العلاقات الإيرانية السورية جاءت بعد تفكك الدول العربية، في سبعينيات القرن الماضي، وخسارتهم مقابل “إسرائيل”، وفي الوقت ذاته واجه النظام السوري عزلةً دولية، حاول الأخير توسيع العلاقات مع طهران في محاولة منه لفك عزلته وتوطيد علاقاته معها تزامنًا مع الثورة الإيرانية الإسلامية، مما جعل العلاقات الإيرانية السورية في طور متميز على عكس العلاقات العربية الإيرانية، من خلال ذلك كونا محور الممانعة والمقاومة بالاشتراك مع حزب الله اللبناني ضد الاحتلال الإسرائيلي.
ولذلك حافظت إيران على متانة علاقتها مع النظام السوري خلال السنوات الماضية من الثورة السورية، حيث سعت إلى دعم النظام السوري اقتصاديًا بعد عزلته عن أغلب الدول العربية، كما تدخلت عسكريًا بقوة كبيرة ضد قوات المعارضة المسلحة إلى جانب صفوف قوات النظام التي استنزفت خلال المعارك إلى جانب انشقاق المئات منها، ويعتبر حجم التدخل العسكري الإيراني في سوريا عبر ميليشياتها التي تدعمها، في الوقت الحاليّ، تمامًا بحجم الآثار والمعتقدات الدينية التي خلفتها في مناطق وجود ميليشياتها، ولطالما كانت الجهة التي تسيطر على منطقة أو محافظة ما، تتمتع بكامل الحرية في تنفيذ معتقداتها الدينية وبرامجها السياسية، وفقًا لمعايير تعتبرها أحقية من ناحية دينية ربما، ويعتبر التدخل الإيراني في سوريا ليس جديدًا لكنه حقق إنجازات كبيرة على صعيد مشروع تمدده.
إيران في سوريا.. ما قبل الثورة
قبل التدخل الإيراني في سوريا عسكريًا أي قبل الحراك الثوري السوري، استطاعت إيران أن تصرف ملايين الدولارات على اللطميات والحسينيات التي انتشرت بشكل علني، يضاف إلى ذلك تشجيع السوريين للتشيع، من خلال منحهم مرتبات شهرية تقدر بـ5000 ليرة سوريا أي ما يعادل 100 دولار أمريكي في ذلك الوقت، قبل انهيار الليرة السورية، للشخص الواحد، ناهيك على الامتيازات التي يتمتع بها من دخل في المذهب الشيعي، داخل الدوائر الرسمية السورية، وفقًا للمكانة التي تتمتع بها العوائل العلوية التي تعتبر من الأقليات السورية، وكذلك حصل على مكانة في الدولة التي دعمت مشاريع التشييع.
ونجحت تلك الخطة التي اعتبرتها إيران انتصارًا في التمدد الشيعي نحو الوطن العربي وصولًا إلى مياه المتوسط، وغيرها من المراكز الاقتصادية في البلدان العربية الواقعة في الشرق الأوسط، التي تتمتع بأهمية كبيرة وإستراتيجية ولطالما اعتبرتها إيران محورًا للمقاومة والممانعة ضد “إسرائيل” بينما هي على العكس تمامًا تخدم مختلف الأجندات، من بينها نشر الفكر الشيعي.
وإلى جانب نشر المعتقدات الشيعية في البلدان العربية تمكنت إيران من إنشاء وتفعيل عشرات الشركات وفتح الطرق التجارية الدولية إلى لبنان مرورًا بالعراق وسوريا، والتعامل بشكل رسمي مع نظام الأسد الذي يعتبر ضمن محور الممانعة والمقاومة، وهذه الشركات رفعت الاقتصاد الإيراني بشكل ممتاز، وهذا ما بدا واضحًا إبان تدخلها العسكري في سوريا، من خلال دعم مئات الميليشيات، إضافة إلى دعم بقاء نظام الأسد على سدة الحكم في سوريا.
إيران تدخل سوريا عسكريًا
مع توسع الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالتغيير الديمقراطي 2011 في سوريا، وتحول هذه الاحتجاجات إلى شكل مسلح ضد النظام القمعي الذي واجه سلمية المتظاهرين، سعى النظام السوري بعد فقدانه أعداد كبيرة من عناصر جيشه إثر الانشقاقات والمعارك، إلى التعاون مع حلفائه التقليديين، الذي يعتبرهم أصدقاء سوريا التاريخيين، ومن بينهم إيران التي أخذت من الساحة السورية مكانة واسعة.
وأخذت طهران ترسل ميليشيات شيعية من أصقاع الأرض، نحو سوريا في مواجه قوات المعارضة السورية التي اعتبرتها كجهة مدعومة من الغرب تسعى لوقف الزحف الإيراني في وجه مشروعها الإقليمي الذي يتبلور في مواجهة “إسرائيل” كما تدعي، أي محور الممانعة والمقاومة، وعلى رأسه الأسد.
وتنوعت خلفيات الميليشيات منها إيرانية وأفغانية وباكستانية ولبنانية وعراقية ومحلية سورية، مدفوعين إما من منطلق عقائدي أو بإغراءات مالية لهم ولذويهم، ويشرف قادة من الحرس الثوري الإيراني على تجنيد وتدريب هذه المليشيات في سوريا، وتمكنت من خلال هذه الميليشيات إظهار متانة علاقاتها مع نظام الأسد في إطار دعمها الاقتصادي والميداني الذي أحرزته خلال السنوات السابقة، وأخذ التمدد الإيراني العسكري نحو المحافظات السورية بدءًا من العاصمة دمشق حتى الشمال حلب وحماة وإلى الشرق دير الزور وغيرها من المحافظات السورية.
بدا التوغل الإيراني العسكري في سوريا واضحًا بشكل علني وصريح بعد سنتين من اندلاع الثورة السورية، وأخذ يمتد نحو المدن الكبرى في سوريا من بينها دمشق وحلب
واستمر رأس النظام السوري بنفي الوجود الإيراني في سوريا عسكريًا طيلة سنوات، على الرغم من مقتل مئات العناصر من الميليشيات التي تدعمها إيران في سوريا، كما سعى إلى نفي وجود حزب الله اللبناني، رغم مشاركته في الكثير من المعارك من بينها مدينة القصير بريف حمص، خلال عام 2013، ومعارك عدة في محافظة حلب.
وبدا التوغل الإيراني العسكري في سوريا واضحًا بشكل علني وصريح بعد سنتين من اندلاع الثورة السورية، وأخذ يمتد نحو المدن الكبرى في سوريا من بينها دمشق وحلب، ولم يقتصر على جانب جلب الميليشيات إنما امتد لتجنيد مئات العناصر السوريين لجان “الشبيحة” في صفوفهم، كما أرسلت مئات العناصر من الحرث الثوري الإيراني، إلى جانب عدد من المستشارين العسكريين.
الميليشيات التي تدعمها إيران في سوريا
– ميليشيات لبنانية: حزب الله اللبناني، من أهم الميليشيات التي تدعمها إيران في سوريا، ومقر قواته في مدينة القصير بريف حمص الغربي، وتنشط عناصره على حدود سوريا والبنان، لكن مع الوقت تمدد وجودهم ووصلوا إلى ريف حمص وسط البلاد، وإلى محافظة حلب شمال سوريا ودرعا جنوبها.
– ميليشيات عراقية: حزب الله العراقي وحركة نجباء العراق وأسود الله وكتائب الإمام علي واتحاد أصحاب الحق وعصائب أهل الحق وكتائب أبو الفضل العباس وقوات فيلق بدر، تنشط هذه الميليشيات في محافظة دير الزور ودمشق، وحماية مرقد زينب ميليشيا عراقية موجودة في مناطق مثل العاصمة دمشق ومنطقة السيدة زينب وبلدة العيس جنوب حلب وريف حمص الشرقي.
– ميليشيات فلسطينية: من أبرزها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وجيش التحرير الفلسطيني ولواء القدس الفلسطيني وقوات الصاعقة وميليشيا فتح الانتفاضة وقوات الجليل، وغيرها من الكتائب الفلسطينية التي تدعمها إيران في سوريا وتنتشر في عدة محافظات من بينها السويداء وحلب ودرعا ودمشق.
– ميليشيات سورية: من أبرز الميليشيات السورية التي تدعمها إيران في سوريا لواء الباقر الذي يوجد في مدينتي حلب ودير الزور، وتأسس اللواء عام 2014 على يد قائده الحاليّ خالد علي الحسين بهدف الانتقام من فصائل المعارضة السورية، ويضاف إلى لواء الباقر عدد من الكتائب الشيعية في البلدات الشيعية كبلدتي نبل والزهراء شمال حلب.
– ميليشيات أفغانية: من أهم الميليشيات الأفغانية لواء فاطميون الذي أسسه علي رضا توسلي عام 2014 لقتال المعارضة السورية، قوامه عناصر شيعية من قومية الهزارة بأفغانستان، يحصل اللواء على التمويل والتدريب من الحرس الثوري الإيراني، يوجد في البوكمال.
– ميليشيا باكستانية: الميليشيات الباكستانية الشيعية المشاركة في سوريا تسمى لواء زينبيون، يحصل على المال والتدريب من فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، ويتمركز اللواء في محافظتي حلب ودرعا.
ميليشيات إيرانية: فيلق القدس وحدة قوات خاصة للحرس الثوري الإيراني بقيادة اللواء قاسم سليماني، يضم الفيلق تشكيلات عسكرية متعددة، ويعتبر من أبرز الميليشيات التي أسهمت في تراجع سيطرة المعارضة السورية، لواء الإمام الحسين يشترك اللواء مع عمليات الفرقة الرابعة في جيش النظام السوري، يوجد في العاصمة السورية ويتكون من جنسيات شيعية مختلفة.
عقوبات واشنطن على طهران تحدث تغييرًا
استطاعت إيران أن تحقق توازنًا للقوى المتصارعة في سوريا وقدمت خدمة كبرى لواشنطن في إطار دعمها لنظام أسد، وإعادته في الوقوف على قدميه من جديد بعد تدخلها الميداني في سوريا، للحفاظ على الحليف المهم لديها، وتمكنت من إعادة السيطرة على الكثير من المناطق السورية الإستراتيجية، من المعارضة المسلحة، وفي إطار الوصول إلى حل سياسي تحاول واشنطن فرض عقوبات على إيران محاولةً الضغط عليها للخروج من سوريا.
تبدو واشنطن تحاول إيصال رسالة إلى طهران أن المهمة الموكلة لك انتهت ويجب الخروج، لكن المطامع الإيرانية في سوريا أكبر بكثير
وظهر جليًا مدى تراجع الاقتصاد الإيراني من خلال دعمها للميليشيات الموجودة في سوريا، بحسب تقرير نشر الخميس الماضي على موقع نيويورك تايمز، “انعكست الأزمة المالية التي تعاني منها إيران بسبب عقوبات واشنطن على ميليشيات حزب الله في لبنان أيضًا، حيث بدأت رواتبهم بالانقطاع على الرغم من وضع الحزب القريب جدًا من إيران”، بينما قال وزير الخارجية الأمريكي خلال زيارة قام بها إلى لبنان الأسبوع الماضي: “الضغط الذي نمارسه يهدف إلى قطع التمويل عن الإرهابيين، وقد أثبت أنه فعّال”.
وتبدو واشنطن تحاول إيصال رسالة إلى طهران أن المهمة الموكلة لك انتهت يجب الخروج، لكن المطامع الإيرانية في سوريا أكبر بكثير، فقد حققت خلال السنوات الماضية ما لم تحققه على مدى أكثر من أربعة عقود سابقة، حيث افتتحت مراكز للتشيع والحسينيات واللطميات في مختلف المحافظات السورية، إضافة إلى تأمين طريق بري نحو بيروت بالاتصال مع العراق، من مدينة البوكمال المحاذية للحدود العراقية السورية.
إيران تصل مياه المتوسط.. “الهلال الشيعي”
الخيال يصبح حقيقة، طالما كانت فكرة الهلال الشيعي محض خيال لا يقترن بالواقع فهو الآن على أبواب التطبيق، استطاعت إيران رسميًا بمباحثاتها مع رأس النظام السوري بالسيطرة على مرفأ في محافظة اللاذقية غرب البلاد، خلال زيارة الأسد الأخيرة إلى طهران، محاولة إظهار نوع من التوازن مع الوجود الروسي في سوريا، الذي اتخذ عدة قواعد عسكرية في وسط البلاد “حميميم”.
وقالت صحيفة التايمز الأمريكية، إن إيران تستعد للسيطرة على الميناء السوري الرئيسي وذلك لتأمين موطئ قدم لها في مياه المتوسط، الخطوة الإيرانية تجاه السيطرة على مرفأ اللاذقية، هي خطوة في اتجاه رفع الاقتصاد ضد العقوبات الأمريكية المفروضة عليها التي ظهرت خلال انحسار المرتبات والإغراءات التي كانت تقدمها لميليشياتها الموجودة في سوريا، كما يمكنها أن تجد دعمًا ذاتيًا لميليشياتها الموجودة على الأرض.
لا تبدو فكرة الانسحاب الإيراني من سوريا، حلًا موضوعيًا طالما أنها تستمر سعيها نحو تحقيق أهداف أوسع عبر الهلال الشيعي المنتظر لديها
كما ستتمكن طهران من خلال ميناء اللاذقية تحقيق الهلال الشيعي الذي يمر بالعراق ثم سوريا من خلال معبر البوكمال، وصولًا إلى مياه المتوسط، وسبق أعلنت عن التجهيز لسكة حديدية تربط العراق بسوريا، برًا، تستطيع من خلالها تصدير بضائعها بطريقة غير شرعية من خلال الموانئ السورية.
ماذا حققت إيران إذا انسحبت من سوريا؟
لا تبدو فكرة الانسحاب الإيراني من سوريا، حلًا موضوعيًا طالما أنها تستمر في سعيها نحو تحقيق أهداف أوسع عبر الهلال الشيعي المنتظر لديها، ليكون كمرحلة للنهوض بعد انخفاض اقتصادها وتدهور عملتها مقابل الدولار الأمريكي، ولكن السؤال ماذا حققت إيران إذا انسحبت من سوريا؟ وماذا كسبت من المعركة؟
سعت إيران منذ تدخلها العسكري إلى الهيمنة على رموز الدولة في سوريا، من بينها رأس النظام السوري وضباط في جيشه وطبقة من المثقفين، والواجهات الدينية وغيرها ومن خلال ذلك أطبقت سيطرتها على عدد من المحافظات السورية والمراكز المهمة لتكون كجهة تنفذ ما تشاء كأنها السلطة العليا، وذلك من خلال التعاون مع العشائر القريبة من آل البيت كما في محافظة دير الزور، وبدءًا من نشر المذهب الشيعي ومعتقداته بين السوريين وصولًا إلى نشر الحسينيات والمراقد الشيعية إضافة إلى صرف ملايين الدولارات على الاحتفالات الدينية الشيعية التي تقام في دمشق وحلب ودير الزور كمناسبة عاشوراء.
وإلى جانب ذلك حافظت إيران على النظام السوري قبل انهياره، بشكل فعلي من خلال تدخلها ميدانيًا مما أحدث فرقًا كبيرًا في مدى السيطرة بعد دخولها إلى سوريا، وحافظت على الحليف الذي سيؤمن لها كل التسهيلات القادمة في الأراضي السورية.
نهاية في حال استمرت عقوبات واشنطن على طهران، ستحاول الأخيرة بتجهيز خطتها البديلة وهي الهلال الشيعي، إذا ما قوبلت برفض روسي وقصف إسرائيلي، ستفتح ممر لها نحو المتوسط لتحقيق مكاسب غير شرعية تمكنها من إعادة رفع اقتصادها، وتستطيع الميليشيات التي جندتها من حماية الطريق لها في سوريا والعراق إلى المتوسط، من خلال ذلك تفرض سياسة أمر الواقع أمام الدول الغربية، ولكنها محض افتراض طالما أن واشطن مستمرة في العقوبات والضغوطات على طهران للانسحاب من سوريا.