لم يترك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فرصة الحديث عن سوريا، خلال خطابه الذي أعلن فيه الموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، وقال: “يجب أن يدرك بشار الأسد أنه يلعب بالنار”.
وتشير عبارة “اللعب بالنار” عادة إلى تحذير يتجاوز مرحلة التلويح إلى مرحلة التهديد الصريح، الذي يؤكد أن الأسد يخالف حتى الآن ما طُلب منه بشأن منع قوافل الأسلحة الإيرانية من العبور نحو “حزب الله” عن طريق سوريا، ويأتي استكمالًا لتهديدات وُجّهت إلى الأسد في أوقات سابقة، بأنه إذا لم يلتزم بهذا الأمر فإنه سيلقى نفس مصير زعيم “حزب الله” حسن نصر الله.
وفي معرض حديثه عن اتفاق وقف النار مع “حزب الله”، قدّم نتنياهو توضيحات بشأن الأسباب التي دفعت تل أبيب لإبرام الصفقة، وقال إن السبب الأول هو “التركيز على التهديد الإيراني، ولن أخوض في ذلك”، وذكر سببًا سمّاه “فصل الساحات”.
ويشير مصطلح “فصل الساحات” إلى توجُّه إسرائيلي صريح باستغلال وقف إطلاق النار في لبنان للتفرغ لجبهة غزة من جهة، وصدّ النفوذ الإيراني في سوريا من جهة ثانية، في ظل عدم قدرة تل أبيب على تحقيق أهداف متزامنة في كل الجبهات، بسبب نقص العديد البشري المقاتل، وانخفاض توريدات السلاح التي ذكرها نتنياهو صراحة في خطابه السابق.
وبالإضافة إلى البنود الرسمية التي أُعلن عنها في الاتفاق، فإن هناك وثيقة منفصلة أقرّتها الولايات المتحدة ولم تُدرج في الاتفاق اللبناني، بحسب ما ذكرت صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية، وهي أن الاتفاق يحفظ لـ”إسرائيل” حق اتخاذ إجراءات عسكرية فورية ضد التهديدات المباشرة، مثل إطلاق الصواريخ أو القصف، كما تحتفظ “إسرائيل” بالقدرة على منع نقل الأسلحة من سوريا إلى “حزب الله”، وهذا ما يعني بشكل صريح أن الساحة السورية لن تكون ضمن اتفاق وقف النار من جهة، وأنها ستشهد تصعيدًا عسكريًا من جهة ثانية.
ويتمثل التصعيد الإسرائيلي المحتمل في الرقعة السورية بتحقيق هدفَين اثنين بشكل متزامن، الأول هو استهداف ممرّ الأسلحة الإيرانية نحو “حزب الله”، من الحدود السورية العراقية شرقًا، نحو الحدود السورية اللبنانية غربًا، والثاني هو إفراغ هذا الممر من أي وجود للفصائل التابعة للحرس الثوري الإيراني، تمهيدًا لطرد إيران من كامل الجغرافيا السورية.
وبحسب المعطيات المتوفرة من خلال التصريحات والأحداث الأخيرة في سوريا، فإنه يرجَّح تصعيد العمليات العسكرية الإسرائيلية والأمريكية في سوريا، من خلال عدة مظاهر:
الأول: تكثيف الضغط والمراقبة على الحدود السورية العراقية، إذ تشكّل هذه الحدود بداية الممر الطويل للأسلحة الإيرانية نحو “حزب الله”، ويتوقع أن يتولى الجيش الأمريكي على جانبَي الحدود مهمة الإشراف والسيطرة الجوية، والتدخل عند الحاجة، وهذا ما بدأ بالفعل قبل أيام من إعلان وقف إطلاق النار في لبنان، وأفادت تقارير صحفية بأن الجيش الأمريكي كثّف نشاط الطائرات بدون طيار على الحدود السورية العراقية، بهدف منع تهريب الأسلحة والمقاتلين، وتعقب الهجمات من الأراضي العراقية على “إسرائيل”.
وقبل ساعات من دخول إطلاق النار في لبنان حيز التنفيذ، قالت القيادة المركزية الأمريكية إنها ضربت منشأة لتخزين الأسلحة تابعة لجماعات مسلحة متحالفة مع إيران في سوريا، وأضافت أن الضربات جاءت ردًّا على هجوم ضد قوات أمريكية في سوريا، يوم الاثنين الفائت، في إشارة إلى هجوم صاروخي نفّذته الفصائل الموالية لإيران ضد قاعدة حقل العمر النفطي في ريف دير الزور الشرقي.
الثاني: زيادة مستويات القصف والاستهداف لمواقع الفصائل التابعة لإيران و”حزب الله” داخل الأراضي السورية، ومستودعات الأسلحة الإيرانية هناك.
ورغم أن هذا الإجراء كان قد بدأ مع انطلاق العمليات العسكرية في لبنان في سبتمبر/ أيلول الماضي، فإنه بعد اتفاق وقف النار سيأخذ منحى أكثر حدّة، مع تفرُّغ الجيش الإسرائيلي لتحقيق هدف تجفيف موارد “حزب الله” العسكرية القادمة من سوريا.
ويوم الاثنين الفائت، نشر الجيش الإسرائيلي تفاصيل ومعلومات عن استهداف ما سمّاه “محاور تسليح إيرانية”، تنشط في نقل المعدّات القتالية لـ”حزب الله” عبر الأراضي السورية، وجاء في بيان مصور للناطق الإعلامي باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي على حسابه على إكس، أن إيران عملت خلال سنوات، بالتعاون مع “حزب الله”، على إنشاء محاور سرّية بين سوريا ولبنان، تمّ من خلالها نقل آلاف الشاحنات المحملة بالصواريخ والطائرات المسيَّرة والمعدّات القتالية.
وذكر أدرعي دور الوحدة 4400، التابعة لـ”حزب الله”، في نقل المعدات القتالية الإيرانية من سوريا إلى داخل لبنان، وشنّ سلسلة غارات ضد هذه الوحدة، أسفرت إحداها عن القضاء على قائد الوحدة محمد جعفر قصير في بيروت، وخليفته علي حسن غريب في دمشق، كما استهدفت الغارات -بحسب أدرعي- نفقًا بين الأراضي السورية ولبنان يبلغ طوله 3 كليومترات ونصفًا، وينشط في تهريب الأسلحة منذ نحو 10 سنوات.
وتحت عنوان “عاجل وخطير”، قالت رئيسة قسم الإعلام العربي في الجيش الإسرائيلي، كابتن إيلا، عبر تغريدة في حسابها على منصة إكس، إن نظام الأسد ضالع بعمليات تهريب الأسلحة بين سوريا ولبنان، وأوضحت أن ذلك يتم بوسيلتَين رئيسيتَين: تخزين الأسلحة في مستودعات الجيش السوري، وتقديم “تسهيلات” عبر المعابر التي تديرها وحدة الأمن العسكري السورية.
الثالث: يتمثل في ضرب المعابر الرسمية وغير الرسمية بين الأراضي السورية واللبنانية، والتي تقول “إسرائيل” إنها تُستخدم أيضًا لتهريب الأسلحة ونقل المقاتلين بين الجانبَين.
ومنذ بدء الحرب في لبنان، قصف الجيش الإسرائيلي عدة مرات معبر المصنع الحدودي، الذي يعدّ الأكبر من بين تلك المعابر، وقبل وقف إطلاق النار في لبنان بساعات قليلة، شنَّ الجيش الإسرائيلي غارات عنيفة استهدفت عدة معابر بين محافظتَي حمص وطرطوس السوريتَين والأراضي اللبنانية.
وقالت وكالة “سانا” الناطقة باسم نظام الأسد، إن “العدوان الإسرائيلي الغاشم أدّى إلى إلحاق أضرار جسيمة ودمار كبير في جسور الدبوسية وجسر قمار والجوبانية بريف حمص الغربي، والعريضة في طرطوس على الحدود السورية اللبنانية وخروجها من الخدمة”، كما أدّى “العدوان إلى ارتقاء 6 شهداء بينهم عسكريان اثنان والباقي مدنيون، وإصابة 12 آخرين بجروح منهم أطفال ونساء وعاملون بالهلال الأحمر العربي السوري”.
وأفاد أدرعي تعليقًا على هذه الاستهدافات، أن الجيش الإسرائيلي “هاجم بنى عسكرية مجاورة لمعبر جوسية الحدودي شمال البقاع، والتي يستخدمها حزب الله لنقل الأسلحة، ويدعو السلطات السورية واللبنانية إلى العمل لمنع استخدام المعابر المدنية لأغراض إرهابية”، وأضاف أن نظام الأسد يتحكم بمعبر جوسية، “حيث يتم تفعيله من قبل الأمن العسكري السوري لتتحمل الوحدة 4400 في حزب الله، وهي وحدة التسلح والتعاون، مسؤولية نقل هذه الوسائل من إيران إلى سوريا”.
الرابع: هو زيادة التوغل البرّي في جنوب غرب سوريا، وهو ما بدأته “إسرائيل” بالفعل قبل اندلاع الحرب في جبهة لبنان بشهور طويلة، ورفعت وتيرته منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، إذ أكملت ما يُعرف بـ“ممر سوفا 53” وفق تفاهم غير معلن مع القوات الروسية المنتشرة في منطقة خط يوندوف.
ونقل تقرير لصحيفة “الأخبار” اللبنانية المقرّبة من “حزب الله”، صدر في تاريخ 11 سبتمبر/ أيلول، تسريبات عن خطة إسرائيلية تقضي بأن الجيش الإسرائيلي قد يقطع الطريق على أي إمداد بري يحتاج إليه “حزب الله”، سواء من سوريا أم من العراق، وقطع التواصل بين البقاع والجنوب، وأنه لتحقيق ذلك يخطط لعملية عسكرية برّية يدخل من خلالها إلى مناطق الجنوب والجنوب الغربي لسوريا، ويتقدم شرقًا باتجاه عمق لبنان بغية قطع الطريق بين البقاع والجنوب.
وفي حين أن قطع الطريق بين البقاع شرق لبنان والأراضي السورية شكّل هاجسًا عسكريًا ملحًّا لجيش الاحتلال الإسرائيلي، في سبيل قطع الطريق بين “حزب الله” وسوريا، فإن قدرة تل أبيب على تنفيذ هذا المخطط تصبح أكثر سهولة مع التقاط أنفاسها في جبهة لبنان، وتفرُّغ جيشها لـ”حرية العمل” في قطع موارد “حزب الله” العسكرية من الجانب السوري.