي جميع الأطراف.
قبل ثلاثة أسابيع من نهاية ولايته الدستورية، اختار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الاستقالة والرحيل، تحت ضغط الحراك الشعبي السلمي، والرد القوي من قادة الجيش الذين تخلوا عنه وطالبوه في رسالة عسكرية صارمة بالتنحي الفوري دون إبطاء أو تأجيل.
وبدأ المجلس الدستوري في الجزائر أمس الأربعاء اجتماعًا يهدف لإقرار حالة الشغور الرئاسي بعد استقالة بوتفليقة مساء الثلاثاء، حيث ينتظر أن يعلن المجلس شغور المنصب وتفعيل المادة 102 من الدستور، ليتولى بذلك رئيس مجلس الأمة مهام رئيس الدولة لمدة أقصاها 90 يومًا تنظم خلالها انتخابات رئاسية لا يمكن لرئيس المجلس الترشح لها.
شهدت العلاقات بين الجارتين طيلة أربعة عقود موجات من المد والجذر، وصلت في بعض الأحيان إلى طريق مسدود
يذهب رئيس المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية والتحليل الأمني (مغربي) عبد الرحيم المنار أسليمي، إلى أن “ما حدث في الجزائر وإنهاء حقبة بوتفليقة سيكون له تأثير على العلاقات المغربية الجزائرية، وذلك نظرًا لوجود متغيرين اثنين يتحكمان في هذه العلاقة”.
ويتمثل المتغير الأول وفق أسليمي، في “متغير بوتفليقة السيكولوجي، فالأمر يتعلق برئيس جزائري من أصول مغربية حرص طيلة مساره في السلطة سواء بوزارة الخارجية أو رئاسة الدولة على تطعيم العداء للمغرب، والجزائريون يدركون جيدًا هذه النفسية، إذ اجتهد كل المسؤولين الجزائريين من أصول مغربية في نسج نفسية العداء للمغرب وشحن الجزائريين بها لإظهار ولائهم للجزائر”.
ويضيف الخبير المغربي في تصريحه لنون بوست “بوتفليقة كان يشعر منذ وصوله إلى دائرة بومدين بأن هناك شكًا في انتمائه وولائه للجزائر، لذلك ظل عنصرًا جوهريًا في التوتر القائم بين المغرب والجزائر المتواصل منذ عقود”.
أما المتغير الثاني، فيتمثل وفق رئيس المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية والتحليل الأمني في نزاع الصحراء، حيث يعد بوتفليقة أحد صانعي جبهة البوليساريو إلى جانب هواري بومدين (الرئيس الجزائري الأسبق) ومعمر القذافي (الرئيس الليبي السابق)”.
قدم بوتفليقة استقالته بعد 20 سنة من الحكم
شهدت العلاقات بين الجارتين طيلة أربعة عقود موجات من المد والجذر، وصلت في بعض الأحيان إلى طريق مسدود، كما جاء على لسان وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي المغربي ناصر بوريطة، في حديث أجرته معه الأسبوعية الدولية “جون أفريك” أغسطس الماضي، حين قال إن العلاقات بين المغرب والجزائر دخلت طريقًا مسدودًا على جميع المستويات، موضحًا أن العلاقات بين البلدين جامدة منذ سنوات ولم تشهد أي تطور، إذ إن الزيارات الرسمية المتبادلة بين البلدين الجارين توقفت منذ أكثر من سبع سنوات، مشيرًا إلى أن هذا الوضع جعل التنسيق يصل إلى درجة الصفر.
وباستقالة بوتفليقة، يقول عبد الرحيم المنار أسليمي “يمكن القول إن البوليساريو سيذهب تدريجيًا مع رياح بوتفليقة”، ويتابع “التحولات التي تجري في الجزائر من شأنها تغيير اللعبة السياسية التي حكمت بها السلطة الجزائرية المجتمع منذ الاستقلال وكانت مبنية على فكرة وجود “خطر” اسمه المغرب، فالجزائريون الموجودون في الشارع لن يقتنعوا بأسطورة العداء أو دعم البوليساريو في نزاع صرف عليه المسؤولون الجزائريون أكثر من 500 مليار دولار منذ بومدين إلى بوتفليقة”.
وتوقع الخبير المغربي أن “تبدأ نداءات من داخل المجتمع الجزائري وحركاته الجديدة تطالب بفتح الحدود، لكن هذه التطورات لن تكون بسرعة لكون الجزائر ستدخل مرحلة انشغال داخلي إلى حين اتضاح المسار، لهذا يمكن توقع تغييرات في العلاقات المغربية الجزائرية بعد سنة من استقالة بوتفليقة”.
الحرس القديم ما زال في الواجهة
يرى الناشط السياسي الموريتاني حسين حمود أن تأثير رحيل بوتفليقة عن قصر المرادية سينعكس حتمًا على العلاقات المغربية الجزائرية، وهذا التأثير سيظهر بشكل فعلي في الفترة القليلة القادمة، وفق قوله في تصريح لنون بوست.
ويقول في حديثه لنون بوست: “بوتفليقة ينتمي إلى الحرس القديم في هرم السلطة الجزائرية الذي حافظ على نفس النهج السياسي تجاه المغرب المدعوم بموقف ثابت من المؤسسة العسكرية بالتالي إذا كان قايد صالح وقيادة الجيش من سيتحكمون في المشهد مستقبلاً، وسيحسم شد الحبال بينهم وبين سعيد بوتفليقة لصالحهم فلن يحصل تغيير مستقبلي كبير على العلاقات مع المغرب وصولاً إلى مرحلة التطبيع السياسي الكامل”.
أما “خروج تكنوقراط أو طبقة سياسية جديدة منبثقة عن المرحلة الانتقالية، فذلك بالتأكيد سيفتح أبواب الحوار خاصة أن مطالب المعارضة وبعض هيئات المجتمع المدني سبق أن أظهرت في الماضي مطالب بإنهاء ملف الخلاف مع المغرب”.
استقالة بوتفليقة لا تعني حتمًا تطبيعًا فوريًا للعلاقات بين البلدين، فنظام المخزن بدوره ما زال حاكمًا في المغرب، وهو مساهم بدوره في إطالة أمد الأزمة بين البلدين
بدوره، قال الصحفي الجزائري محمد لمين مغنين: “العلاقات المغربية الجزائرية دائمًا ما عرفت اضطرابات على مستوى الحكومات بينما محبة وتآخي بين الشعبين”، ويضيف مغنين في تصريح لنون بوست “رحيل بوتفليقة ليس الفيصل الوحيد لتغيير هذه العلاقات، فقد وجب انتظار ما سيفرزه الصندوق في الانتخابات القادمة”.
ويرى الصحفي الجزائري، أنه “إن استطاع النظام الحاليّ تجديد نفسه أعتقد أن العلاقة ستبقى ثابتة، لكن في حالة تمكن الشعب الجزائري من اختيار رئيس آخر لا يمثل هذا النظام فأعتقد أن هذا الموضوع سيعرف الجديد”، وفق قوله.
مسؤولية “المخزن”
استقالة بوتفليقة لا تعني حتمًا تطبيعًا فوريًا للعلاقات بين البلدين، فنظام المخزن بدوره ما زال حاكمًا في المغرب، وهو مساهم بدوره في إطالة أمد الأزمة بين البلدين، رغم الخرجات الإعلامية التي دأب عليها لاتهام الجزائر بالمسؤولية الكاملة عما يحصل بين البلدين، وفق العديد من الخبراء.
ويؤكد الناشط السياسي الموريتاني حسين حمود، هذا الطرح ويقول في حديثه لنون بوست: “بالتأكيد المخزن المغربي يلعب دورًا كبيرًا فيما يحصل بين البلدين منذ سنوات عدة، ويتحمل جزءًا مهمًا من المسؤولية كذلك”.
ويضيف حمود “الموقف المغربي لحد الساعة ما زال غامضًا، وهو ما يظهر في التحفظ المغربي الكبير في الإدلاء بأي تصريحات بخصوص الأزمة السياسية على حدودها، ما يقودنا إلى استحالة الجزم بكيفية تعامل المملكة مستقبلاً مع قضية التطبيع السياسي مع الجزائر، حتى لو حصل هناك انفتاح سياسي جزائري في هذا الإطار”.
يتهم النظام المغربي الجزائر بالوقوف وراء الأزمة بين البلدين
من جهته، حمّل الصحفي الجزائري محمد لمين مغنين، النظام المغربي مسؤولية تدهور العلاقات بين البلدين، وقال: “المخزن هو الآخر يتحمل جزءًا كبيرًا خاصة أنه من أغلق الحدود بين البلدين سنة 1994 مما أدى إلى قطع صلة الرحم بين شعبين طالما تزاوجوا في بينهما”.
ويتواصل غلق الحدود البرية بين الجزائر والمغرب للسنة الـ22 بعد إغلاقها منتصف سنة 1994، على خلفية حادث مراكش الإرهابي الذي قرر عقبه الملك الراحل الحسن الثاني فرض التأشيرة على الجزائريين، ليأتي قرار الرئيس اليامين زروال بغلق الحدود البرية بين البلدين.
ماذا عن القوى الأجنبية؟
تطبيع العلاقات بين المغرب والجزائر، يقول العديد من الخبراء إنه قرار خارجي أيضًا، فلا يكفي القرار الداخلي حتى يتم التطبيع وتجاوز الخلافات السابقة بين البلدين، وبدء صفحة جديدة بينهما قوامها الاحترام المتبادل والصداقة والتعاون وصولاً إلى التحالف الثنائي خدمة للمغرب العربي الكبير.
يقول الناشط السياسي الموريتاني حسين حمود في هذا الشأن: “لا يجب إغفال الموقف الفرنسي والإسباني عن هذه القضية، لأن العامل الخارجي كان دائمًا مؤثرًا على تطور العلاقات بين البلدين كما أن التطبيع بينهم يعني خسارة اقتصادية كبيرة لهما.
وأشار حسين حمود إلى إمكانية محاولة كل من فرنسا وإسبانيا عرقلة تطبيع العلاقات بين المغرب والجزائر بكل الطرق الممكنة والمتاحة لهم، حتى يتسنى لهم المحافظة على مكاسبهم في المنطقة، فتحسن العلاقات بين الشقيقين المغرب والجزائر يعني خسارة فرنسا وإسبانيا معظم مكتسباتهم في المنطقة، وفق قوله.
تسعى كل من فرنسا وإسبانيا لإطالة أمد الأزمة بين المغرب والجزائر
يعتبر ملف الصحراء الغربية أحد أهم الملفات العالقة بين الجزائر والمغرب، وكان لتخلي إسبانيا عن الإقليم بموجب اتفاقية مدريد عام 1957 وإعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974 بحق شعب الصحراء في تقرير المصير والاستقلال وظهور جبهة البوليساريو كقوة عسكرية تتلقى الدعم من الجزائر، أثر في جعل إقليم الصحراء الغربية محور مهم من محاور عدم الاستقرار في العلاقات المغربية الجزائرية.
لم تكن قضية الصحراء الغربية، القضية الوحيدة التي أسهمت في توتر العلاقات بين البلدين، فمنذ حصول الجزائر على استقلالها سنة 1962، اتسمت العلاقات الجزائرية المغربية بالتوتر، وصلت حد المواجهة العسكرية المفتوحة، بعد أن خاضا في بداية الستينيات ما عرف بحرب الرمال بسبب مشكلة الحدود بينهما.