في شهر أبريل/ نيسان من عام 1994، تحولت رواندا، الدولة الجميلة إلى مقبرة جماعية مليئة بأكوام من العظام والجماجم، إذ تحول أفراد العائلة الواحدة إلى أعداء وانقلب الجار على جاره ولم يعد للحب والسلام مكانًا فيها لمدة 100 يوم من القتل والاغتصاب والذبح، والتي انتهت بقتل 800 ألف شخص بطريقة وحشية ومهينة، وسط تحريض إعلامي وصمت غربي والكثير من التساؤلات حول طريق النجاة من الكراهية والرعب.
وعلى ما يبدو أنه بعد 25 عامًا تقريبًا من انتهاء هذه الإبادة، تحققت معجزة الخلاص ونجح السلام في إعادة بناء المجتمع الرواندي الذي ساعد بطبيعة الحال على إدارة مشاكل بلده، مانحًا لنفسه الحق بالمضي قدمًا، بعيدًا عن آلام الانكسار من فقدان حوالي 11% من إجمالي السكان.
كيف بدأت الإبادة الجماعية في رواندا؟
يتكون المجتمع الرواندي من 3 جماعات عرقية وهي الهوتو بنسبة 84%، والتوتسي بنسبة %15، وتوا بنسبة 1%، وكانت الأجواء بينهم آنذاك صافية وتتسم بالانسجام والتعاون، على الرغم من الاختلافات الاقتصادية بينهم، فلقد كان يحدد انتمائهم ليس بناء على الخلفية الدينية أو الثقافية، وإنما بعدد ما يملكه الفرد من البقر. فعلى سبيل المثال، كان من يمتلك أكثر من 10 بقرات يعتبر توتسي الهوية، ومن يملك أقل من ذلك فهو هوتو، ومن لا يمتلك شيئًا كان يطلق عليه توا.
انتشرت القوات البلجيكية في البلاد وباشرت في قياس أوزان الروانديين وأحجام جماجمهم وأطوال أنوفهم، أشارت إلى أن للتوتسي مواصفات أكثر نبلًا من الهوتو، مشبهةً الفئة الأخيرة بالحيوانات
وتبعًا لذلك، كان الهوتو أشخاصًا يعملون في الزراعة والمناطق الريفية، بينما كان التوتسي يهتمون برعي الماشية وتملك الأراضي. وبطبيعة الحال، كان من الممكن التحول إلى أي طائفة بحسب هذا المعيار إلى أن جاء الاستعمار الألماني (1890-1916) والبلجيكي (1918-1962)، وعزز سياسات التفرقة العنصرية بجميع أشكالها ومنع هذه المرونة الاجتماعية، ففي البداية، انتهجت الإدارة الاستعمارية أساليب جديدة، فلقد اهتمت أولًا بأقلية التوتسي من الناحية التعليمية، وأكثرت من بناء المدارس الفرنسية في أوساطهم ووفر تلهم المنح والبعثات التعليمية، ما جعلهم أكثر قدرة وكفاءة في تولي المناصب السياسية الهامة.
وبعد ذلك، انتشرت القوات البلجيكية في البلاد وباشرت في قياس أوزان الروانديين وأحجام جماجمهم وأطوال أنوفهم، وبناءً على بعض المعايير، أشارت إلى أن للتوتسي مواصفات أكثر نبلًا من الهوتو، مشبهةً الفئة الأخيرة بالحيوانات، ومن ثم ثبتت هذه الاختلافات عبر إصدار بطاقات هوية لكل رواندي مع إضافة الانتماء الإثني له، في عام 1933.
ونتيجة لذلك، لم يعد ممكنًا لرواندي أن يغير انتمائه العرقي، وباتت هذه الوثيقة الرسمية الوهمية واحدة من أهم العوامل التي استبقت ومهدت الطريق إلى حدوث واحدة من أكثر المجازر التاريخية رعبًا ودموية، وذلك بالإضافة إلى عوامل أخرى، منها دعم الاستعمار السياسي للهوتو وتحريضهم على المطالبة بحقوقهم السياسية وإزاحة التوتسي من مواقع السلطة والحكم المحلية، ولتحقيق ذلك، انتفض الهوتو على التوتسي وهاجموهم في منازلهم وأماكن عملهم.
كشرت العداوة القبلية عن أنيابها حين أسقطت طائرة كانت تقل الرئيس الرواندي آنذاك، جوفينال هابياريمانا ونظيره البوروندي سيبريان نتارياميرا وقتل جميع من كانوا على متنها
بدأت هذه الثورة الفوضوية في عام 1959، وسقط على إثرها الحكم الملكي للتوتسي وقتل فيها 100 ألف من التوتسي وهاجر حوالي 20 ألفًا آخرين منهم إلى دول مجاورة من بينها أوغندا والكونغو وبوروندي، في هذه الأثناء، خاضت البلاد انتخابات لم يشارك فيها سوى الهوتو، ولم يكن إلا غريغور كايباندا خيارًا لرواندا كأول رئيس مدني يحكم رواندا من جماعة الهوتو. وبالرغم من الفظائع التي شهدتها البلاد آنذاك، إلا أنها لا تقارن بما خاضته في السنوات التالية، إذ توالت المذابح والانتقامات العدائية بين القبيلتين منذ ستينيات القرن العشرين وحتى بداية التسعينيات، مخلفةً ورائها ما يزيد عن مليون ونصف من الضحايا.
والكارثة الكبرى كانت في ليلة السادس من إبريل/نيسان عام 1994، كشرت العداوة القبلية عن أنيابها حين أسقطت طائرة كانت تقل الرئيس الرواندي آنذاك، جوفينال هابياريمانا ونظيره البوروندي سيبريان نتارياميرا وقتل جميع من كانوا على متنها، ومنذ انتشار خبر السقوط، لام الهوتو جماعة “الجبهة الوطنية المتمردة” التي تنتمي إلى التوتسي، وبالمقابل اتهمت الجبهة الهوتو بعملية الاغتيال.
تحولت هذه الاتهامات لاحقًا إلى مناجل (آلات زراعية مكونة من الحديد أو الفولاذ وحافتها الداخلية حادة وسميكة) بأيدي جماعات الهوتو الذين انتشروا في الطرقات والأحياء لقتل جميع المنتمين للتوتسي حتى وإن كانت زوجاتهم أو أحد أفراد أقاربهم، تاركين العالم مندهشًا من قدرة الروانديين على القسوة على أبناء وطنهم.
شارك في هذه المجزرة المؤسسات الإعلاميات التي وصفت التوتسي بـ”الصراصير الواجب إبادتها”، قائلةً: “دعونا نفرح أيها الأصدقاء، فالصراصير ليست كثيرة”، وداعيةً إلى إقصاء التوتسي وقتلهم في منازلهم وقراهم على اعتبار أنهم “أعداء الوطن” و”أعداء الدولة”، وبالتالي لم يعد الهوتو يرى التوتسي بشرًا مثله أو كائن يستحق الحياة، وذلك أيضًا بتحريض من المستعمر البلجيكي الذي لطالما روج للفكرة التي تشير للتوتسي على أنهم عبيد والهوتو هم السادة.
انتهت هذه الكارثة بسيطرة الجبهة الوطنية الرواندية على مناطق كثيرة ومدعومة من الجيش الأوغندي، وتلاها هروب نحو مليوني شخص من الهوتو المدنيين وبعض المتورطين في جرائم الإبادة إلى جمهورية الكونغو خوفًا من الهجمات الانتقامية، ومن خلال ذلك انتقل وباء الإبادة إلى داخل الجمهورية وأدى إلى قتل 5 مليون شخص. علمًا أنه تم اتهام الكونغو بتسليح جماعات من الهوتو وتحريضهم على الأمن الرواندي.
في نهاية عام 1996، حاكمت السلطات الرواندية المسؤولين عن الإبادة ووصلت إلى 100 ألف مشتبه وفي نفس الوقت، باشرت المحكمة الجنائية عملها بخصوص المتورطين في هذه الجريمة وأصدرت أول أحكامها في عام 2016 في حق 33 متهم، من بينهم قادرة وعساكر.
كيف تخطت رواندا الأزمة؟
كانت بداية الصعود من مستنقع الحرب والدم مع بول كاغامي الذي تولى السلطة في عام 2000 وحدد استراتيجية ورؤية واضحة لإدارة البلاد وإنقاذها من الفوضى التي التهمت ثرواتها وأبنائها، وأولى الأهداف هي توحيد الشعب وانتزاعه من الفقر، ولتحقيق ذلك أعلن دستور جديد يحظر فيه استخدام مسميات الهوتو والتوتسي، وجرم استخدام أي خطاب له طابع عرقي، وتدريجيًا بدأت هذه الخطة في تحقيق صدى إيجابي في المجتمع، إذ عاد اللاجئون إلى بلادهم واجتهدت المنظمات المسؤولة عن إعادة الحقوق للضحايا.
أما فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، وضعت الحكومة رؤية لاقتصادها في عام 2020، وتشمل 44 هدفًا في مجالات متنوعة تعنى بتنمية وتطوير الاقتصاد، فاستغلت ثروات البلاد في قطاع الزراعة والسياحة والتعدين، ما ساهم في تحقيق نمو بنسبة 5.9% عام 2016، وإضافة نحو 9 مليارات دولار في الناتج المحلي الإجمالي، كما أن حجم التجارة لديها بلغ 603 مليون دولار وبلغت قيمة الواردات نحو 439 مليون دولار، بينما وصلت الصادرات إلى 164 مليون دولار.
وبعد أن حققت أهدافها المرسومة، ارتفع دخل الفرد عام 2015 إلى 30 ضعف عما كان عليه قبل الإبادة، معتمدة بشكل رئيسي على تصدير القهوة والشاي والذهب، عدا عن اعتمادها لطبيعتها الخالبة ومتنزهاتها الساحرة وما تملكه من مسطحات مائية ومواطن جبلية، كما أصبحت رواندا تلقب بـ”سنغافورة أفريقيا”، وتراجع لديها معدل الفقر من 60% إلى 39% ونسبة الأمية من 50% إلى 25%.
ولم يكن من الممكن تحقيق هذه الأهداف دون خلق هوية جماعية وموحدة بين أفراد الشعب الذين قتلتهم الانقسامات العرقية وشوهت تاريخهم لفترة طويلة من الزمن، وبالرغم من قساوة الأحداث والذكريات والظروف والعواقب التي أجبر الشعب الرواندي على تحملها إلا أن هذه المجازر كانت منعطف هام لتحويلها إلى ما هي عليه الآن.