استقالة بوتفليقة، لم تكن نهاية حراك الجزائريين الذي انطلق منتصف فبراير/شباط الماضي، بل هي بداية المشوار الحقيقي، فالجميع في الجزائر يعلم، أن الخطر والفساد يكمن في رموز النظام، وليس في بوتفليقة لوحده، لذلك فهم مصريّن على ملاحقة تلك الرموز لمحاسبتها، خاصة في ضلّ دعم الجيش “الظاهر” للحراك.
من العهدة الخامسة إلى إسقاط النظام
في البداية خرج الجزائريون، في كبرى مدن البلاد، رافعين أعلامًا سوداء، تعبر عن الألم الشديد ورفضهم الكبير لإصرار السلطات الحاكمة فرض عبد العزيز بوتفليقة “القعيد” لخمس سنوات أخرى على كرسي الرئاسة.
رفع المتظاهرون حينها، لافتات كبيرة كتب على بعضها باللغة العربية والفرنسية “لا للإهانة، ولا للولاية الرئاسية الخامسة”، كما ردد المتظاهرون شعارات “السلطة مجرمة” و”الشعب يريد إسكات النظام“ و”الولاية الخامسة.. ولاية العار” و”نعم لإسقاط النظام”.
استجاب بوتفليقة لمطلب الشعب بعد رفض كبير، وقرّر الانسحاب من السباق الرئاسي، وتأجيل الانتخابات الرئاسية المقررة في 18 أبريل/نيسان القادم، بعد ثلاث أسابيع من الاحتجاجات المتواصلة في معظم المدن الجزائرية، ما اعتبره العديد من الجزائريين انتصارا للشعب في وجه النظام.
لم يكتفي الجزائريون بالتعبير عن فرحهم وغبطتهم الكبيرة برحيل عبد العزيز بوتفليقة عن قصر المرادية، فقد أكّدوا أيضا عزمهم على مواصلة المشوار
قال بوتفليقة، إنه “لا محلَّ لعهدة خامسة، بل إنني لـم أنْوِ قط الإقدام على طلبها حيـث أن حالتي الصحية وسِنّي لا يتيحان لي سوى أن أؤدي الواجب الأخير تجاه الشعب الجزائري، ألا وهو العمل على إرساء أسُس جمهورية جديدة تكون بمثابة إطار للنظام الجزائري الجديد الذي نصبو إليه جميعًا.”
فرح الشعب قليلا، ثم عاد مجدّدا للساحات والشوارع، مطالبا هذه المرّة باستقالة بوتفليقة. تجاهل الرئيس هذا المطلب وبدأ التحضير للفترة القادمة، وأرسل مبعوثيه لدول أجنبية لشرح خطته للفترة الانتقالية القادمة، غير أبه بمطالب الشعب.
اشتدّ الحراك، واشتدّت المظاهرات والاحتجاجات، وتنوّعت أساليبها، ما جعل بوتفليقة يستجيب لنداءات الشعب ويقدّم استقالته، تحت ضغط من الجيش الذي قرّر الاصطفاف إلى جانب الشعب بعد أن كان يصف المحتجين بالمغرّر بهم.
استقال الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لينهي بذلك مسيرة حكمه التي امتدت لأكثر من 20 سنة، استقال بوتفليقة بعد مكابرة، ليكون بذلك خامس رئيس عربي تسقطه الجماهير الثائرة، لحق بوتفليقة الذي تقلد مناصب عدة في الجزائر قبل أن يتولى حكم البلاد سنة 1999، بالرؤساء العرب المغضوب عليهم من الشعوب التي تطمح إلى التحرر من قبضة الديكتاتورية.
تواصل حراك الجزائريين للجمعة السابعة
نزل الجزائريون إلى الشوارع احتفالاً بهذا القرار، حاملين الأعلام الجزائرية ومرددين شعارات تمجد الشعب، فيما أطلق سائقو السيارات العنان لأبواق سياراتهم احتفالاً بانتصار الحراك الشعبي الذي انطلق في 16 من فبراير/شباط الماضي.
لم يكتفي الجزائريون بالتعبير عن فرحهم وغبطتهم الكبيرة برحيل عبد العزيز بوتفليقة عن قصر المرادية، فقد أكّدوا أيضا عزمهم على مواصلة المشوار، لإجبار كلّ رموز النظام “الفاسد” على الرحيل ومحاسبتهم على اقترفوه في حقّ الجزائر والجزائريين.
على الجميع الرحيل
يرى العديد من الجزائريين أن هذه الجمعة السابعة في تاريخ الحراك الشعبي، هي أهم من الستة التي سبقوها، فهي بمثابة جمعة حماية الثورة من الذين يريدون اختطافها، و وأدها في مهدها، خوفا من أن يطالهم لهيبها وتتم محاسبتهم وتتبعهم قضائيا وشعبيا.
ويستعدّ الجزائريون اليوم، للخروج في جمعة سابعة من الاحتجاجات المطالبة بتغيير سياسي جذري بعد استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ويعتزم المتظاهرون المطالبة بإقصاء من يصفونهم برموز النظام من إدارة المرحلة الانتقالية، ومحاسبتهم.
من المنتظر أن يطالب المحتجين اليوم، برحيل كل من رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح (الرئيس المنتظر)، ورئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز، ورئيس الوزراء المعين حديثا نور الدين بدوي، فضلا عن باقي رموز النظام الذين يكابرون إلى الآن ولم يعلنوا ولاءهم للشعب.
في حال سارت الأمور طبقا للدستور يفترض أن يحلّ بن عبد القادر بن صالح الذي يرأس مجلس الأمة منذ 16 عاماً بدعم من بوتفليقة، مكان الرئيس المستقيل لمدة ثلاثة أشهر يجري خلالها التحضير لانتخابات رئاسية. أما الطيب بلعزيز الذي ظل وزيرا لمدة 16 عاماً شبه متواصلة، فيرأس للمرة الثانية في مسيرته، المجلس الدستوري المكلف التأكد من نزاهة الانتخابات، فيما يوصف رئيس الحكومة نور الدين بدوي بأنّه “مهندس التزوير الانتخابي وعدو الحريات”.
يخشى العديد من الجزائريين أن يتراجع الجيش عن حمايتهم ويلتفّ على مطالبهم كما حصل سابقا
وكانت نحو عشرين جمعية من المجتمع المدني اعتبرت أوّل أمس الأربعاء استقالة بوتفليقة غير كافية، وقالت إنها ترفض عملية انتقالية تكون في صلب النظام نفسه، ودعت إلى التظاهر مجددا يوم غد لتحقيق ما وصفته بتغيير ديمقراطي.
يأمل الجزائريون أن يفضي حراكهم والفترة الانتقالية القادمة إلى قيام جمهورية جديدة على أسس ديمقراطية، جمهورية لا مكان فيها لمن أذنب في حقّ البلاد والعباد، جمهورية تحاسب الجميع على تقصيرهم، حتى لا يتكرّر الأمر مرة أخرى.
في الأثناء، يستعد البرلمان الجزائري لعقد جلسة مشتركة لمجلسيه (المجلس الوطني الشعبي ومجلس الأمة) لإعلان شغور منصب رئيس البلاد بعد استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، مما يفسح المجال لتولي رئيس مجلس الأمة المنصب لمدة تسعين يوما تنظم خلالها انتخابات رئاسية. وكان المجلس الدستوري الجزائري أعلن، الأربعاء، شغور منصب رئاسة الجمهورية نهائيا طبقا للمادة 102 من الفقرة الخامسة من الدستور، وقال إنه أبلغ البرلمان بقراره، وطلب نشره في الجريدة الرسمية.
حذر متواصل من الجيش
يحاول الجزائريون كسب انضمام الجيش بقيادة الفريق قايد صالح وإن كان ظاهريا إلى صفهم، وتأكيد حرصه على نجاح عملية الانتقالي السياسي في البلاد، لإنجاح حراكهم الشعبي المتواصل منذ منصف شهر فبراير/شباط الماضي وتحقيق جميع مطالبهم.
وغالبا ما تصدر شعار “جيش.. شعب خوا ( إخوة)” الشعارات التي رفعها المتظاهرون في العديد من تحركاتهم الاحتجاجية، خاصة في العاصمة التي يمنع فيها التظاهر منذ العام 2001، للتأكيد على ثقتهم في الجيش في حماية ثورتهم والمحافظة عليها.
ما يسجل في هذا الحراك الشعبي، أن الجيش لم يتدخل إلى فضه ولم يستعمل القوة للحد من انتشاره كما كان متوقعًا منذ البداية، ما جعل المتظاهرين يتغنون بالجيش ويرفعون شعارات داعمة له، رغم أنه جزء أساسي من النظام أو لنقل أنه المتحكم الأول في النظام الحاكم في البلاد منذ عقود عدة.
رغم كلّ هذا، يبدو الجزائريين أكثر حذر من أي وقت مضى من الجيش وقيادتها التي تعتبر ركيزة النظام والعمود الفقري له، فليس من السهل أن يتخلّى الجيش عن الامتيازات التي كان يتمتع بها في ظلّ نظام بوتفليقة ويرجع إلى ثكناته دون مكاسب، فالثورة إن نجحت ستجرّده كلّ ذلك، وهو الأمر غير مقبول عند قيادة الجيش لأسباب عدّة.
يعتبر الجيش عماد النظام في الجزائر
يخشى العديد من الجزائريين أن يتراجع الجيش عن حمايتهم ويلتفّ على مطالبهم كما حصل سابقا، وكان الجيش الجزائري قد أوقف مسار الانتخابات التشريعية سنة 1991، تلك الانتخابات التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد إقالة الرئيس الشاذلي بن جديد مطلع 1992 الذي كان عاقدًا العزم على التعايش مع الإسلاميين ولو شكلوا الأغلبية البرلمانية، وانقلب على نتائجها.
تتهم أوساط جزائرية الجيش بالسيطرة على الحياة العامة في البلاد والتغلغل داخل مؤسسات الدولة وسحق إرادة الشعب، نظرًا لعمله خارج حدود وظيفته، ووجوده كعامل رئيسي ومرجح في أي انتخابات في البلاد أو أي حدث في مجال آخر.
يعتبر الجيش الجزائري صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في البلاد، ومنذ استقلال الجزائر والجيش يحكم قبضته الحديدية على مقاليد الحكم هناك، فيتحكم في الاقتصاد وينتج الحكام ويطيح بهم متى أراد وبالطريقة التي يريد، وهو ما يزيد من خشية الجزائريين لذلك فإنهم شديدي الحذر هذه المرة حتى لا تفتكّ ثورتهم من بين أيديهم ويرجعوا إلى بيوتهم صاغرين.