تعصف بالمؤسسات الإعلامية الفلسطينية بأنواعها وأشكالها المختلفة المقروءة والمسموعة والمرئية، أزمات مالية طاحنة هي الأكبر والأخطر في تاريخها، أجبرت العديد منها على إغلاق أبوابها بعد أن كانت لسنوات مشرعة في الدفاع عن القضية وتتصدر المشهد في فضح الاحتلال وممارساته.
الواقع الصعب الذي تعيشه معظم الوسائل الإعلامية وخاصة المملوكة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بات يتصاعد تدريجيًا، فخلال الشهور الثلاث الأخيرة شهدت طفرة غير مسبوقة وأغلقت العديد من المؤسسات، وسرحت أكثر من 250 موظفًا وتركتهم يقفون بطابور البطالة الطويل.
ومن أبرز تلك المؤسسات التي أغلقت أبوابها بسبب الأزمة المالية الطاحنة ونقص الممولين فضائية “القدس” وفضائية “معًا” وفضائية “الفلسطينية” وفضائية “هنا القدس” وفضائية “الكتاب”، فيما أصابت ترددات زلزال الأزمات صحيفة “الرسالة” التي أوقفت إصدار ورقتها بعد أكثر من 20 عامًا من العطاء واكتفت بموقعها الإلكتروني، إضافة للمركزي الفلسطيني للإعلام، وغيرها من المواقع المحلية.
بالنظر خلف التفاصيل الدقيقة والخفية التي دفعت تلك المنابر الإعلامية لإغلاق أبوابها، يتضح أن الأمر ليس ماليًا قط، بل هناك ضغوطات سياسية وابتزازات تمارس على ممولي تلك الوسائل
غياب هذه المؤسسات الإعلامية المنوعة عن الساحة الفلسطينية التي يتبع أغلبها حركة حماس، سيسهم وفق رؤية محللين سياسيين ومراقبين في إضعاف الإعلام الفلسطيني، في ظل تفاصيل حربه الشرسة التي يخوضها مع الاحتلال الإسرائيلي طوال الـ71 عامًا الماضية.
تفاصيل الحرب الخفية
بالنظر خلف التفاصيل الدقيقة والخفية التي دفعت تلك المنابر الإعلامية لإغلاق أبوابها، يتضح أن الأمر ليس ماليًا قط، بل هناك ضغوطات سياسية وابتزازات تمارس على ممولي تلك الوسائل من أجل تغيير جلدها وتوجهاتها المقاومة، وذلك كما يقول عماد الإفرنجي مدير قناة “القدس” الفضائية التي أنهت عملها ونزلت تردداتها عن الهواء بداية شهر مارس الماضي.
وقال: “إغلاق قناة القدس يعود لأسباب سياسية أدت إلى تقليص الموازنات المالية بشكل كبير، حيث إن الإعلام الذي يدعم الحقوق والثوابت الوطنية ويدعم الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، هو إعلام يتم محاربته من الاحتلال الإسرائيلي والإدارة الأمريكية“.
وأضاف الإفرنجي “المحاصرون للشعب الفلسطيني لا يريدون إعلامًا يذكر الفلسطيني بحقوقه ووطنه وقضيته، مشيرًا “الإعلام الفلسطيني إعلام فقير يحتاج إلى من يدعمه ويقف إلى جانبه، وخاصة الإعلام الذي يؤكد ضرورة الحفاظ على الثوابت ضد التطبيع، لكن نحن نحارب من كل جهة”.
مبنى فضائية الأقصى بعد قصفه من طائرات الاحتلال
“الأزمة المالية في المؤسسات الإعلامية تعود إلى اتجاهين: أولًا اتجاه المؤسسات نفسها والموازنات والقدرة على استمرار التمويل، خصوصًا كما يعلم الجميع أن الإعلام يحتاج دائمًا إلى دعم وإسناد وموازنات عالية، بالإضافة إلى ارتباط الوضع الاقتصادي العام في الحالة الفلسطينية وقطاع غزة على وجه التحديد، وفي المنطقة هناك معاناة لكثير من وسائل الإعلام فهناك بعضها يتحول وأخرى تندمج أو تغلق”، الحديث هنا لرئيس تحرير صحيفة “الرسالة” سابقًا وسام عفيفة.
ويشير إلى أن هناك وسائل إعلام تبدأ بموازنات سنة وسنتين أو ثلاثة، لكن بعد فترة لا تستطيع أن تستمر سواء مؤسسات حزبية أم حصلت على موازنة لمرة واحدة أو لعدة سنوات، لاحقًا يصبح التحدي هل تستمر؟ هل يتواصل الدعم؟ هل تجد سبل تمويل ذاتي؟ في المحصلة النهائية سبب الإغلاق المباشر هو اقتصادي، والوضع العام يتأثر، فلا تستطيع أن تحصل على إعلانات ونقص السيولة ينعكس على كل القطاعات بما فيها قطاع الإعلام.
مواطن يتصفح آخر عدد ورقي صدر عن صحيفة الرسالة
ويضيف عفيفة “لا شك أن القائمين على الإعلام مطالبين بالبحث عن حلول في ظل الأزمات التي يتعرض لها الإعلام بشكل عام، والآن جزء من ضريبة الإعلام وتحديدًا الإعلام الحزبي أنه صعب أن يجد تمويل، فمثلًا يعتمد في تمويله على الإعلانات التجارية أو رجال الأعمال، حيث إن سوق الإعلانات ضعيف ومتواضع ولا يشكل فرقًا كبيرًا، بالإضافة إلى أن الإعلام الرقمي ونظام السوشيال ميديا غير المكلف وانتشار صحافة المواطن وانتشار مبادرات شبابية، كلها فتحت آفاق واسعة في مجال الإعلام وجعلنا في مرحلة انتقالية”.
أزمات مالية طاحنة
ويؤكد أن جزءًا من أضرار هذه المرحلة على بعض وسائل الإعلام أنها تأثرت بشكل سلبي ولم تستطع أن تشكل كما كانت سابقًا، فالإعلام التقليدي كالفضائيات والراديو والصحف، أصبح يواجه تحديات من الإعلام الرقمي، وهذا انعكس عليه وأصبح من الصعب أن يبحث عن مصادر تمويل ذاتي، وهذا له علاقة بأفضليات المعلنين في سوق الإعلانات، فبدلًا من دفع 10 آلاف دولار في الإعلان، من الممكن بألف دولار التمويل في مجال السوشيال ميديا كمعلن وأصل لعدد هائل من الجمهور.
وكانت محطة “الأقصى” الفلسطينية التابعة لحركة حماس التي تبث من قطاع غزة، وتعرضت للقصف الإسرائيلي أكثر من مرة قد أوقفت بثها أيضًا قبل عدة أسابيع بسبب الحصار المفروض على القطاع.
المدير العام السابق لصحيفة “فلسطين” التابعة لحركة حماس والمحلل السياسي إياد القرا أكد أن الأزمة المالية التي تمر بها حماس لم تعد سرًا، نتيجة وقف الدعم العربي والإسلامي للحركة
وفي ذات السياق، أعربت هيئة منتدى الإعلاميين الفلسطينيين عن قلقها إزاء ما وصفته باستمرار النزيف الحاد في المشهد الإعلامي الفلسطيني، وبيّنت أن ذلك يعكس حجم الخسارة الفادحة التي يتكبدها الإعلام الفلسطيني جراء تهاوي المؤسسات الإعلامية.
المدير العام السابق لصحيفة “فلسطين” التابعة لحركة حماس والمحلل السياسي إياد القرا أكد أن الأزمة المالية التي تمر بها حماس لم تعد سرًا، نتيجة وقف الدعم العربي والإسلامي للحركة.
ويقول القرا: “التضييق المالي الكبير الذي تمر به حركة حماس وعدد من الفصائل الفلسطينية، سببه الإجراءات التي فرضتها الولايات المتحدة وبتحريض من “إسرائيل”، لتجفيف المنابع المالية لهذه الفصائل وملاحقتها”، موضحًا أن الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها حماس، وهي ليست بالبسيطة، تسببت بإغلاق مؤسسات إعلامية مدعومة منها.
ويتوقع أن تتسبب الأزمة المالية بإغلاق مؤسسات أخرى تابعة لحماس غير الإعلامية منها، في ظل خطواتها لمواجهة ما تمر به، لافتًا أن الحركة ستتخذ مزيدًا من الخطوات التقشفية لمواجهة ما تمر به من أزمة مالية، كدمج مؤسسات بأخرى بهدف تقليل التكلفة التشغيلية لتلك المؤسسات.
وفي الختام، فإن الإعلام الفلسطيني يُحارب من كل جانب لدفاعه المستميت عن الأرض والهوية والإنسان، وترسيخه مبدأ التمسك بالحقوق والمحافظة على الثوابت الفلسطينية، ولكن يبقى السؤال المطروح على الساحة الآن: هل سيستمر في نضاله وكفاحه أم ستنجح “إسرائيل” في دفنه؟