في خضم الأزمة السياسية التي تعيشها الجزائر التي بدأت بالاحتجاج على العهدة الخامسة لترتفع الأصوات عاليًا بضرورة تغيير النظام السياسي (حسب مطالب المحتجين)، تدور معركة طاحنة بين عصب السلطة يظهر وأنها معركة صفرية يجب أن تنتهي بانتهاء أحد الأطراف.
يذهب الكثيرون إلى الاعتقاد بأن طرفي المعركة الرئيسيين هما الجيش والرئاسة، بحيث يسعى الجيش إلى التخندق إلى جانب الشعب والعمل على الاستجابة لمطالبه من خلال تفعيل مواد الدستور وإقالة الرئيس الحاليّ ومن ثم الذهاب إلى حل توافقي بين الأحزاب السياسية والمكونات السياسية الأخرى، حسب ما جاء في بيان قيادة الأركان، بينما تسعى مؤسسة الرئاسة إلى فرض الأمر الواقع والاستمرار في تنفيذ مخططها القائم على التمديد لرئيس الجمهورية وتنظيم ندوة وطنية من أجل الخروج بإصلاحات تنبثق من رحم الشعب حسب خطة الطريق المطروحة من طرف الرئاسة.
هذا ما يظهر في الصورة الكلية للأزمة، وطبعًا يقف الحراك الشعبي في الوسط يميل قليلاً إلى تبني خطة الجيش والرفض التام والكامل لخطة الرئاسة، فهل فعلاً هذا ما يحدث وهذه الصورة الحقيقية للأزمة؟
وهذه هي الإشكالية التي تواجه موضوع ماذا وراء الحراك الشعبي؟ وما الخلفية الأخرى له؟ وعليه فمن أجل فهم ما يحدث بالضبط، يجب الإجابة عن أي سؤال يطرح، كما أنه من الضروري طرح الأسئلة التي تحيط بكل حيثيات هذا الحدث النوعي للشعب الجزائري.
أسئلة مفتوحة وأجوبة ناقصة
هناك الكثير من الأسئلة التي نبحث لها عن إجابات بشأن ما يدور من أحداث، وكل سؤال يعتبر مشروعًا وسليمًا حتى نحيط بحيثيات الحدث وبخلفياته، ويزال أي لبس أو غموض، فاللحظة الراهنة تحتاج إلى الكثير من التبصر والتدقيق في كل التفاصيل للإحاطة بها، والتأسيس لعهد جديد قوامه المعرفة والبحث والتقصي، فالعهد الجديد يجب أن نتخلى فيه عن استهلاك المعلومة على أنها الحقيقة كلها.
من المسؤول عن هذا الحراك؟ هل له قيادة حتى إن كانت غير مرئية وظاهرة للعيان؟ وهل يمكن لهذه القيادة أن تقود الحراك في الاتجاه الذي تريده؟
وعليه فهناك العشرات من الأسئلة التي تبقى لحد الساعة دون إجابة مقنعة نظرًا لنقص المعطيات والمعلومات الضرورية، ورغم هذا فالأسئلة يجب أن تطرح وتناقش بكل شفافية ووضوح، انطلاقًا من القول الإنجليزي: “ما يسم الشعب يجب أن يناقشه الشعب”.
ويندرج تحت الإشكالية السابقة الكثير من الأسئلة اراها مهمة يمكن من خلالها فهم الأزمة وخلفيتها، ومن أهم هذه الأسئلة:
– لماذا التظاهر اليوم بالضبط؟ رغم أن بوتفليقة موجود على رأس الدولة الجزائرية منذ أكثر من 20 سنة، ولماذا لم يتظاهر الجزائريون عندما تم انتهاك الدستور في 2008 وتعديله لصالح بوتفليقة حتى يبقى في الحكم مدى الحياة؟
– هل يمكن اعتبار أن هذا الحراك الشعبي عفوي؟ أم تم التخطيط له من قوى أخرى تريد الاستحواذ على السلطة ووجدت الوقت المناسب لذلك، بحيث أظهرت أن ترشح عبد العزيز بوتفليقة إلى عهدة خامسة يعتبر مسًا بكرامة كل الجزائريين وانتهاكًا صارخًا لعزتهم وجعلت من الجزائر وشعبها مسخرة أمام كل الشعوب.
– لماذا تقوم السلطة بتقديم ترشح بوتفليقة وهي تعرف أن الرجل مريض؟ أو كيف يترشح بوتفليقة (على افتراض أنه من أراد الترشح وواعٍ لما يفعل وحضوره الذهني عالٍ كما عبر عن ذلك الأخضر الإبراهيمي) وهو يعرف أن حالته الصحية وسنه لا يسمحان له بتسيير دواليب حكم الجزائر؟
إنها أسئلة كثيرة ومتنوعة ومختلفة، والإجابة عنها كفيلة بكشف معطيات يمكننا من خلالها رسم صورة لما حدث، ويمكننا التنبؤ بمسار الأحداث ومعرفة اتجاهها.
من المستفيد في النهاية من هذا الحراك؟ ولمن ستعود جوائز الحراك؟ فلكل حدث تاريخي جوائز توزع طبقًا لتفاهمات أو طبقًا لمنطق الغالب
ما يقابل هذا الوضع هو وضع الحراك الشعبي نفسه الذي يجب أن نحيطه بأسئلة تنتج عنها أجوبة مفصلية تضبط تحركه وتضبط توجهه وترشيد مطالبه، ومن بين هذه الأسئلة:
– ما الدوافع لتحرك الشعب الجزائري بهذه الكثافة التي لم تعرفها شوارع المدن الجزائرية؟ ما الأهداف التي يسعى إليها الحراك الشعبي؟ ومن المسؤول عن هذا الحراك.. هل له قيادة حتى إن كانت غير مرئية وظاهرة للعيان؟ وهل يمكن لهذه القيادة أن تقود الحراك في الاتجاه الذي تريده؟ وبالتالي ما أهدافها؟ وهل هي فعلاً تبحث عن مصلحة الشعب الجزائري وتسعى لبقاء الدولة الجزائرية ليعيش شعبها في كنف الأمن والطمأنينة والاستقرار؟
ومن المستفيد في النهاية من هذا الحراك؟ ولمن ستعود جوائز الحراك؟ فلكل حدث تاريخي جوائز توزع طبقًا لتفاهمات أو طبقًا لمنطق الغالب، والغالب هنا يعني الذي يستطيع أن يستميل الشعب الجزائري لصفه ويكسبه إلى جانبه، وبالتالي هل سيستفيد الشعب الجزائري من جوائز الحراك؟ وفي حالة الإخفاق من يتحمل نتائج الإخفاق؟ وهل سنعود إلى نقطة الصفر ونقطة الانطلاق؟ بمعنى أن الإخفاق قد يعني جوائز أخرى يستفيد منها من يقف على الطرف الآخر من مصلحة الشعب الجزائري.
الدولة العميقة بمفهومها الواسع هي تلك القوى التي تعمل على عرقلة القرارات الرسمية خدمة لأجندة أخرى غير المصلحة العامة للشعب
– من الضحية الذي سيقدم لهذا الحراك؟ هل الرئيس وعائلته فقط؟ أم ستكون حاشيته وجميع من استفاد من وجوده؟ أم سيكون الضحية هو الشعب الجزائري نفسه كما حدث له سنة 1988، عندما تم إقصاؤه من اتخاذ القرار السياسي ثم فيما بعد ذلك إقصائه من الحياة السياسية بصفة عامة عبر إجراءات قللت من هامش حريته وتحركه السياسي والاجتماعي.
إنها أسئلة لا حصر لها، وكلها تصب في سياق فهم ما حدث ويحدث، والتنبؤ بطريقة علمية طبعًا بمسار ما سيحدث مستقبلاً.
الدولة العميقة القديمة المتجددة
الدولة العميقة بمفهومها الواسع هي تلك القوى التي تعمل على عرقلة القرارات الرسمية خدمة لأجندة أخرى غير المصلحة العامة للشعب، وتتمثل في عمومها في تلك الشبكات السياسية والاقتصادية والإدارية التي تعمل على خدمة وحماية مصالح مالية أو سياسية أو اقتصادية لأقلية مصلحتها غير مصلحة الشعب والدولة، وقطعًا هي في غير صالح الشعب.
وبرأيي فإن أهم سؤالين يجب الإجابة عنهما حتى تتضح صورة الإجابة عن الأسئلة الأخرى هما: لماذا خرج الشعب الجزائري للتظاهر والاحتجاج الآن فقط؟ والسؤال الثاني يتمثل في: هل خروج الشعب الجزائري كان عفويًا؟
تبدو الإجابة من خلال الصورة الكلية واضحة ولا تحتاج إلى الكثير من الفرضيات ولكن البحث في الجزئيات واستقراء الواقع، فإن الإجابة عن السؤالين معقدة وتحتاج إلى السعي للإلمام بجميع جوانب هذا الحراك وخلفياته
قد يبدو من السؤالين وكأنهما انتقاص من قدرة الشعب الجزائري على التعبئة الذاتية كلما أحس أن الوطن مختطف أو أن هناك خطرًا وشيكًا يكاد يهلك البلاد والعباد، قطعًا ليس هذا المراد من السؤال تمامًا، وبالعكس فالشعب الجزائري عرف طوال تاريخه الطويل بعدم الاستكانة وقدرته على مواجهة الأخطار دون وصاية، وهذه حقيقة يعرفها العدو قبل الصديق.
إذًا فالأمر لا يتعلق بانتقاص أو مس بكفاءة الشعب الجزائري، بقدر ما يهدف إلى البحث في فرضيات التي هي في النهاية إجابة مؤقتة فقط، يجب البحث في صحتها، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن العقل العلمي يفرض البحث في جميع الاحتمالات وعدم الاكتفاء باحتمال واحد من أجل بلوغ الحد الأقصى من الحقيقة.
قد تبدو الإجابة من خلال الصورة الكلية واضحة ولا تحتاج إلى الكثير من الفرضيات ولكن البحث في الجزئيات واستقراء الواقع فإن الإجابة عن السؤالين معقدة وتحتاج إلى السعي للإلمام بجميع جوانب هذا الحراك وخلفياته، وعليه نطرح الفرضيات الآتية كنوع من الإجابة المؤقتة لهذين السؤالين:
الفرضية الأولى تتعلق بالإجابة عن السؤال الأول وهي أن الشعب الجزائري خرج إلى الشارع محتجًا على ترشح رجل طاعن في السن ومريض لعهدة خامسة، وقد بقي في الحكم 20 سنة أنتجت الكثير من المآسي والفساد السياسي والمالي والاجتماعي، وعليه فقد شعر كل جزائري أنه جرح في كرامته، وبالتالي فخروج كل هذه الملايين كان عفويًا ودون أي ترتيب من أي قوى، وعليه فلن نناقش هذه الفرضية لأنها تخرج من الموضوع المراد التحدث فيه وهو خلفية الأزمة السياسية، لأنها بصورتها الكلية واضحة وخلفيتها لن تخرج عن مخلفات حكم بوتفليقة كل هذه السنين ومخرجاتها على كل المستويات.
ما يجب لفت الانتباه إليه كذلك أن شبكة توفيق سعت إلى محاولة العودة للحكم من خلال المترشح الحر للانتخابات الرئاسية لسنة 2019 الجنرال غديري علي الذي تقدم للانتخابات كمترشح مستقل هو ابن منظومة توفيق
أما الفرضية الثانية فتشير إلى أن خروج الجزائريين كان تحت صدمتهم من إقدام بوتفليقة على الترشح، وغضبهم الشديد جراء الاستهانة بكرامتهم والعبث بوطنهم، ليستغل طرف ثالث معادٍ لبوتفليقة ويسعى إلى قلب الطاولة عليه بعد أن وجد في ترشح بوتفليقة لعهدة خامسة، لحظة فارقة للعودة إلى الحكم، ووجدها فرصة للانتقام من الرجل الذي أخرجهم من الحكم من الباب الضيق، ولهذه الفرضية الكثير من الدلائل التي تؤكد صحتها، وهناك أطراف أخرى من الدولة العميقة تسعى إلى التشويش على الحراك الشعبي لإجهاضه.
فنجد أن بصمة الجنرال توفيق في تلك الدعوات المجهولة للتظاهر، وهي حقيقة يمكن تأكيدها من طرف خبراء الأمن الذين يعرفون جيدًا أساليب دائرة الاستعلام والأمن السابقة، فالدعوة الموجهة للنساء الجزائريات مثلاً للتظاهر يوم 8 من مارس تحمل بصمة وراثية لنظام توفيق الاستعلامي المخابراتي، وهذه الدعوة مستوحاة من أساليب حزب الديمقراطيين في أمريكا المؤيدين للحركة النسوية المضادة للرئيس ترامب.
وما يجب لفت الانتباه إليه كذلك أن شبكة توفيق سعت إلى محاولة العودة للحكم من خلال المترشح الحر للانتخابات الرئاسية لسنة 2019 الجنرال غديري علي الذي تقدم للانتخابات كمترشح مستقل هو ابن منظومة توفيق وجميع المصادر تؤكد أن وصوله إلى رتبة جنرال ومنصب المدير المركزي للأفراد والعدالة العسكرية بوزارة الدفاع الوطني كان بتزكية وترتيب من الجنرال توفيق.
من جهة أخرى فإن تبنى رجل الأعمال يسعد ربراب لترشح الجنرال علي غديري، يحمل بصمة توفيق، والمفارقة هنا أن يسعد ربراب يدين بثروته وصعدوه في عالم المال والأعمال إلى الحماية التي وفرها له الجنرال توفيق، وبعد تنحية توفيق من منصبه، سعى النظام البوتفليقي إلى تخريب استثمارات ربراب والنيل منه اقتصاديًا.
حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (RCD) الذي بقي في المعارضة وبقي يعارض النظام البوتفليقي منذ 2001، سعى إلى التخريب على الحراك والسعي إلى استرداده لصالح أيديولوجيته ومشروعه
الجهة الثالثة هي الأحزاب السياسية ذات التوجه الأيديولوجي التي كانت من صنيعة المخابرات بقيادة توفيق وبمباركتها أو تم التسلل إلى داخلها والتلاعب بها من الداخل، أو بعض الأحزاب الإسلامية ذات التوجه المعتدل التي جاءت ولادتها من خلال انفجارات داخلية وبتلاعب من المخابرات التي دعمت الفصيل المنفصل.
وهذه الأحزاب لعبت دور المساند الشرس لبوتفليقة وفي نفس الوقت التشويش على الحراك الشعبي بإظهار أن تلك المساندة جاءت عن قناعة الاستمرارية في التنمية والتطوير التي بدأها بوتفليقة حسب زعمهم، ومن بين هذه الأحزاب حزب تجمع أمل الجزائر برئاسة عمار غول.
أما حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (RCD) الذي بقي في المعارضة وبقي يعارض النظام البوتفليقي منذ 2001، فقد سعى إلى التخريب على الحراك والسعي إلى استرداده لصالح أيديولوجيته ومشروعه، وهو المشروع الذي يدعمه توفيق كذلك، دون أن ننسى حزب عمارة بن يونس رئيس حزب الحركة الشعبية الجزائرية المنشقة عن حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، الذي يحمل نفس الأيديولوجية ويدخل ضمن نفس المشروع.
الصراع الموجود الذي يتخذ من الحراك الشعبي مطية هو صراع على السلطة بين فرقاء الأمس وليس بين عصب السلطة التي كانت دائمًا متناغمة ومنسجمة فيما بينها
الفصيل الأخير الذي يمكن وصفه بأنه الأكثر براغماتية والأقل أيديولوجية الذي يتكون من جماعة أوليغارشية صغيرة كونت ثروتها من مال فاسد جاء نتيجة جرائم التهريب، وتمكنت من اختراق السلطة والاقتراب من دوائر القرار السياسي من خلال شراء ذمم الموظفين والإطارات في مناصب حساسة داخل مفاصل الدولة، وهي العملية التي ييسرها إلى حد كبير الفساد المستشري على نطاق واسع بين كل الجزائريين على مختلف مستوياتهم الوظيفية.
ما يمكن استنتاجه أن الحراك الشعبي قد يكون عفويًا في يومه الأول ولكن تم اختراقه والسعي إلى توظيفه لصالح أجندات لا تبحث عن مصلحة الشعب والوطن بقدر ما تسعى لتحقيق مصالحها، فالصراع الموجود الذي يتخذ من الحراك الشعبي مطية هو صراع على السلطة بين فرقاء الأمس وليس بين عصب السلطة التي كانت دائمًا متناغمة ومنسجمة فيما بينها، إنه يتعلق بذلك الصراع الدائر بين زبونين سياسيين، وبين نظامين يتصارعان بشأن التحكم في السلطة وقراراتها، وبالتالي فهو صراع دائر حول الريع الذي تذره الحقول النفطية، ويبقى الحراك الشعبي عالقًا بينهما، إن لم يتم تخلص الحراك من الأيدولوجية وطرحها جانبًا وتوحيد مطالبه بوضوح أكثر والخروج من حالة الراديكالية، فإن أحد الزبونين واحد النظامين سيركب الحراك ليتحدث باسمه ويفاوض باسمه، وعندها قد يكون كل هذا الجهد والهبة لا شيء لا قدر الله.