صعد على سقف سيارةٍ وبدأ بالغناء وسط آلاف من مُحبيه حتى انتهى فاعتقلته الشرطة الروسية ليواجه بعد ذلك مطرب الراب الروسي ديمتري كوزينتسوف الذي يشتهر بهاسكي تهمًا بالتطرف وإثارة الشغب ليصدر بحقه حكمًا بالسجن لمدة 12 يومًا من محكمة كراسنودار الذي دافع عن نفسه أمامها قائلاً إنه اضطر لفعل ذلك بسبب إلغاء حفله دون أسباب واضحة وشعر بالواجب أمام الجمهور الذي اشترى بطاقات حضور الحفل، فما قصة موسيقى الراب في روسيا؟ ولماذا يضجر منها بوتين؟ وكيف تنظر لها الأنظمة الحاكمة في العالم؟
هي موسيقى ذات أداء سريع، تعتمد كلماتها باتفاقية القافية في نهايتها، RAB هو اختصار لجملة Rhythmic African Poetry الإنجليزية التي تعني بالعربية “الشعر الإفريقي ذو القافية” سُميت بذلك طبقًا لظهورها الأول في سبعينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث بدأ بترديدها الأمريكيون أصحاب البشرة السوداء من أصول إفريقية الذين كانوا يعانون من الاضطهاد والتمييز المجتمعي على أساس عرقي، فكانت موسيقى الراب أداة للتعبير عمّا تخفي حياتهم من مُعاناة سياسية ومجتمعية، لتنتقل بعد ذلك إلى العالم بلغات مختلفة أبرزها اللغة العربية.
علاقة الراب بالأنظمة.. روسيا .. بوتين يبحث عن بديل
في شريط بحث نتائجه واحدة عندما تتساءل بعبارتين، أي الدول تصنف كَديكتاتوريات؟ أي الدول تعادي موسيقى الراب؟ بالكاد روسيا تتصدر الإجابات.
أما في عهد قيصر الكرملين الحاليّ فقد اتخذ سياسة الحذر والحظر غير الكامل مع حفلات وموسيقى الراب
دخلت موسيقى الراب أبواب إدارة روسيا العليا “الكرملين” لتصبح قضية داخلية يتوجب على النظام الروسي التعامل معها، ففي نقاش الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الموجه بضجرِ لمنتج الموسيقى الروسي إيغور ماتفيينكو في أثناء جلسة منعقدة لمجلس روسيا الاستشاري للفنون والثقافة قال الأول: إذا كان من المستحيل إيقاف شيء ما، فعليك تحمل المسؤولية عنه، مشيرًا بعبارته إلى موسيقى الراب التي وصفها أن ترتكز على الجنس والمخدرات والاحتجاجات.
عَبّر بوتين أن استيائه الأكبر من المخدرات فوصف أثرها بأنه يكفي لتدمير روسيا، لكن ثمة شيء يخيف الرئيس الذي يحترف عزف البيانو وهو أن الاحتجاجات هي المرتكز الأساسي لقلقِ الكرملين من الراب، فتحظى أغاني الراب بشعبية ملايين الشباب الروسي وقد حصدت أغاني مطربي الراب في روسيا ملايين المشاهدات على موقع يوتيوب التي تمتلأ بعبارات تنتقد وحشية الشرطة والفساد السياسي للدولة.
إثر حادثة هاسكي تضامن ثلاثة مطربين للراب مع زميلهم وقت سجنه وهم وَكسيميرون وباستا ونويز أم سي، حيث قال الأول: حريّة التعبير ينبغي أن تكون متاحة للكل، إن كان مقطع مصوّر يسبب إزعاجًا لأحد فما على هذا الشخص سوى ألا يشاهده، وانتقدت المطربة أناستازيا كريسلينا وهي أحد مطربي فريق أي سي 3 بيك السياسة الأمنية للدولة تجاه موسيقى الراب، حيث قالت إن السلطة تعاملهم وكأنهم مجرمون، يتذكرون جميعًا معاملة الاتحاد السوفييتي لحفلات الموسيقى التي كانت تقام في السر لعداء النظام لها، فلروسيا القديمة تاريخ مع عداء الموسيقى، فقد اعتقلت الحكومة الشيوعية بقيادة ستالين الموسيقار ديمتري شوستاكوفيتش بسبب أن حفلاته الموسيقية لم تعجب الأخ الأكبر وقتها ستالين لأنها كانت تعبر عن حقيقة الوطن المنعزل والمواطن البائس في ظل حروب ودماء ومستقبل بلا عينين.
أما في عهد قيصر الكرملين الحاليّ فقد اتخذ سياسة الحذر والحظر غير الكامل مع حفلات وموسيقى الراب، فبعد أن صرح بوتين أنه يجب توجيه موسيقى الراب لما هو هادف بعيدًا عما أسماه الجنس والمخدرات، صرح السيد فيتالي وهو مسؤول بالبرلمان الروسي أنه يتوجب حظر مُطول على تلك الموسيقى التي تشجع على المخدرات والعنف وحجب مقاطع تلك الموسيقى من على شبكات الإنترنت.
نالت موسيقى الراب وفرقها الفترة الأخيرة تضييقًا كبيرًا كفريق أي سي 3 بيك ic3peak وفريند زون friendzone
شهدت روسيا الفترة الأخيرة حادثتين مروعتين: الأولى انتحار الطالب فلاديسلاف روسلياكوف (19 عامًا) بإطلاق النار على نفسه بمدينة كيرتش التي ضمتها روسيا أخيرًا، وقد لوحظ ارتداؤه قميصًا مكتوب عليه كلمة الكراهية في أثناء انتحاره، وبعد أسبوعين فقط، مات ميخائيل زلوبيتسكي (17 عامًا) إثر انفجار قنبلة كان يحملها معه داخل مقر fsb “جهاز الأمن الفيدرالي”، وفي وقت لاحق من التحقيقات صرح رئيس جهاز الأمن الفيدرالي ألكسندر بورتنيكوف أن الشابين كانا ينجذبين إلى جماعات يسارية متطرفة وكان يُغذى ذلك الانجذاب عن طريق شبكات الإنترنت، وقال بعد ذلك الضابط دميتري دجولاي الذي يعمل بقسم التطرف بوزارة الداخلية إن الموسيقى هي السبب، وألقى شارة التطرف على الموسيقى التي يحب أن يسمعها الشباب.
لذلك نالت موسيقى الراب وفرقها الفترة الأخيرة تضييقًا كبيرًا كفريق أي سي 3 بيك ic3peak وفريند زون friendzone ومطربيها كهاسكي وكِريسلينا وغيرهم، ويتعامل الكرملين مع الملف بسياسة العداء المستتر وراء قيم العائلة المحافظة، فقد شاركت الكنيسة الأرثوذوكسية الكرملين في التصدي لموسيقى الراب في حملة مضمونها المحافظة على قيم وأخلاق العائلة، وينظر بوتين لها على أنها نوع احتجاجي يتبناه ملايين الشباب الروسي قد ينفجر في أي لحظة في وجهه مع تزايد الضيق الاقتصادي الروسي وانتشار الفقر والجريمة وتيه الهوية الفكرية وكبت الحريات العامة، فبحسب منظمة فريدم هاوس فإن روسيا من ضمن البلاد التي لا يتوافر فيها حرية ثقافية أو سياسية.
مصر.. كيف حاصر السيسي الموسيقى؟
لم تختلف كثيرًا نظرة العسكرية الشيوعية في روسيا عن العسكرية الاقتصادية في مصر لموسيقى ومُطربي الراب، كانت الموسيقى في أول متنفسٍ لها أيام الديكتاتورية الخفيفة أي أيام أبو جمال وعلاء، فلم تخرج موسيقى الراب عن إطارها المعروف بقضايا المجتمع والشباب، كان أول ظهور بارز لها عام 2009 في الإسكندرية عندما أطلقت فرقة DaCliQue 203 أغنيتها المعنونة بياعم الحج التي انتقدت كلماتها نية رأس النظام المصري حسني مبارك في توريث ابنه جمال الرئاسة خلفًا له، وانتقدت سياساته القمعية والاقتصادية الفاشلة التي أدت إلى الفقر والجهل لدى الشعب المصري.
ولكن بعد قيام الثورة في يناير/كانون الثاني عام 2011 علا صدى صوت الراب مُصطدما بحائط السياسة أكثر وأكثر، فأطلقت فرقة رفليوشن ريكوردس في منتصف عام 2011 أغنية عسكر كاذبون التي لم تكتف بانتقاد إدارة المجلس العسكري بقيادة المشير طنطاوي لشؤون البلاد، بل اتهمته بشكل صريح بأنه لم يحم الثورة وطامع في السلطة وأدانته بضرب وسجن وقتل كل من يعارضه من شباب الثورة، الثورة التي وصفها بأنها مستمرة ورافضة للكذب الذي ينتهجه المجلس العسكري.
لم يكن في حسابات موسيقى الراب وغيرها من الموسيقى الشبابية أن بيان انقلاب الجيش على الرئيس محمد مرسي بقيادة عبد الفتاح السيسي سوف يتوغل قمعه داخل أركان المجتمع المصري بكل زواياه
بدأت قضايا المجتمع تستعيد ضفتها من جديد بعد أن تولى الإخوان المسلمون الحكم بقيادة الرئيس محمد مرسي في أواخر يونيو/حزيران من عام 2012 مبرهنةً أن الحالة الثورية أصبحت أقل اشتعالاً من حيث الأحداث، بينما انجلى على المجتمع المصري وقتها الاستقطابات الفكرية والأيديولوجية.
لم يكن في حسابات موسيقى الراب وغيرها من الموسيقى الشبابية أن بيان انقلاب الجيش على الرئيس محمد مرسي بقيادة عبد الفتاح السيسي سوف يتوغل قمعه داخل أركان المجتمع المصري بكل زواياه، لم يكن الانقلاب على الإخوان فقط، بل على الثورة بأطيافها كافة، حاولت فرق الراب أن تستعيد الصدام مع حائط السلطة السياسية في مصر، فأطلق فريق ريفلوشن ريكوردس أغنية سماها ميصحش كدا وهي عبارة يكررها السيسي في خطاباته للشعب المصري، انتقدت الأغنية الحكم الأكثر استبداد في البلاد بكلماتها التي تعلن انقلاب السيسي والسلطة القائمة على الثورة واعتقال نشطائها واعتقال أي رأي حر مصنفًا إياه بأنه رأي إخواني.
كان الانتقاد لاذعًا للغاية مما أدى إلى تهديد الفريق من مصدر رئاسي بعدم المساس بالسلطة السياسية المصرية في أغانيهم حسب شهادات أحد مطربي الفريق، ومن حينها لم يصدر الفريق أيًا من الأغاني التي تنتقد الرئيس والسلطة، لم يكن السيسي غافلاً عن نموذج الاتحاد السوفيتي في مطاردة الموسيقى التي تنتقد السلطة، فعلى سبيل المثال سافر المطرب المصري رامي عصام الذي اشتهر في ميدان التحرير عام 2011 بمغني الثورة إلى مدينة مالمو السويدية في إحدى الحفلات الموسيقية، ثم لجأ إلى هناك إثر اضطهاد سياسي يتعرض له من النظام المصري بسبب أغانيه عن الثورة وحكم السيسي الذي وصفه تكرار الظالم والمستبد.
ولم يهدئ عصام من انتقاده للنظام المصري ورئيسه، فقد تعرّضت آخر أغنية له لشخص السيسي ذاته التي أسماها بلحة وشاهدها قرابة 5 ملايين شخص على يوتيوب ولاقت لذوعًا مستفيضًا من السلطات المصرية وهجومًا شرسًا عليه من أعضاء بالحكومة وإعلام موالٍ للسلطة لتجريحه وكنيته للرئيس السيسي متخذًا بتلك الأغنية قرارًا بعدم رجوعه إلى البلاد مرة أخرى أو الرجوع إلى السراديب السوداء.
يبدو أن السيسي يخطو على حبل بوتين في إحكام قبضته على موسيقى الشباب، لكن الثاني كان أكثر صراحة في مهاجمة الراب كسلعة مروجة لإفساد روسيا
لم تفلت فرقة كايروكي المصنفة موسيقاها ضمن الأندر جراوند التي يشاركها مطربي الراب كلمات أغانيها من مراقبة نظام السيسي، يعتبر كايروكي الفريق الشبابي الأشهر في مصر، اكتسب شهرته أيام ثورة يناير ليكمل بعدها مسيرته الغنائية للثورة والمجتمع، في منتصف ديسمبر/كانون أول الماضي وفي إحدى حفلات الفريق بالقاهرة انقطع صوت الميكرفون من أمام مطرب الفريق أمير عيد لتنقطع كلمات أغنية مطلوب زعيم التي كان يتفاعل معها الجمهور.
ليستنكر الذي قام بقطع الصوت عن الحفل، كيف الطلب بزعيم وعبد الفتاح السيسي في سُدة الحكم، وتعوّد الفريق في أعوامه الأخيرة على تأجيل حفلاته من ميعاد لآخر ومن مكان لآخر لدواعي أمنية في الغالب، الفريق الذي صرح مُطربه أمير عيد في لقاء تليفزيوني لقناة dw الألمانية أنه شعر وهو يكتب كلمات أغنية آخر أغنية أنها بالفعل قد تكون آخر أغنية له لانتقاده لممارسات النظام من قمع للحريات وسجن للشباب.
في منتصف عام 2018 شكل النظام المصري لجنة مختصة لفحص تراخيص الحفلات المصرية، ويتحكم في قرار اللجنة أفراد من وزارة الداخلية والثقافة والسياحة ممّا يستدعي أن التراخيص فيما بعد ستكون بموافقة الجهاز الأمني في مصر، ووصفت مؤسسة حرية الفكر والتعبير هذا القرار بأنه يعني إقامة الحفلات التي ترضي النظام المصري فقط وتهميش وإلغاء ما لا يرضيه، وأضافت أن ذلك القرار يقتل الإبداع.
لم تعد الأنظمة في العالم تتجاهل قوة الموسيقى الشبابية وكلماتها في تهديد استقرارها وأثرها الكبير على المجتمع بكل شرائحه وأنها بمثابة سلاح عُمّرت رصاصاته لسنوات في آذان الشباب حتى تنطلق في صدر النظام دون إذن
يبدو أن السيسي يخطو على حبل بوتين في إحكام قبضته على موسيقى الشباب، لكن الثاني كان أكثر صراحة في مهاجمة الراب كسلعة مروجة لإفساد روسيا، بينما كان الأول أكثر تشديدًا عليها، متحججًا بالدواعي الأمنية وأكثر تسترًا، فلم يُدل السيسي بأي تصريح بشأن موسيقى الشباب، وربما ينوي الحديث عنها بعد أن يصل لعامه الـ18 في سدة الحكم مثل نظيره الروسي.
لم تعد الأنظمة في العالم تتجاهل قوة الموسيقى الشبابية وكلماتها في تهديد استقرارها وأثرها الكبير على المجتمع بكل شرائحه وأنها بمثابة سلاح عُمّرت رصاصاته لسنوات في آذان الشباب حتى تنطلق في صدر النظام دون إذن، لذلك يُفرض على الموسيقى في السنوات الأخيرة التي لا تتماشى مع السلطة حظر تجوال على آذان جمهورها.