الإيجار القديم في مصر يشكّل إحدى القضايا الاجتماعية الأكثر تعقيدًا والتي تمتد جذورها لعقود طويلة، فقد وُضعت قوانين الإيجار قبل نحو مائة عام، ولا تزال آثارها تُلقي بظلالها على الأجيال الحالية من الملاك والمستأجرين، حيث تتشابك في هذه القضية التشريعات المتعددة والتعديلات القانونية المتلاحقة، ما أدى إلى تراكم آلاف، بل ملايين القضايا في المحاكم، وخلف كل قضية حكاية إنسانية فريدة.
ورث عطية وشقيقه عقارًا مكونًا من 5 طوابق بحي مصر الجديدة الراقي، يضم 10 شقق مؤجرة، من بينها شقة أرضية ملحقة بحديقة يتم تأجيرها بـ4 جنيهات فقط، وهو المبلغ الذي لم يتغير منذ 33 عامًا، إلا أن حكم المحكمة الدستورية العليا الأخير بعدم دستورية بعض مواد قانون الإيجار القديم، منح عطية وآلاف من أصحاب العقارات الأمل في تنظيم أكثر إنصافًا للعلاقة بين المالك والمستأجر.
ومن حي مصر الجديدة إلى حي المطرية الشعبي شرقي القاهرة، تتكرر معاناة الإيجار القديم، حيث تعيش السيدة سعاد بمفردها في شقة استأجرتها قبل 5 عقود مقابل 20 جنيهًا شهريًا، واليوم، يسيطر عليها القلق من أن يؤدي قرار المحكمة برفع أسعار الإيجارات القديمة إلى فقدان مأواها، خاصة إذا تجاوزت القيمة الجديدة حدود دخلها المتواضع.
ويدور حاليًا في مصر جدل كبير بين المستأجرين، مثل السيدة سعاد، الذين يتمسكون بحقهم في البقاء بوحداتهم المؤجرة دون زيادة في قيمة الإيجار، وبين الملاك، مثل عطية، الذين يرون أن ثبات الإيجار لعقود طويلة يمثل انتقاصًا من حقوقهم المالية، وتثار تساؤلات عديدة حول مآلات معركة الإيجار القديم التي تؤثر على حياة ملايين المصريين، والأسباب الكامنة وراء تحريك هذا الملف الحساس في هذا التوقيت تحديدًا بعد سنوات من المماطلة، كما تتجه الأنظار نحو السيناريوهات القانونية المحتملة لتطبيق حكم المحكمة الدستورية.
معركة الإيجار القديم.. تدخل اضطراري
في مختلف أحياء مصر، لا سيما القديمة والراقية منها، تعيش أسر منذ عقود في منازل، بعضها فاخرة، مقابل قيمة إيجارية زهيدة تم تحديدها عند بدء سكنهم فيها قبل عشرات السنين، وعلى الرغم من أن هذه الإيجارات المتدنية تُبقيهم في مأمن من أعباء مالية إضافية، إلا أن العديد منهم لا يملكون القدرة على تحمل زيادة في الإيجار.
في المقابل، يقف الملاك في الطرف الآخر، يمتلكون عقارات تُقدَّر اليوم بملايين الجنيهات، لكنهم لا يجنون منها سوى مئات الجنيهات شهريًا، وأحيانًا أقل، ما يثير إحباطهم لعدم قدرتهم على الاستفادة من هذه الأصول بما يتناسب مع قيمتها الحقيقية.
رجل الأعمال “نجيب ساويرس”: قانون الإيجار القديم ظالم#مزيد pic.twitter.com/cZakbOKdFi
— مزيد – Mazid (@MazidNews) October 8, 2024
وفقًا لقانون الإيجارات القديمة في مصر، لا ينتهي عقد الإيجار بوفاة المستأجر أو تركه للوحدة السكنية، طالما بقي فيها الزوج أو الزوجة أو الأبناء أو أحد الوالدين ممن كانوا يقيمون معه حتى الوفاة أو المغادرة، ما يعني أن الورثة يستمرون في دفع القيمة الإيجارية نفسها التي غالبًا ما تكون ثابتة منذ عقود، ما يؤدي إلى استمرار الفجوة الكبيرة بين القيمة الإيجارية الفعلية والقيمة السوقية للوحدة على مر الزمن، ويزيد من تعقيد العلاقة بين الملاك والمستأجرين.
ورغم محاولات الحكومات والمجالس النيابية المتعاقبة على مدار العقدين الماضيين لإيجاد حلول لقضية الإيجار القديم، وإدخال تعديلات عديدة على القوانين المنظمة له، فإنها لا تزال تشكل أزمة عميقة بين المالك والمستأجر، وذلك إلى أن جاء حكم المحكمة الدستورية الأخير، الذي وُصف بـ”التاريخي”، ليقضي ببطلان الفقرة الأولى من المادتين الأولى والثانية من قانون الإيجار القديم رقم 136 لعام 1981، وهو القانون الذي وُضع قبل أكثر من أربعة عقود لتنظيم العلاقة بين الطرفين، ومن المتوقع أن يمهّد الطريق لإعادة صياغة تلك المواد بما يحقق توازنًا أكبر بين حقوق الملاك واحتياجات المستأجرين.
هذا الحكم الأخير ليس الأول من نوعه في سلسلة الأحكام الصادرة عن المحكمة الدستورية بشأن الإيجارات القديمة، التي تخضع لقوانين استثنائية وُضعت منذ عام 1952، فقد سمحت هذه القوانين بامتداد الإقامة في الشقق المؤجرة إلى الأجيال اللاحقة، حتى وصلت في بعض الحالات إلى خمسة أجيال، إلا أن المحكمة الدستورية أصدرت في عام 2002 حكمًا يقضي بتقييد توريث الإيجار لجيل واحد فقط، بشرط الإقامة السابقة مع المستأجر الأصلي.
وفي عام 2018، أصدرت المحكمة حكمًا آخر يقضي بعدم دستورية امتداد عقود الإيجار للأماكن المؤجرة للأشخاص الاعتبارية، مثل الجهات العامة والشركات، بعد سنوات من المداولات، ما شكّل خطوة جديدة نحو إعادة تنظيم هذه العلاقة المتشابكة.
الجديد في هذا الحكم أنه يُعتبر بمثابة “المسمار الأخير” في نعش قانون الإيجار القديم، إذ قضى بعدم دستورية تثبيت القيمة الإيجارية السنوية للأماكن المؤجرة للأشخاص بغرض السكن، والتي رُخصت منذ الثمانينيات، دون مراعاة التغيرات الاقتصادية.
استندت المحكمة في حيثيات حكمها إلى أن ثبات الإيجار دون مراعاة معدلات التضخم المتزايدة يمثل “إهدارًا لحقوق الملكية وعدوانًا على قيم العدل”، لكن هذا الحكم أثار العديد من التساؤلات حول الخطوة المقبلة، وكيفية تعامل النظام مع هذا الملف المعقد، فمع تعاقب الأجيال وتضاعف أعداد المستفيدين والمتضررين، إلى جانب تفاقم الأزمة الاقتصادية، تحوّل قانون الإيجار القديم إلى ما يشبه “حقل ألغام”.
يرى الخبراء أن الحكم الأخير سيدفع الحكومة إلى إعادة صياغة قانون الإيجار القديم، الذي أُقر في منتصف القرن الماضي، بما يتوافق مع حقوق الملكية وأحكام الدستور المصري، ومن المتوقع أن تقدم الحكومة مشروع القانون الجديد إلى مجلس النواب لمناقشته والتصويت عليه، بهدف تحقيق توازن عادل بين حقوق الملاك واحتياجات المستأجرين.
وبمجرد إرسال المشروع، سيُحال بقرار إلى لجنة الإسكان في البرلمان، مع مشاركة لجان أخرى مثل لجنة الإدارة المحلية ولجنة حقوق الإنسان، بهدف صياغة النصوص الجديدة خلال مدة لا تتجاوز شهرين، في خطوة تهدف إلى إنهاء عقود من المعاناة التي عاشها أصحاب العقارات والمستأجرون في ظل القوانين القديمة.
ظلم للمستأجر أم إنصاف للمالك؟
منح قانون الإيجار القديم المستأجر حق البقاء في سكنه مدى الحياة، وامتد هذا الحق إلى أبنائه، مع الحفاظ على نفس القيمة الإيجارية التي تم التعاقد عليها، دون أي زيادات سنوية، ما أدَّى الى تفاقم الأزمة التي يعيشها المجتمع اليوم.
وقضية انخفاض القيمة الإيجارية هي مسألة محل جدل كبير وخلاف بين الملَّاك والمستأجرين منذ عقود، إذ يشكو ملاك العقارات الذين ورثوا هذه البنايات من آبائهم، من ضعف القيمة الإيجارية التي يحصلون عليها، ومع فقدان العملة المحلية قيمتها وارتفاع معدلات التضخم وتكاليف المعيشة تزايدت الشكاوى في السنوات الأخيرة، لا سيما أن الفجوة بين الشقق الخاضعة للقانون القديم للإيجارات والشقق الجديدة اتسعت بشكل كبير.
ولا يستطيع هؤلاء الملاك مطالبة المستأجرين بأكثر من هذه القيمة التي نصَّ عليها العقد الخاضع لأحكام القانون، ولا يمكنهم استرداد الوحدة السكنية التي تساوي اليوم ملايين الجنيهات، بينما لا يحصلون منها سوى على مبالغ ضئيلة، فعلى سبيل المثال، تتراوح قيمة الإيجار الشهري لبعض الشقق بين عدة جنيهات حتى 30 أو 40 جنيهًا، بينما يُقدَّر السعر الفعلي لتلك الشقق في سوق الإيجار بمبالغ تفوق هذه القيم بكثير.
يشير الخبراء والبرلمانيون إلى أن عقود الإيجار القديمة وُقعت في زمن كان فيه جرام الذهب يعادل 90 قرشًا، وكان الجنيه يعادل دولارًا واحدًا، ومع استمرار هذه العقود بنفس القيمة الإيجارية، فإننا اليوم نشهد تدهورًا كبيرًا في القيمة الشرائية للجنيه، حيث بلغ سعر الدولار حاليًا ما يقارب 50 جنيهًا، بينما وصل سعر جرام الذهب إلى أكثر من 3500 جنيه، ما يفرض تعديلًا حتميًا للقيمة الإيجارية بما يتناسب مع التغيرات الاقتصادية.
على الرغم من أن حي مصر الجديدة، حيث يقع منزل عطية، يُعتبر من الأحياء الراقية، إلا أن دخل المنزل من تأجير الشقق لا يتجاوز مئات الجنيهات شهريًا، ففي حديثه لـ”نون بوست”، عبّر عطية عن آماله في أن يُنصفه القانون، قائلاً: “عايزين ناخد قيمة عادلة من بيوتنا وحقوقنا عشان نقدر نوازن على الأقل ما بين الاستثمار اللي والدي عمله زمان وتغطية احتياجاتنا في الوقت الحالي”.
وأضاف: “أنا النهاردة بروح أقدم على شقة بترفض، حتى لما أقدم على معاش تكافل وكرامة، وبعد ما تتعمل تحريات وزارة التضامن يقولولي مرفوض لأن عندي منزل ملك، فعلًا ممكن يكون عندي عقار بـ10 مليون جنيه بس مش قادر أغطي تكاليف المعيشة”.
من جانب آخر، يعرب عدد من المستأجرين، وخاصة من الطبقات المتوسطة والفقيرة، عن قلقهم من التعديلات المقترحة في قانون الإيجار القديم، فهم يشيرون إلى أنهم دفعوا مبالغ كبيرة عند التعاقد كانت تعادل وقتها قيمة الوحدة السكنية، ويرفضون فرض زيادات كبيرة على الإيجار بعد تعديل القانون، إذ قد يعرضهم ذلك للطرد من مساكنهم، لا سيما الفقراء وكبار السن وأصحاب المعاشات الضعيفة، ممن ليس لديهم أماكن بديلة يذهبون إليها.
وفي حديثها لـ”نون بوست”، تقول سعاد: “أنا ما عنديش مانع إن الإيجار بتاعي يزيد بس يزيد في حدود إمكانياتي أنا واللي أقدر أدفعه. أنا واحدة على المعاش، وبجيب منه علاج وعايشة بأكل وبشرب وبدفع مياه وكهرباء، كل دي مرافق أنا بدفعها. لو اتحطلي إيجار عالي أنا هدفع منين؟”
على غرار سعاد، يعيش ملايين المستأجرين الذين يعتمدون على معاش التقاعد ولا يملكون القدرة المادية على الانتقال إلى مكان آخر، وهؤلاء المستأجرون يعتبرون قرار المحكمة بإعادة النظر في أسعار الإيجارات بمثابة انحياز لملاك العقارات الذين استفادوا من أرباح كبيرة على مدار السنوات الماضية، وفي المقابل، يعتبر أصحاب العقارات أن الحكم منصف لهم، حيث يرون أنه يضمن لهم حقوقهم المالية.
وفي هذا السياق، طالبت المحكمة الدستورية البرلمان بعدم السماح للمؤجر أو صاحب العقار بفرض قيمة إيجارية مبالغ فيها استغلالًا لحاجة المستأجر إلى مكان يعيش فيه، مشيرة إلى ضرورة مراعاة عدد من التفاصيل الأخرى في هذا الشأن.
وبحسب القانونيين، فإن التعديلات المستقبلية ستقتصر فقط على زيادة القيمة الإيجارية دون أن يتعرض المستأجرون للإخلاء أو الطرد، كما يجب عدم المساواة بين القيم الإيجارية للمباني القديمة والجديدة، مع ضرورة مراعاة طبيعة المنطقة السكنية والظروف الاقتصادية التي تؤثر على قدرة المستأجرين على الدفع.
فن صناعة الأزمات.. هل يتعثر البرلمان هذه المرة أيضًا؟
في ظل حالة الشد والجذب السائدة، تتوجه الأنظار إلى مجلس النواب، حيث يترقب مئات الآلاف من الملاك والمستأجرين التشريع المرتقب قبل يونيو/حزيران المقبل، ليكون بداية جديدة للعلاقة الإيجارية بعد عقود من الجمود والتعقيد.
ومع ذلك، تشير تجارب مجلس النواب السابقة في هذا الملف إلى سجل من الإخفاقات التشريعية، حيث عانى من سنوات من التسويف والمماطلة، فقد سبق للمجلس أن فشل في إقرار قانون أو تعديل تشريعي بشأن الإيجار القديم للوحدات المؤجرة لغير الأغراض السكنية، وذلك بعد صدور حكم بعدم دستورية بعض بنود القانون في مايو/أيار 2018، ومنحت المحكمة المجلس مهلة لإدخال تعديلات على القانون حتى نهاية دور الانعقاد في يوليو/تموز 2019، وأعطت الوحدات المؤجرة لغير السكني مهلة خمس سنوات لتوفيق أوضاعها أو البحث عن أماكن بديلة قبل إلغاء العقود.
لكن المهلة الممنوحة لمجلس النواب انقضت دون التوصل إلى اتفاق أو إصدار تشريع جديد لمعالجة المسألة، بعد أن شهدت الجلسة خلافًا حادًا بين رئيس مجلس النواب السابق علي عبدالعال ووزير شؤون مجلس النواب عمر مروان، بشأن تطبيق الحكم على الوحدات غير السكنية مثل المحلات التجارية والمكاتب والعيادات، وهو ما رفضته الأغلبية البرلمانية، مما ترك تنفيذ الحكم للمحكمة الدستورية وفقًا للمهلة المحددة.
وبدلاً من أن يُسرع البرلمان إلى تسوية الأمر، تأخر إصدار القانون حتى مارس/آذار 2022، وهو ما أثار حالة من السخط لدى العديد من الأطراف، فالتعديلات التي خرج بها المجلس لم تعالج جميع حالات الإيجار القديم كما كان يأمل الكثيرون، بل اقتصرت على زيادة قيمة الإيجار التجاري والإداري بنسبة 15% لمدة خمس سنوات حتى مارس/آذار 2027، وبعد انقضاء هذه المدة، يُلزم المستأجر بإخلاء الوحدة المؤجرة ليعود العقار إلى المالك مجددًا.
ما يثير الجدل هو أن هذه التعديلات التي تم إقرارها بعد 4 سنوات من قرار المحكمة الدستورية و3 سنوات تقريبًا من انتهاء المهلة التي حددتها لمجلس النواب، جاءت غير مرضية للعديد من الأطراف، ما يعني أن البرلمان قد يستمر في المماطلة لسنوات قادمة في إقرار التعديلات اللازمة على قانون الإيجار القديم للأغراض السكنية، وهو ما يبدو السيناريو الأقرب نظرًا لأن القانون يحتاج إلى حوار مجتمعي ونقاش واسع قبل التوصل إلى صيغة نهائية.
الأمر المؤكد أن قضية الإيجارات القديمة أصبحت أكثر إلحاحًا وأهمية اليوم من العديد من القضايا التي ناقشها البرلمان في الأشهر الماضية، ففي العام الماضي وحده، أقر البرلمان نحو 200 قانون أو تعديل تشريعي، بعضها كان قوانين مستقرة، مما يثير التساؤلات حول أولويات الأجندة التشريعية والرقابية والسياسية للبرلمان، خاصةً أن آخر تحرك مُعلن كان في فبراير/شباط الماضي، عندما خاطبت لجنة الإسكان بالبرلمان وزارتي الإسكان والتنمية المحلية للحصول على البيانات الإحصائية المحدثة المتعلقة بوحدات الإيجار القديم، وهو ما يعكس التأخر في معالجة هذه القضية الهامة.
ومع إلزام المحكمة الدستورية لمجلس النواب بإصدار قانون ينظم الحكم الصادر قبل انتهاء دور الانعقاد التشريعي الجاري (خلال شهرين تقريبًا)، قد يتجنب المجلس التدخل ويقرر تنفيذ الحكم دون إدخال تعديلات على القانون، كما فعل مع الحكم السابق في 2018، وربما يرى مجلس النواب في استنساخ تعديلات قانون عقود الإيجار القديم لغير الأشخاص حلًا مغريًا لتطبيقه على علاقات الإيجار بين المستأجرين والملاك، وهو بالتأكيد أبسط تشريعيًا، لكنه في الواقع سيكون مجرد تسويف وتهرب من المواجهة الجادة للقضية.
وفي حال عجز البرلمان عن إصدار القانون قبل انتهاء المهلة، فإن المحاكم المدنية ستجد نفسها في مواجهة فيض غير مسبوق من الدعاوى القضائية التي سيرفعها الملاك استنادًا إلى حكم المحكمة الدستورية، للمطالبة بزيادة الإيجارات لتتناسب مع القيمة المعمول بها حاليًا ومع معدلات انخفاض قيمة الجنيه ومعدلات التضخم، وهذا يعني أن المواطنين سيواجهون منازعات قانونية إضافية، مما يثقل كاهلهم بالأعباء المالية ويؤدي إلى إفراغ الحكم من مضمونه الهادف إلى تحقيق مصلحة عادلة للطرفين.
احتمالات الانفجار المجتمعي.. من المستفيد؟
تأتي هذه التطورات في وقت كانت فيه المناقشات حول إلغاء قانون الإيجار القديم قد استمرت لسنوات، لكن جهود الحكومة اكتسبت زخمًا أكبر في العام الماضي، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2023، دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مجلس النواب إلى حل أزمة ملايين الوحدات السكنية التي تفوق الطلب في سوق العقارات، مشددًا على ضرورة تعديل القانون بما يتوافق مع التطورات الحالية في مصر، مع الأخذ في الاعتبار البعد الاجتماعي لهذه القضية.
ورغم تكتم الحكومة على الأرقام الرسمية المتعلقة بهذه القضية، فإن الرقم الدقيق للعقارات التي تخضع لقانون الإيجار القديم لا يزال غير معروف. ومع ذلك، قدّر السيسي في العام الماضي عدد الوحدات السكنية التي تخضع لهذا القانون بحوالي مليوني وحدة شاغرة، تبلغ قيمتها نحو تريليون جنيه مصري، وتقع أغلب هذه الوحدات في محافظتي القاهرة والإسكندرية.
ووفقًا لأحدث تعداد رسمي صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2017، يعيش في مصر نحو 1.6 مليون أسرة في منازل بنظام الإيجار القديم. كما بلغ إجمالي عدد الوحدات السكنية الخاضعة لقانون الإيجارات القديمة حوالي 3 ملايين وحدة، ويشمل هذا العدد عددًا كبيرًا من الوحدات المغلقة، سواء لأن أصحابها يمتلكون سكنًا آخر أو لأنهم يعيشون خارج مصر.
يقول عطيه: “والدي اشترى العمارة سنة 1971، وفيها دلوقتي حوالي 7 شقق إيجار قديم منهم 4 مقفولين، لأن أصحابهم مش في احتياج ليهم أو مسافرين، وبيدفعوا الإيجار طبعًا لأن القوانين كانت بتقول إن العقد ممتد، وطالما الإيجار بيتدفع، المالك ما يقدرش يتكلم في حاجة مع المستأجر”.
وفي الأثناء، ومع تصاعد القلق في المجتمع المصري من التأثيرات التي يمكن أن يسببها قرار إلغاء تثبيت الإيجار السنوي، تخشى الحكومة من أي تعديلات جذرية على القانون قد تمس الفئات الفقيرة جراء هذا الحكم، ما قد يضعها أمام احتمالات انفجار مجتمعي يصعب السيطرة عليه.
الحكم دا ممكن يطربق البلد فوق دماغنا، فيه كلام كتير ممكن يتقال في موضوع قانون الإيجار القديم داه، وكان لازم يتم النظر في الموضوع من زمن، ولكن الحكم جاي في وقت وظروف اقتصادية وسياسية مش ناقصاه.. وربنا يستر pic.twitter.com/BwrO8Jemlg
— Malek adly (@MalekAdly) November 9, 2024
بينما يرى البعض أن حكم المحكمة الدستورية يمثل بابًا للفرج بعد سنوات من الجمود، يعتبره آخرون نقمة ويثير تخوفات كبيرة بشأن آثاره المزلزلة، فيما يعارض العديد من المراقبين توقيت صدور الحكم بعد سنوات من التأجيل، ويرون فيه وسيلة للضغط على المواطنين في وقت شديد الحساسية تمر به مصر على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
وتأتي هذه الخطوة في وقت تعيش فيه البلاد أزمة اقتصادية طاحنة، حيث تتراكم عليها أعباء الديون من جميع الجهات، كما يعيش ثلث السكان (حوالي 35 مليون مواطن) تحت خط الفقر، في حين أن أقل من ثلثي السكان المتبقين هم إما فقراء أو مهددون بالانزلاق إلى الفقر نتيجة سلسلة من الإجراءات الاقتصادية التي أثرت بشدة على الطبقة الوسطى وأثقلت كاهل الطبقة الفقيرة.
تحذير:
قانون إلغاء الإيجارات القديمة يمكن أن يؤدي إلى كارثة وطرد ملايين الأسر إلى الشوارع إذا لم تقم الدولة بوضع ضوابط ومعايير للموازنة بين إنصاف الملاك وقدرة الناس على تحمل رفع الإيجارات في ظل الغلاء وانهيار العملة وضعف القدرة الشرائية ومستويات البطالة مع وجود ملايين من…— Ismail Hosny (@IsmailHosny1) November 10, 2024
يمكن ملاحظة بوادر حالة الانفجار التي وصل إليها طرفا النزاع من خلال التغطية الإعلامية، حيث تحولت برامج التليفزيون في الأيام الماضية إلى منابر للتحريض وتغليب طرف على آخر، حتى وصل الأمر إلى مشادات كلامية على الهواء مباشرة بين المؤيدين والمعارضين.
وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، أنشأ كل من الملاك والمستأجرين صفحات ومجموعات تعبر عن مواقفهم وتكشف عن مدى تخوف المستأجرين من تعرضهم للظلم، بينما يعبر الملاك عن قلقهم من عدم إنصافهم، ويتبادل الطرفان اتهامات بشأن شن حرب إلكترونية ضدهما، حيث يتهم كل طرف جهات غير معلومة بقيادة هذه الحملة من خلال اللجان الإلكترونية التي تضم بعض الصحفيين والإعلاميين والنواب.
وسط حالة الاحتقان هذه، عبّر معارضون عن مخاوفهم من أن يسعى الرئيس السيسي لتفريغ مناطق مثل وسط القاهرة ومصر الجديدة، تمهيدًا لبيعها لمستثمرين خليجيين، وخاصة من السعودية والإمارات، في ظل استمرار مساعي التغول الإماراتي في مصر منذ وصول السيسي إلى الحكم، حيث تسعى الإمارات إلى الاستحواذ على الأصول الاستراتيجية وزيادة استثماراتها في الشركات والأراضي.
تشير التقارير إلى أن الإمارات أصبحت ثاني أكبر حكومة تمتلك أراضٍ في محافظة القاهرة بنسبة تزيد عن 6%، في حين تمتلك الحكومة المصرية 16%، وفي دراسة أجرتها مؤسسة “10 طوبة” للدراسات العمرانية قبل عامين، تم الكشف عن أن 10 شركات عقارية تهيمن على 90% من أرباح القطاع العقاري في مصر، وأنها تمتلك نحو 40 ألف فدان في القاهرة الكبرى، كما تظهر خريطة ملكية الأراضي أن الإمارات تسيطر على الحصة الأكبر من خلال شركات مثل “إعمار” وتحالف “الدار العقارية” و”إيه دي كيو”، بالإضافة إلى توسعها في تملك حصص في الشركات العقارية المصرية.
وتشير التحليلات إلى أن الاستثمارات الإماراتية في مصر عادة ما تركز على مجالات استهلاكية مضمونة الربح مثل العقارات والاتصالات، ولا تدخل في مجالات أخرى ذات قيمة مضافة كبيرة للاقتصاد مثل التصنيع والإنتاج، فهي استثمارات محدودة التأثير على خلق فرص العمل الحقيقية أو رفع الإنتاجية في القطاعات الحيوية.
وبالنسبة للإمارات، فإن قطاع العقارات يمثل فرصة جذابة نظرًا لحجم السوق المصري الذي يُعتبر من أكبر الأسواق العقارية في المنطقة، ويشكل نحو 11% من الناتج المحلي الإجمالي.
من جهة أخرى، يحاول الرئيس السيسي دفع المواطنين نحو الانتقال إلى المدن الجديدة التي اعتبرها حلاً لمشكلة الإيجار القديم، وهو ما كان قد صرح به قبل ثلاث سنوات، لكن رغم هذه الدعوات، يواجه السيسي تحديات في جذب المواطنين إلى هناك، كما يُظهر مسح عمراني في بداية 2024 أن المدن الجديدة التي تبنيها هيئة المجتمعات العمرانية لم تستقطب سوى 1.7% فقط من إجمالي سكان مصر.
ورغم الاستثمارات الضخمة التي تجاوزت 400 مليار جنيه وخصصت 2.2 مليون فدان لهذه المشاريع، فإن الواقع على الأرض يظهر أن هذه المدن لم تتمكن من استيعاب الأعداد المتوقعة لأسباب عدة، من أبرزها ارتفاع الأسعار التي تجعلها غير متاحة للكثير من المواطنين، بالإضافة إلى نقص وسائل النقل العامة والخدمات الأساسية التي تعد من العوامل الحاسمة في اتخاذ قرار السكن.
هذه المعادلة الصعبة بين ملَّاك العقارات الذين يواجهون أعباء مالية نتيجة انخفاض القيمة الإيجارية للأماكن الخاضعة لقانون الإيجار القديم، وبين المستأجرين الذين يخشون زيادات جديدة قد تؤدي إلى تفاقم أزمتهم المالية، تفتح المجال لمراجعة وتحديث قانون الإيجارات، بما يتيح الفرصة لتطوير منظومة الإيجارات في بلد لا يملك فيه هؤلاء رفاهية إهدار المزيد من الفرص.