لقد حقق الصحفي السعودي بموته أكثر بكثير مما حققه في حياته وذلك من خلال إطلاق نقاش بين عامة الناس حول الطريقة التي تُحكم من خلالها المملكة..مرت ستة أشهر منذ أن دخل جمال خاشقجي إلى القنصلية السعودية في إسطنبول ولم يخرج منها.
مع كل معلومة مروعة جديدة حول المسلخ المتنقل الذي خطا إليه جمال خاشقجي برجليه – وثمة المزيد على الطريق – وحول فرقة النمر التي نظمت عملية اغتياله واغتيال معارضين آخرين، والتستر على الجريمة ونفي المسؤولية عنها، يزداد عمق الأزمة التي يعيشها ولي العهد محمد بن سلمان الذي يعتقد أنه أمر بقتل خاشقجي.
هذا الأمير الذي أشرف بنفسه على رسم صورة مشرقة له في وسائل الإعلام الغربية بينما كان يصعد سريعاً إلى رأس هرم السلطة في المملكة، بات الآن يجد نفسه وقد رسمت له صورة وحش كاسر.
على المرء سوى العودة إلى المقابلة التي أجراها معه ستة من خيرة وألمع صحفيي بلومبيرغ بعد أيام قليلة من جريمة القتل التي وقعت داخل القنصلية، حينها، تعاملت بلومبيرغ مع اختفاء خاشقجي كقضية ثانوية مقارنة بما اعتبرته الخبر الأهم والخاص بطرح أسهم أرامكو للتداول العام
خلال ستة أشهر، تحول ابن سلمان من مصلح إلى مستبد، ومن كونه حجر الزاوية في الجهود المبذولة لإيجاد زعامة “إسلامية معتدلة” للعالم العربي السني إلى المصدر الأكبر لانعدام الاستقرار في المنطقة.
لإدراك المسافة التي قطعتها صورة ابن سلمان خلال تلك الفترة، ما على المرء سوى العودة إلى المقابلة التي أجراها معه ستة من خيرة وألمع صحفيي بلومبيرغ بعد أيام قليلة من جريمة القتل التي وقعت داخل القنصلية، حينها، تعاملت بلومبيرغ مع اختفاء خاشقجي كقضية ثانوية مقارنة بما اعتبرته الخبر الأهم والخاص بطرح أسهم أرامكو للتداول العام، أو خطط استثمار 45 مليار دولار في مصرف “سوفتبانك”.
سمح الصحفيون الذين أجروا المقابلة مع ولي العهد بأن يفلت من المساءلة رغم الكذب الصراح الذي صدر عنه حين قال: “نسمع شائعات حول ما حدث. إنه مواطن سعودي ونحن حريصون على معرفة ما الذي حصل له. وسوف نستمر في الحوار مع الحكومة التركية لتقصي ما الذي حدث لجمال هناك.”
حقيقة أنه بات من المستحيل أن تقرأ مثل هذا التحقيق الصحفي اليوم دون أن تضحك إنما هي مقياس لتلك الوصمة التي لا تمحى، والتي لطخ بها دم خاشقجي ابن سلمان. إنها وصمة لا قبل لأي مبلغ من المال أو جهد في العلاقات العامة أن يغسلها.
الحسن والسيئ والقبيح
وكما اكتشفت صحيفة الفاينانشال تايمز ومصارف سوفتبانك وجيه بيه مورغان وكريديت سويس وعدد كبير من مدراء المؤسسات المالية العالمية الكبرى، الذين ألغوا مشاركتهم في مبادرة الاستثمار المستقبلي، والتي أطلق عليها اسم دافوس الصحراء، بات من المهلك أن يُرى المرء ماداً يده إلى جيوب السعوديين.
كان لابد من المسارعة إلى إعادة صياغة كل ما كان يصدر من مدائح بحق ولي العهد، كتلك التي كان يتغنى بها توم فريدمان في نيويورك تايمز ودافيد إغناتيوس في الواشنطن بوست وفرانك غاردنر في البي بي سي وغيرهم في الغارديان وفي التايمز اللندنية، بل لقد ذهب فريدمان إلى حد “الكشف” عن أن واحداً من مصادر معلوماته فيما كان يكتبه في عموده كان في واقع الأمر جمال خاشقجي ذاته.
بطبيعة الحال، كانت الفجوة دوماً كبيرة جداً وبشكل غير مريح بين الواقع وبين الرؤية الغربية لما هو حسن وسيئ وقبيح في المنطقة، ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى وجود مواقع مثل ميدل إيست آي، لم تشكل جريمة قتل خاشقجي مفاجأة كبيرة للسعوديين أنفسهم.
وقعت الجريمة بعد عام كامل من إلقاء القبض على عدد كبير من العلماء المسلمين والنشطاء الشيعة وما يزيد على 365 من أفراد الديوان الملكي ونخبة رجال الأعمال الذين احتجز بعضهم داخل فندق الريتز كارلتون في الرياض. لم يعتقل ابن سلمان رجال الأعمال ويأمر بتعذيب بعضهم لأنهم لم يكونوا أقل فساداً منه أو من والده، وإنما ببساطة لأنهم شكلوا عقبة في طريقه، ولأنه كان بحاجة إلى أموالهم. مازالت تداعيات الريتز كارلتون قائمة حتى يومنا هذا، إذ إن من أطلق سراحهم من السجن مازالوا لا يملكون حرية السفر ولا استئناف نشاطهم التجاري.
كان أول رد فعل للموالين للنظام هو التبجح بقتل خاشقجي
لقد شكل العلماء المسلمون خطراً سياسياً على ولي العهد لأنهم، مثلهم في ذلك مثل خاشقجي، كانوا معتدلين يؤيدون الإصلاح. وعندما تعتمد شرعيتك على المساندة الغربية، فإنك تخلص إلى ذلك الاستنتاج المرضي. منذ اليوم الأول، كانت السلطة، وليس الإصلاح، هي ما وضعه ابن سلمان نصب عينيه.
ولذلك كان أول رد فعل للموالين للنظام هو التبجح بقتل خاشقجي. خذ على سبيل المثال تغريدة فيصل الشهراني التي قال فيها: “تغادر بلدك باستكبار تعود إليها بذل وهوان.” أما الأمير خالد بن عبدالله آل سعود فبعث برسالة إلى معارض سعودي آخر يقول له فيها: “ألا ترغب في المرور بالسفارة السعودية؟ يريدون التحدث معك وجهاً لوجه.”
النأي والإلهاء
لربما نزل رد الفعل على جريمة قتل جمال خاشقجي على الأمير الشاب كالصاعقة لأنه حتى تلك اللحظة كان يفلت من أي مساءلة أو حساب على الرغم من حجم ما ارتكبه من فظائع.
وما فتئ حتى اليوم يبحث بصعوبة عن استراتيجيات تمكنه من احتواء الأزمة. وكان أول ما خطر بباله أن يشتري سكوت الأتراك، فقام بنفسه بالاتصال بشخصية كبيرة في جهاز المخابرات التركي ليدعوه إلى الرياض قائلاً: “يمكننا حل الإشكال في أمسية واحدة.” إلا أن الرجل رفض التواطؤ معه، وذلك ما فعله أيضاً الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
ومع تنامي جسامة الجريمة، أوفد الملك سلمان مستشاره الأمير خالد الفيصل إلى أنقرة. وهناك، تقدم خالد الفيصل بسلسلة من العروض أثناء لقاء جمعه بالرئيس أردوغان، وكان من ضمن ذلك أن تقوم السعودية بمساعدة تركيا من خلال الاستثمار فيها وكذلك من خلال شراء الأسلحة منها.
فما كان من أردوغان إلا أن قاطعه، بحسب ما أفاد به مصدر مطلع، وسأله بكل صراحة: “هل تحاول أن ترشيني؟”، ثم سُمح للأمير خالد بالاستماع إلى شريط مدته خمس عشرة دقيقة يحتوي على تسجيل لوقائع جريمة قتل خاشقجي، فعاد من حيث أتى بخفي حنين.
منذ ذلك الحين، كانت استراتيجية ابن سلمان المزدوجة هي النأي بنفسه عن الأحداث التي أمر هو ذاته بتنفيذها ثم ممارسة الإلهاء، منذ البداية كان محكوماً بالفشل على محاولاته الادعاء بأنه لم يكن يعرف شيئاً عن الجريمة التي نفذها فريق موت هو نفسه من كونه وأشرف على إعداده. فما كان يفترض أن يغدو اختفاء غامضاً لمواطن سعودي داخل القنصلية السعودية انتهى الأمر به لأن يصبح الجريمة الأدق تسجيلاً والأكثر توثيقاً وانكشافاً في التاريخ الحديث.
ببساطة، هناك كم هائل من الأدلة التي تشير بإصبع الاتهام إليه.
الأب والابن
لم تكتف مديرة المخابرات الأمريكية (السي آي إيه) جينا هاسبيل بأخذ الدليل الذي وثقه الأتراك بالتسجيل بل أضافت إليه ما جمعته أجهزة الرصد الأمريكية حول العالم. لربما كان محمد بن سلمان قادراً على تحدي ابن عمه الأكبر والأكثر خبرة منه محمد بن نايف، بل وحتى سحقه، ولكنه يعلم أنه لا قبل له بتحدي المخابرات الأمريكية. بوليصة التأمين الوحيدة المتبقية لديه تتمثل في دونالد ترامب نفسه، ومن يدري فقد تنتهي صلاحية هذه البوليصة.
ولكنه لا يسأم المحاولة المرة تلو الأخرى. وكانت آخر محاولاته سلسلة التسريبات لصحيفة الغارديان التي تزعم بأن الملك قرر استعادة زمام الأمور من ابنه. ورد فيما نشرته الصحيفة أن تقارير طبية تفيد بممارسة التعذيب وارتكاب انتهاكات بحق المعتقلين قد مررت إلى الملك تمهيداً لقيامه بإصدار عفو.
وهذه حيلة سبق أن جربت واختبرت من قبل الدائرة المحيطة بالابن، وذلك أن الملك نفسه يعاني من الخرف، ولا أدل على ذلك من الصعوبة التي يجدها في قراءة خطاب أُعد له كما تجلى بوضوح في قمة شرم الشيخ التي انعقدت مؤخراً.
ليس بإمكانه الإجابة على الأسئلة، كما تبين من المحادثة الخاصة التي تمت بينه وبين أردوغان بعد الكشف عن جريمة قتل خاشقجي. ما من شك في أنه سجين لدى ابنه مثله في ذلك مثل غيره.
الملك سيظل، طالما هو على قيد الحياة، المصدر الوحيد الذي يستمد منه ابنه شرعيته، وبذلك تحول الأب إلى أداة في يد الابن
يتحكم حراس محمد بن سلمان في الوصول إليه لدرجة أن أحد أصدقائه القدامى، والذي يحب أن يلعب معه الورق، حيل بينه وبين الدخول عليه. ولذلك تحوم الشكوك حول الزعم بأن مثل هذا الملك، في مثل حالته تلك، يوجد في وضع يمكنه من مساءلة ولده الذي يُحكم قبضته تماماً على مقاليد الأمور في البلاد.
إلا أن الملك سيظل، طالما هو على قيد الحياة، المصدر الوحيد الذي يستمد منه ابنه شرعيته، وبذلك تحول الأب إلى أداة في يد الابن. عندما أدرك محمد بن سلمان أنه تجاوز كثيراً في تبني مشروع ترامب المعرف بصفقة القرن، وخاصة فيما يتعلق بالتخلي عن مطلب أن تكون القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية في المستقبل، قيل إن الملف الفلسطيني سُحب منه وأن الملك استعاده. وتم اللجوء إلى نفس الحيلة حينما أخفقت مساعيه لعرض أسهم أرامكو للاكتتاب الدولي.
لا يوجد إلا مصدر واحد للسلطة في المملكة، وإن كان يوجد لها رمزان. دور الملك في هذه الحالة يتمثل في أن يكون الدمية في يد ابنه.
الشبكة
والوسيلة الأخرى التي يتم اللجوء إليها لاستعادة ما تم فقده بسبب قتل خاشقجي هي الإلهاء. فكما ورد في بعض التقارير، صدرت سلسلة من الأفكار عن لجنة الطوارئ التي شكلها ولي العهد للتعامل مع أزمة خاشقجي.
واحدة من تلك الأفكار اقتراح الترتيب لمصافحة على نمط كامب دافيد مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنجامين نتنياهو – وذلك بهدف كسب دعم الكونغرس الأمريكي وتنصيب الأمير في موقع صانع السلام في الشرق الأوسط.
ولكن حتى هذا المقترح لم يفض إلى شيء. في تلك الأثناء تم الكشف عن المزيد والمزيد من التفاصيل المتعلقة بالشبكة التي قامت بإطلاق محمد بن سلمان على مستوى الساحة الدولية، وهي نفس الشبكة التي يُزعم أنها استخدمت لتهكير هاتف جيف بيسوس، الرئيس التنفيذي لشركة أمازون.
يحمل ذلك في طياته رسالة واحدة مفادها أن الأمير، الذي تم تسويقه قبل ستة شهور بأنه النظام الجديد في الشرق الأوسط، اتضح أنه حيث تواجد يصبح المربك والمعيق لكل نظام.
إدراك حقيقة الأمر
وإذ يُجرد من الدعم الدولي ومن البهرجة الدعائية ومن المال ومن الصورة، يتم إدراك حقيقة الحياة في ظل محمد بن سلمان، وخاصة لدى قطاع الشباب الذين سارع الكثيرون منهم إلى تأييده.
وكما أخبرني جمال خاشقجي ذات مرة: “سوف يدعم الشباب محمد بن سلمان حتى اللحظة التي يبدأون فيها بفتح محفظاتهم. حينها لن يهم كم عدد دور السينما التي يسمح لهم بالتردد عليها.” وذلك ما بدأ يحصل بالفعل.
مع توقف أسعار النفط عن الارتفاع اضطرت المملكة إلى إصدار دين إضافي قيمته 31.5 مليار دولار لتمويل العجز في الميزانية، يضاف إلى الدين المحمول من السنة السابقة ومقداره 150 مليار دولار.
كما آلت إلى الفشل كل محاولات تنويع الاقتصاد الذي يعتمد بشكل مطلق على النفط حالياً، وغادر المملكة ما يقرب من مليون عامل أجنبي بعد أن فرضت عليهم ضرائب بهدف فتح سوف العمالة أمام المواطنين السعوديين.
لكن ذلك أيضاً لم يتحقق، حيث تقوم كثير من الشركات بتسجيل عمالها الأجانب تحت مسميات سعودية، الأمر الذي دفع المملكة إلى التنديد بتلك الممارسة من خلال توجيه خطباء الجمعة للحديث عن ذلك، ولقد صدم كثيراً من المتدينين لجوء الحكومة إلى تحذير قطاع الأعمال من مغبة اللجوء إلى مثل هذه الوسائل عبر توجيه رسائل يحملها إلى الجمهور خطباء الجمعة.
ولم تفلح الخصخصة كذلك. يعتبر مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث التابع له جوهرة التاج في قطاع خدمات الصحة السعودي. وهو واحد من مستشفيين يعالج فيهما أفراد العائلة الحاكمة. وهنا أيضاً تمت معالجة المجموعة الأولى من معتقلي الريتز كارلتون بعد تعرضهم للتعذيب.
ولكي يتمكن المستشفى من الوفاء بالتزاماته تجاه زبائنه، تم إسكان مديره التنفيذي الدكتور قاسم القصبي وعائلته في فيلا داخل حرم المستشفى، الذي كان على درجة عالية من التجهيز التقني المتقدم حتى أنه كان من أوائل المؤسسات التي أعلن أن الخصخصة ستشملها.
الطريقة التي يتم بموجبها “الإصلاح” في المملكة. إنها أشبه ما تكون بدوامة الخيل الخشبية، حيث يجد السعوديون أنفسهم قد عادوا إلى النقطة التي بدأوا منها قبل ثلاثة أعوام
جاء الإعلان مفاجئاً للمستشفى نفسه، ورغم تشكك القصبي من جدوى المشروع إلا أنه مضى قدماً في إنفاذ المخطط. تم توظيف الشركات وطُلبت الأسعار والكلف، ثم فجأة في شهر يوليو / تموز من عام 2017 صدر أمر للقصبي بإخلاء فيلته ثم اختفى. ظل المستشفى لأسابيع في حالة من الفوضى العارمة إلى أن عين له مدير جديد، لم يحدث شيء، ثم في فبراير / شباط ظهر القصبي من جديد وقد عين رئيساً لمجلس إدارة المستشفى بمرسوم ملكي، وانتهى بهدوء كل الحديث عن الخصخصة.
تلك هي الطريقة التي يتم بموجبها “الإصلاح” في المملكة. إنها أشبه ما تكون بدوامة الخيل الخشبية، حيث يجد السعوديون أنفسهم قد عادوا إلى النقطة التي بدأوا منها قبل ثلاثة أعوام.
إشارات واشنطن المتناقضة
في ظل سوء الإدارة هذا يُضعف الأمير مملكته وينخرها من داخلها. تسود أوساط العائلة الملكية مشاعر السخط والحنق والخوف، ولكن أحداً من أفرادها لن يحرك ساكناً دون أن يرى الضوء الأخضر من واشنطن.
ولكن واشنطن تبعث إليهم بإشارات متناقضة، ولا يوجد في كل ذلك أثر لشقيق الملك الأصغر الأمير أحمد بن عبد العزيز منذ عودته، علماً بأنه كان قد وجه نقداً علنياً للأمير الشاب البالغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاماً.
كان جمال خاشقجي رجلاً دمثاً، وطالما اعتبر نفسه واحداً من أفراد المؤسسة ومن الموالين للنظام الملكي، وكان يكره فكرة العيش في المنفى بعيداً عن عائلته. ولكنه في نفس الوقت علم بأن ذلك كان قدره.
لم يكن في حياته يقاوم رسم ابتسامة متجهمة على محياه. وما من شك أنه منذ وفاته قبل ستة شهور تمكن من تغيير صورة النخبة الحاكمة وبنهاية المطاف وضع الأساس لإصلاحات حقيقية ولحوار شعبي حقيقي حول طريقة إدارة شؤون البلاد والعباد في المملكة، وهذا إنجاز يفوق كل ما قدمه في حياته التي امتدت لتسعة وخمسين عاماً.
المصدر: عربي21