لطالما كانت الطريقة التي نتعرّف بها على وجوه من حولنا أحجيةً أو لغزًا شغل علماء الدماغ والأعصاب لسنين طويلة. فعلى الرغم من تعرّضنا لعشراتٍ من الوجوه يوميًّا، إلا أنّنا نستطيع في غضون أجزاء من الثانية فقط التعرّف على بعضها. بكلماتٍ أخرى، نحتاج بالكاد إلى نظرة واحدة حتى نتعرّف على وجهٍ ما، حتى لو نسينا تفاصيل أساسية أخرى عن ذلك الشخص، مثل اسمه أو وظيفته أو متى رأيناه آخر مرة أو من أين نعرفه، وغيرها.
ولربّما مع حضور مواقع التواصل الاجتماعي في حياتنا اليومية، أصبح اللغز أكثر إلحاحًا. ففي كلّ مرة تتصفّح فيها حسابك في موقع فيسبوك أو إنستغرام فإنّك تتعرّض لعشرات من الصور والوجوه، بعضها مألوفٌ لك وفي أحيان أخرى كثيرة لا تكون مألوفةً أبدًا. لكنّ عقلك يعمل ضمن آليةٍ ما على تحديد ميّزات تلك الوجوه وخصائصها حتى قبل أنْ يكون لديك الوقت لقراءة الاسم المشار إليها أو أيّ معلومات أخرى.
كما ليس من المستبعد بتاتًا أنْ تصبح مدركًا لشخصٍ ما من صورة وجهه على تلك المواقع والمنصّات، سواء كنت التقيتَ به أو لا، سواء كان شخصًا بعيدًا عن الأضواء أو من المشاهير. تُشير الأبحاث الحديثة إلى أنّ متوسّط عدد الوجوه التي يستطيع الشخص تذكّرها في سني حياته جميعها قد يصل إلى ما يقرب 5000 وجهٍ بالمجمل، سواء من اللقاءات الشخصية أو من وسائل التواصل الاجتماعيّ.
كيف تقرأ أدمغتنا الوجوه؟
عرف العلماء منذ فترة طويلة أن الدماغ يحتوي على شبكة من المناطق التي تستجيب بشكلٍ انتقائيٍ للوجوه مقابل الأنواع الأخرى من الأشياء من حولنا، الجمادات والحيوانات وغيرها. كما عرفوا أيضًا أنّ البشر يعالجون الوجوه المألوفة والوجوه غير المألوفة بشكلين مختلفين تمامًا. وقد استمرّت الأبحاث والتجارب الساعية وراء فكّ لغز الوجوه على مدى سنين طويلة للغاية.
يصل عدد الوجوه التي يستطيع الشخص تذكّرها وتمييزها في سني حياته إلى ما يقرب 5000 وجهٍ بالمجمل
في ستينات القرن الماضي، اقترح عالم الأعصاب الأمريكي جيري ليتفين أنّ هناك خلايا عصبية محدّدة للغاية تستجيب لأجسام أو وجوه محدّدة. وهي الخلايا التي أصبحت معروفة افتراضيًا باسم خلايا الجدّة “Grandmother cell“، وتستند على فكرة أنّ لكلّ شخص خلية عصبية معيّنة تمكّنه من التعرّف على وجه جدّته ورؤيته. ووجه الجدّة هنا مجاز لأيّ وجهٍ آخر قد يراه الشخص.
لكن لاحقًا، أثبتت الأبحاث أنّ العملية لا ترتكز على خلية واحدة وحسب، بل هناك مجموعة من الخلايا العصبية التي تستجيب بشكلٍ شبه حصريّ للوجوه، تُعرف اصطلاحًا باسم “خلايا الوجه”، وتعمل على إرسال إشارات كهربائية عندما يُعرض وجهٌ ما أمام شبكية العين. وبشرحٍ أكثر وضوحًا، يعتمد الدماغ على خوارزمية معيّنة للمهمّة تشبه إلى حدٍ بعيد الخوارزمية التي تتبعها أدمغة القرود التي يمكن دراستها بسهولة.
تحدث آلية التعرّف على الوجوه في الدماغ من خلال التفاعل بين إدراك الوجه والذاكرة والمعرفة الاجتماعية المخزّنة فيه.
إذ توصّل واحد منها إلى وجود منطقتين مجهولتين سابقًا في الدماغ يتمّ تنشيطهما أثناء التعرّف على الوجوه، وهي المناطق القادرة على دمج الإدراك البصري مع أنواع مختلفة من الذاكرة. واحدة من المنطقتين تقع في منطقة الدماغ المرتبطة بما يسمّى الذاكرة التوضيحية، وهي التذكّر الواعي للأحداث والحقائق والخبرات والمفاهيم السابقة. أمّا المنطقة الأخرى فهي جزء لا يتجزّأ من منطقة الدماغ المسؤولة عن المعرفة الاجتماعية مثل المعلومات المرتبطة بالأفراد ومواقعهم داخل التسلسلات الهرمية الاجتماعية وغيرها من معلومات شبيهة.
بكلماتٍ أخرى، تحدث آلية التعرّف على الوجوه في الدماغ من خلال التفاعل بين إدراك الوجه والذاكرة والمعرفة الاجتماعية المخزّنة فيه. وهي الخاصّية التي على ما يبدو قد امتلكها البشر وبعض الحيوانات الأخرى مثل القرود خلال سنين من التطور بهدف التعرّف على أفراد المجموعة وغيرهم بسرعة وسهولة للمساعدة في البقاء والاستمرار.
نظم التعرّف على الوجوه الاصطناعية: هل ستتفوق على البشر؟
تحاكي نُظم التعرّف على الوجوه الاصطناعية عمل الدماغ تقريبًا. فهي تعمل على مقارنة ملامح الوجه المختارة في صورة معينة مع الوجوه المخزنة داخل قاعدة بيانات ضخمة وواسعة تشمل على العديد من الوجوه المغايرة والمختلفة. فعلى سبيل المثال، قد تعمل على تحليل شكل العينين والأنف أو عظام الخد والفك أو أبعاد الوجه، ثمّ تقوم بمقارنتها بما يتواجد عندها في ذاكرتها.
هناك نظم ذكاء اصطناعي تحاكي سلوك االدماغ البشري والخلايا العصبية من خلال شبكات واسعة النطاق من البيانات الضخمة والمحوسبة، بحيث يمكنها التعرّف على الوجوه بدقّة 99.15 بالمئة
أيْ أنّ تلك النظم تعمل بالنهاية كعمل الدماغ، إذ تبدأ العملية بإدراك الوجه وأبعاده وخصائصه وميّزاته، ثم تنتقل المهمّة إلى الذاكرة المسجّلة وما فيها من صور وبيانات للبحث عن صاحب الوجه في الصورة. وقد بدأت هذه الآليات بالتطوّر أكثر فأكثر مع الوقت. فبعد أنْ سجّل موقع فيسبوك دقّةً في التعرّف تصل إلى أكثر من نسبة 97%، عمل فريقٌ بحثيّ من الجامعة الصينية في هونغ كونغ على تطوير خوارزمية تحاكي سلوك االدماغ البشري والخلايا العصبية من خلال شبكات واسعة النطاق من البيانات الضخمة والمحوسبة، بحيث يمكنها التعرّف على الوجوه بدقّة 99.15 بالمئة، بغض النظر عن الإضاءة أو الزاوية أو الماكياج أو غيرها.
وبهذا، يفتح هذا الإنجاز باب التساؤلات حول ما إذا كان بإمكان الذكاء الاصطناعي الوصول إلى مستوى الذكاء البشري أو حتى تجاوزه والتفوّق عليه، تمامًا كما يفتح الباب أمام العديد من التطبيقات المهمّة وفتح آفاق جديدة في الرؤية الصناعية سواء على المستوى الواقعي أو مستوى مواقع التواصل الاجتماعي.