“الرسم هو بعث الحياة فيما يراه العقل من أجل متعة العين، وبقدر ما ترى العين العالم بقدر ما تخدم العقل، وهذا يعني أن الجمال هو إعادة اكتشاف العين للعالم ولما يراه العقل” كمال الدين بهزاد.
تُقاس قوة الحضارات بما تخلفه وراءها من آثار تدل على أنها كانت موجودة يومًا ما، حكمت هذه البقعة من العالم أو تلك وتركت فنًا أصيلًا لا يستهان بروعته، وبالنسبة للحضارة الإسلامية فيمكننا التعرف عليها بشكل عام من خلال الرسوم والتصاميم الزخرفية والهندسية والفنية التي ظهرت في فترة مبكرة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، ويعد فن المنمنمات جزءًا مهمًا وأصيلًا من كيان الفن الإسلامي الذي ازدهر وانتشر كأداة فنية تجميلية تعيد عرض مضمون النص بشكل مرئي وذلك من خلال رسم النص وتأويله على هيئة صورة تشكيلية مصغرة النسب والحجم.
وقد ورث الفن الإسلامي هذا النوع من الرسم من الحضارات السابقة على الإسلام وعكف على تطويره حيث نما وبلغ درجة عالية من الإبداع ونضجت هويته الإسلامية خلال القرن التاسع الميلادي ثم ترعرع وبلغ أوج قوته وإبداعه خلال القرن الـ14 الميلادي.
تاريخ فن المنمنات: البداية من كتاب كليلة ودمنة
فن المنمنمات هو فن توشيح النصوص بالرسوم التوضيحية المصغرة، وكلمة منمنمة في المعجم الوجيز تعني الشيء المزركش والمزخرف ونمنم الشيء أي زركشه وزخرفه، وتمتاز المنمنمة بالدقة في التصوير وتنميق المخطوطات والنصوص بالألوان والرسوم التي على الرغم من صغرها تتميز بالدقة وكثرة التفاصيل والعناصر الفنية والتشكيلية مثل الرسوم الحيوانية والنباتية والأثاث والعمائر والتحف.
منمنة من كتاب مقامات الحريري، تماهي النصوص مع الصور
وفن المنمنمات يختلف عن فن تزيين المخطوطات، إذ إن التزيين يعني زخرفة متنوعة لا علاقة لها بالنصوص المكتوبة وذلك مثل التذهيب والزخارف الجمالية والحليات أما المنمنمات فتعني الزخارف التي تبرز المشاهد في علاقة مباشرة مع النص، وقد ظهرت المنمنات في الحضارات القديمة مثل البيزنطية والفارسية والهندية وأول كتاب عربي جسد فن المنمنمات كان “كليلة ودمنة” وهو كتاب هندي ترجمه الفرس إلى لغتهم قبل الإسلام بقرون عديدة ثم ترجمه ابن المقفع للغة العربية في القرن الـ8 الميلادي.
ومن أشهر الكتب المزودة بالمنمنمات كتاب “مقامات الحريري” الذي يعد رسامه يحيى بن محمود بن يحيى بن أبي الحسن الواسطي من أهم رسامي فن المنمنمات، وكتاب “الأغاني” لأبي فرج الأصفهاني وكتاب “الكواكب الثابتة” لعبد الرحمن الصوفي، وكتاب “الترياق” لجالينوس وكتاب “خواص العقاقير” لديوسقوريدس وكتاب “البيطرة” لأحمد بن حسين.
تطور فن المنمنمات في الحضارة الإسلامية
كان العرب بعد الإسلام يكتبون على الرق “الجلد” والبردي المصري في البداية ثم انتقلوا بعد ذلك للكتابة على الورق وذلك حين فتحوا بلاد ما وراء النهر وساروا صوب بخارى وسمرقند وحدود الصين حيث كانت الأخيرة تشتهر بصناعة الورق، ولذلك قام الأمير زياد بن صالح الحارثي بإدخال صناعة الورق إلى سمرقند عن طريق مجموعة من الأسرى الصينيين خلال عام 751 ميلاديًا، إذ عمل الصينيون على تحسينها بإدخال القطن والكتان ومن هنا ازدهرت صناعة الورق وتم تصديره إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي.
لم يكتف الوراقون بمجرد استنساخ النصوص والتجليد ولكنهم أبدعوا في مهنتهم وظهرت طبقة جديدة من الوراقين الرسامين
وخلال عام 760 ميلاديًا أمر أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين بالتوسع في صناعة الورق وفي عهد الخليفة هارون الرشيد نُقلت صناعة الورق إلى مدينة بغداد عاصمة الخلافة العباسية وأنشئ أول مصنع للورق في بغداد بطلب من الفضل بن يحيي البرمكي، وقد أدى انتشار صناعة الورق إلى ظهور مهنة جديدة اشتق اسمها من الورق وهي مهنة “الوراقة” وهي كما عرفها ابن خلدون في مقدمته “معاناة الكتب بالانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكُتُبيِّة والدواوين بالإضافة إلى التجليد والتذهيب”.
فيما بعد لم يكتف الوراقون بمجرد استنساخ النصوص والتجليد ولكنهم أبدعوا في مهنتهم وظهرت طبقة جديدة من الوراقين الرسامين وكانت رسومات الوراقين في أول عهدها بسيطة لا تعدو أن تكون مجرد خطوط تحدد الأشكال يرسمها الوراق بعد الفراغ من كتابته للنص دون استخدام أي نوع من الألوان إذ كان يستعمل حينها قلم القصب ونصاب ريش الأوز أو المرقاش، وفي تلك المرحلة كانت الرسومات تحتوي على بعدين فقط هما الطول والعرض.
وفي مرحلة متقدمة تطورت الرسومات بشكل كبير وأطلق عليها في البداية اسم التزاويق ثم المنمنمات وفي تلك المرحلة نشأت مدراس من أجل تعليم الصبية هذا النوع من الفن وأضحى فن تصوير المخطوطات ورسمها ميدانًا واسعًا لمنافسة الفنانين والمبدعين إبرازًا لمواهبهم الفنية من جهة وإرضاءً للحكام والأمراء من جهة أخرى.
منمنمة حاملو رايات الخليفة في أثناء الاحتفالات برؤية هلال العيد، المدرسة العراقية، المخطوط محفوظ بالمكتبة الأهلية في باريس
في تلك المرحلة كانت الرسومات أكثر تطورًا وتحتوي على ثلاثة أبعاد أبدع رساموها في تزيينها بالذهب والفضة ثم استخدموا الألوان عن طريق الاعتماد على الأصباغ المستخلصة من خلط مواد معدنية ممزوجة مع لصق عضوي، حيث كان اللون الأحمر يتم استخلاصه من الزئبق وأكسيد الكبريت، واللون الأزرق من حجر اللازورد.
أشهر مدارس المنمنمات الإسلامية
لفن المنمنمات مدارس متعددة تأثرت كل منها بالموروث المحلي وتركت أثرًا فنيًا قويًا واختلفت المدارس على أساس فكرة التناسب معطيات متعددة مثل البشر والطبيعة والألوان والأبعاد والعلاقة بين ما هو من صنع الله وما هو من وحي خيال الفنان، فالمنمنمات الفارسية على سبيل المثال كانت تتلاعب كثيرًا في التناسب بين حجم الرأس والجسم وطريقة توزيع الألوان، ومن أشهر مدارس المنمنمات الإسلامية:
المدرسة العراقية
نشأت هذه المدرسة في القرن الـ13 الميلادي وهي المدرسة الرائدة في فن المنمنمات ومن أبرز خصائص المدرسة العراقية في التصوير جنوح فنانيها إلى الاهتمام بالأشكال على حساب الطبيعة وعدم اهتمامهم بالنزعة التشريحية أو التقيد بالنسب الخارجية للأشكال المرسومة، وعوضًا عن ذلك اهتمت المدرسة العراقية بالتوثيق التاريخي لموروث الشعب العراقي حيث حفظ لنا هذا الفن صور الحياة والعادات والطقوس والأحداث التاريخية والعمارة والفنون في العراق.
منمنمة من مخطوط “الشاهنامه” المدرسة الفارسية
المدرسة الفارسية
ورثت المدرسة الفارسية مدرسة العراق واستفادت من هروب الفنانين وهجرتهم بعد اندلاع حرب بغداد، ومن مدرسة العراق وإبداع الفرس انبثقت منمنمات آية في الجمال تفردت باحتوائها على المؤثرات الواقعية في الزخارف الهندسية: يقول بازيل غمري في كتابه الرسم الإيراني: “امتزجت خبرات الفنانين الإيرانيين مع خبرات المدرسة العراقية لا سيما عند وصول البرامكة إلى الحكم، إذ استعانوا بالعديد من الفنانين الإيرانيين واستقدموهم إلى بغداد لأنهم حافظوا على أصالة الرسم العراقي وأبقوا تراث المدرسة العراقية بعيدًا عن التأثير الصيني، ولكن بعد استيلاء المغول على إيران بدأت تظهر المدرسة المغولية وتغير رسم المنمنمات ليتحول إلى الأسلوب الصيني”.
منمنمة من مخطوط “كلستان” لسعدي الشيرازي، من مخطوط محفوظ بدار الكتب المصرية
المدرسة المصرية
شملت مصر وبلاد الشام وتصاعد دفقها الإبداعي ولكنها أُجهضت على يد الأيوبيين وذلك بسبب تبنيهم خطًا فقهيًا سلفيًا متشددًا في التعامل مع الفنون وخاصة فن التصوير والرسم، وبعد إغلاق المدرسة المصرية تحول بعض فنانيها من رسم المنمنمات إلى النقش على الخزف وتزيين المساجد فيما حذا العديد منهم حذو فناني العراق بعد تردي أحوالهم حيث شدوا الرحال إلى بلاد أخرى في الشرق واستقروا في مدن يلمع بريق الفن بها مثل سمرقند وتبريز وبخاري في آسيا الوسطى ثم دلهي وأكرا في الهند التي كانت تشهد ميلاد مدارس جديدة آنذاك استمرارًا لفن المنمنمات.
منمنة توضح سير الموكب العثماني من مخطوط “سيرنامه مراد الثالث”، محفوظة بمتحف توبكابي بوسراي بإسطنبول – تركيا
المدرسة التركية
ازدهر فن المنمنمات في المدرسة التركية بشكل خاص خلال عهد الخليفة العثماني سليمان القانوني في القرن الـ16، وورثت هذه المدرسة فن النمنمات من الشرق الإسلامي ومن أهم إنتاجها كتاب “زبدة التّواريخ” للمؤلف سيّد عاشوري ولكن هذه المدرسة اندثرت ليس بسبب حرب ولا تسلط سلطة حاكمة ولكن بسبب تأثرها البالغ بالفنون الأوروبية لا سيما فناني عصر النهضة الإيطالية ولا يوجد ماهو أخطر على أي فن من الانسحاق كليًا أمام فن آخر والانصهار في بوتقته دون الحفاظ على خصوصيته وتراثه.
كمال الدين بهزاد: رائد فن المنمنمات الإسلامية
يعد كمال الدين بهزاد واحدًا من أكثر الفنانين تأثيرًا في مسيرة فن المنمنمات الإسلامية وذلك بسبب نزعته الواقعية والعناية بأدق التفاصيل في لوحاته الفنية، وقد عمل كمال الدين بهزاد الفارسي الأصل في خدمة بلاط السلطان حسين ميرزا بايقرا أحد كبار الأمراء من سلالة تيمورلنك، وقد ألحقه بهذا العمل الشاعر والوزير علي شيرنوائي، حيث عهد به إلى “ميرك” أشهر رسامي بلاط هراة والحقيقة أن أسلوب ميرك كان له تأثيرًا جليًا على أعمال بهزاء اللاحقة خاصة من ناحية العناية بالتفاصيل الدقيقة لخلفيات الطبيعة مثل صخور الجبال والنباتات المتناثرة في أرضية الصورة.
منمنمات كمال الدين بهزاد
وبعد فترة قصيرة جدًا من تعليمه على يد ميراك نضجت شخصية بهزاد الفنية بشكل مبهر وتجلت موهبته في المنمنمات التي زود بها الكثير من المخطوطات، وذلك مثل نسخة كتاب أشعار سعدي الشيرازي المعروف بالبستان والموجودة حاليًّا في دار الكتب المصرية بالقاهرة، وهناك أيضًا نسخة من أشعار نظامي المعروفة “بخمسة نظامي” محفوظة في المتحف البريطاني بمدينة لندن وتحمل صور هاتين المخطوطتين توقيع كمال الدين بهزاد.
من خلال الاطلاع على رسومات المنمنمات والتدقيق جيدًا في ألوانها يمكن الاستدلال بسهولة على معرفة الأحوال الاقتصادية للأقطار الإسلامية ومعرفة مدى اهتمام السلاطين والحكام برعاية الفن والفنانين
وأخيرًا يمكن القول إن فن المنمنمات الإسلامي يعد من أطول الفنون الزخرفية عمرًا إذ استمر من القرن الـ8 الميلادي وحتى القرن الـ19 وعليه فهو يعتبر من أكثر الفنون ثباتًا وتنوعًا وثراءً في الوقت نفسه، إذ استطاع الحفاظ على هويته الإسلامية خلال فترة طويلة أثرى خلالها أساليب الرسم والتصوير وهو ما تجسد في تعدد مدارس المنمنمات.
هذا ويعد هذا الفن من أكثر الفنون تعبيرًا عن المجتمعات الإسلامية وأحوالها الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية حيث عبر هذا الفن بكل صدق عن ثقافة الطبقة الحاكمة والشعوب على حد سواء، فلم يكن الفنانون يقتصرون على تلبية أوامر الملوك والأمراء ولكنهم حرصوا في الوقت نفسه على تأريخ ثقافات بلادهم المحلية مثلما فعلت المدراسة العراقية، ومن خلال الاطلاع على رسومات المنمنمات والتدقيق جيدًا في ألوانها يمكن الاستدلال بسهولة على معرفة الأحوال الاقتصادية للأقطار الإسلامية ومعرفة مدى اهتمام السلاطين والحكام برعاية الفن والفنانين وهل وجهوا الفنانين للتعبير عن توجهاتهم السياسية والفكرية أم أطلقوا لهم عنان الحرية في رسم ما يدور بخيالهم.