“إسطنبول هي ملخص 80 ولاية تركية يجمعها اتصال إنساني ومادي، ففهم إسطنبول هو فهم لتركيا” الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
خمس سنوات قضاها المصور التركي الشهير أتيلا دوراق متجولًا بين مدن وقرى الأناضول محاولًا التقاط وتصوير عوالمه المتنوعة، منتجًا 173 لوحة بورتريه حملت اسم “إيبرو” تيمًا بفن الرسم على الماء “إيبرو” القائم على تداخل مجموعة من الألوان بين بعضها البعض دون أن تنصهر أو تمتزج فيما بينها بحيث يحافظ كل لون على شكله ومظهره دون أن يتحول إلى لون آخر.
واجهة كتاب “إيبرو” الذي ضم 173 لوحة بورتريه للفنان التركي أتيلا دوراق
فجاء اسم “إيبرو” ليعكس طبيعة التركيبة الإثنية والثقافية لأهل الأناضول المشابه في تنوعها تنوع الألوان في لوحة الإيبرو، كما أن تداخل ألوان لوحة الإيبرو دون تمازجها وانصهارها مشابه لحال الأناضول التي تحافظ مركباتها الإثنية والثقافية على خصوصيتها دون أن تنصهر مع بعضها البعض.
لوحة إيبرو هي أفضل ما يمكن أن يطلق على مدينة الـ20 مليون إنسان التي تتكثف فيها مجموعة كبيرة من الألوان والأشكال والرموز لتفضي إلى لوحة فنية يأخذ التناقض فيها الدور الأساس في رسم الجمال الإسطنبولي، تناقض يلمسه زائر المدينة في كل تفصيلة من تفاصيلها، في توزيع أحيائها، في مناخها وتضاريسها وسكانها وأنماط معيشتها.
أسكودار وكاديكوي.. ساحل الأناضول المنقسم على ذاته
ما إن تحط قدميك ساحل أسكودار هابطًا من إحدى عبارات النقل الماخرة بين ضفتي المضيق أو خارجًا من محطة مترو أسكودار حتى يكون في استقبالك مسجد مهرماه سلطان، أحد آثار كبير معماري الدولة العثمانية سنان باشا، ليقابله مسجد يني والدة المبني على النمط السناني ويجاوره مقهى “مهرماه” بموسيقاه العثمانية وأغاني العشق الإلهي الذي يرتاده في العادة فئة من الشباب المحافظ المنفتح.
وقبالة ساحل أسكودار يقف برج الفتاة “كيز كولسي” صاحب حكاية ابنة السلطان المشهورة التي أراد والدها حمايتها وحفظها من الأذى، فعزلها في هذا البرج، كأن معلم أسكودار الأشهر يرمز للعزلة وحماية النفس والمحافظة عليها في إشارة لحال أسكودار المتمردة على جموح الساحل.
برج الفتاة قبالة ساحل أسكودار
وفي جنوب أسكودار يقع حي كاديكوي الذي تأخذ الحياة فيه طابعًا معاكسًا تمامًا، فما إن تحط قديمك محطة كاديكوي هابطًا من إحدى عبارات النقل حتى يقابلك تمثالًا لمصطفى كمال أتاتورك بجواره معهد لتعليم الموسيقى يتبع لجامعة إسطنبول، وفي عرض البحر تبرز محطة “حيدر باشا” للقطارات كشاهد على ما تبقى من عاصمة حكمت المشرق لسنوات طويلة، فإذا كان برج الفتاة يحمل معنى الحماية والمحافظة والرغبة في البُعد عن الخطر، تحمل محطة حيدر باشا رمزية الرغبة في الانعتاق والانفتاح، فإذا كان ساحل لأسكودار عصي على جموح الساحل، فإن ساحل كاديكوي قد سلم نفسه لعنفوان وجموح الساحل.
محطة حيدر باشا كما تبدو من محط السفن في كاديكوي، دخلت المحطة الخدمة عام 1908 كمحطة أساسية في خطوط السكك المنطلقة من إسطنبول
صعودًا لأعلى إلى شوارع الحي التي تعج حاناتها بروادها الذين تغلب عليهم فئة الشباب، من الطبيعي أن تصادف في تجوالك في الحي وقفة احتجاجية هنا أو هناك، كما من المألوف مشاهدة رايات حزب الشعب الجمهوري بأسهمها الست معلقة في شوارع الحي الممتلئة برسومات الغرافيتي المحملة بالشعارات اليسارية تارة والليبرالية تارة أخرى، حيث تشرف البلدية على تنظيم مهرجان سنوي لرسم الغرافيتي.
صورة لشارع من شوارع كاديكوي
“في أسكودار جماعات، وفي كاديكوي جمعيات” من الممكن أن تلخص المقولة التركية السابقة الواقع السياسي لحيي أسكودار وكاديكوي، فالجماعات الشكل الأكثر رواجًا للتجمع في أسكودار، فمن المألوف أن تشاهد عددًا من الفتيات المحجبات أو الشباب المرتدين للأطقم الرسمية يسيرون معًا خارجين أو متجهين لحلقة أو مسجد ما.
على النقيض من ذلك تنتشر الجمعيات الليبرالية واليسارية في حي كاديكوي التي تزين المنشورات السياسية أزقتها، وبينما يسيطر حزب الشعب الجمهوري على بلدية كاديكوي، حيث حصل مرشحه في الانتخابات البلدية الأخيرة على 65% من الأصوات فيما حصلت مرشحة حزب العدالة والتنمية على 19% من الأصوات، يسيطر حزب العدالة والتنمية على بلدية أسكودار حيث حصل في الانتخابات الأخيرة على 48% من الأصوات فيما حصل حزب الشعب الجمهوري على 45% من الأصوات.
مترو إسطنبول كخط فرز اجتماعي
تمتلك مدينة إسطنبول شبكة ضخمة من المواصلات العامة مكونة من 8 خطوط مترو تعمل على ربط أطراف المدينة المترامية، إلى جوارها تعمل 4 خطوط ترام واي إلى جانب خط نقل يعرف بالمتروبس يقوم بربط طرفي المدينة ببعضها البعض ويعمل على مدار الساعة، وبموازاة شبكة المترو والترامواي والتلفريك يعمل أسطول ضخم من الحافلات مكون من 2756 حافلة نقل تقف على 11.795 موقف عام.
خريطة لشبكة المواصلات الخاصة بمدينة إسطنبول
تشكل محطة يني كابي “yeni kapı ” محورًا مركزيًا في شبكة مترو إسطنبول، فمن خلالها تنطلق وتمر عدد من الخطوط (مترو تقسيم والمطار ومرمراي وكيرازلي)، فهي أشبه بوعاء صهر لركاب خط المترو، لكن تمايز الركاب يبدأ مع ركوبهم لخطوط المترو، فخط مترو حجي عثمان m2 (تقسيم) يمر بعدد من الأحياء والمناطق الغنية المسكونة من الطبقة الوسطى العليا والغنية من المجتمع التركي كليفنت وشيشهانه ومجدية كوي وعثمان بيه وغيرها، فيلاحظ الراكب نوعية ركابه ذوي التوجه الغربي.
وعلى الطرف الآخر من محطة يني كابي ينطلق خط m1 بفرعيه (المطار، كيرازلي) ليمر بعدد من الأحياء أهمها الفاتح وباغجلار وإيسنلار ويني بوسنة وشيرين إيفلار وغيرها التي يغلب على سكانها انتماءهم للشق الأدنى من الطبقة الوسطى، حيث يلاحظ الراكب ازدحام هذا الخط والوجود القوي للعمالة التركية والأجنبية ونوعية ركابه المحافظة.
مدينة إسطنبول كغيرها من المدن الكبرى في العالم مفعمة بالتناقضات والفروقات بين أحيائها وسكانها، لكنها تأخذ أشكالًا أكثر تنوعًا وعمقًا
وعلى الجانب الآسيوي نجد ذات الفروق بين خطوط المترو الموجودة، لكنها تأخذ صيغ وأشكال أخرى، حيث ينطلق من الشق الآسيوي خطا مترو: الأول خط m5 وينطلق من ساحل أسكودار ليصل إلى تشكميكوي، والآخر خط m4 وينطلق من كاديكوي ليصل إلى تفشانتبه، حيث من الممكن سحب فروقات كاديكوي وأسكودار على خطي المترو، حيث يقطع خط كاديكوي الساحل الآسيوي في حين يوغل أسكودار في عمق الشق الآسيوي مبتعدًا عن الساحل.
ختامًا، مدينة إسطنبول كغيرها من المدن الكبرى في العالم مفعمة بالتناقضات والفروقات بين أحيائها وسكانها، لكنها في إسطنبول تأخذ أشكالًا أكثر تنوعًا وعمقًا، فعاصمة الإمبراطورية العثمانية ظلت لسنوات طويلة مغلقة أمام القادمين من الأناضول، لكن قيام الجمهورية والبدء في سياسات التصنيع خلق موجات من الهجرة تجاه المدينة التي أخذ عدد سكانها في التضاعف وحجمها بالاتساع والنمو، حيث انعكست فسيفساء الأناضول على المدينة التي بدأت بالعودة إلى الحياة مرة أخرى، فظهرت تجماعات الأكراد وأهل البحر الأسود والقادمين من مدن الأناضول الداخلية، بالإضافة إلى البشناق والأرناؤوط وغيرهم الذين استقروا في المدينة المتضخمة، فظهرت حالات من التناقض بين أحياء المدينة اعتمدت على مزيج من الاعتبارات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
فالطبقة الوسطى المتدينة تسكن في أحياء مثل باشاك شهير واسكودار وغيرها، فيما تسكن الطبقة الوسطى الكمالية في أحياء مثل أتاشهير وأتاكينت وغيرها، فالتصنيف في إسطنبول لا يقبل أن يأخذ خانة واحد، كما ساهمت طرق المواصلات في ترسيخ هذا التصنيف، فخط m3الممتد من كيرازلي إلى باشاك كينت يختلف في ركابه عن الخط mالممتد من يني كابي إلى حجي عثمان.