كيف أثرت مدارس الأئمة والخطباء في بنية تركيا السياسية والاجتماعية؟

تبنَّت ثانويات الأئمة والخطباء التي تعود جذورها للعهد العثماني منذ ما يقارب القرن نظامًا تعليميًا لا يمكن الاستغناء عنه لتتلون ما بعد 29 أكتوبر/تشرين الأول عام 1923؛ أي بعد إعلان الجمهورية التركية، بألوان الأطياف السياسية المختلفة في البلاد وبحسب حاجة الشعب إلى الأئمة والخطباء.
كانت مدارس الأئمة والخطباء الدينية في تركيا من أبرز ضحايا الحكم العلماني والانقلابات العسكرية، وظلت تحت رحمة مد وجذر سياسات وأيدولوجيات الحكومات المتعاقبة، ولا تزال الأكثر جدلاً بالمجتمع التركي منذ النصف الثاني من القرن العشرين، ويمتد هذا الجدل حتى هذه اللحظة.
البدايات المتعثرة
تعرضت ثانويات الأئمة والخطباء التي تعتبرها شرائح واسعة من أبناء المجتمع الأمل في المستقبل لأبنائها خلال مراحل تاريخية لمحاولات عدة هدفت لعرقلتها وثنيها عن دورها التربوي والتعليمي، الأمر الذي أكسب الثانويات تعاطفًا من قِبل المؤمنين بدورها، وأسهم في تقوية شوكتها والنهوض عقب كل موجة عاتية.
كانت البداية مع انتهاء عهد الدولة العثمانية وإقامة الجمهورية التركية الحديثة، التي سارت خلال سنواتها الأولى بمفهوم جديد للحضارة، يعتمد على إبعاد الخدمات الإسلامية خارج نطاق الحياة، لهذا السبب بعد فترة من الزمن بدأ الإحساس بوجود نقص في الخدمات الإسلامية، وبدأ المجتمع يطلب هذه الخدمات.
بدأ هذا الجدل في البرلمان التركي بعد أيام قليلة من قيام الجمهورية التركية، حتى قام مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك خلال كلمته الافتتاحية بالبرلمان في الأول من مارس/آذار 1924 بإصدار قانون جديد باسم “توحيد الدراسة أو التعليم”، حيث أمر بنقل صلاحية إدارة جميع المؤسسات التعليمية في البلاد – بما في ذلك مدارس الأئمة والخطباء – إلى وزارة التربية الوطنية، فأصبحت جميعها بيد الدولة.
وعلى الرغم من إتمام من أنهوا الخدمة العسكرية الدراسة في مدارس الأئمة والخطباء إلا أن وكيل المعرفة – وزير التربية الوطنية آنذاك – واصف شينار اتخذ قراره المفاجئ بإغلاق كل المدارس التابعة للأوقاف الإسلامية وأوقاف الأقليات الدينية بحجة أنها ملاذ للهروب من الخدمة العسكرية، وذلك بموجب قانون توحيد الدراسة، الذي بررته الدولة بأنه لفائدة التعليم وليس لمواجهة الدين.
في هذا السياق، يسلط وثائقي من إنتاج قناة “الجزيرة” الأَضواء على مراحل تاريخية وهامّة في تركيا، فبعد إعلان الجمهورية فُتحت مدارس الأئمة والخطباء التي لم تعمِّر طويلاً، وتم إغلاقها – إلى جانب كلية الشريعة الإسلامية – عام 1930 بحجة عدم عدم الإقبال عليها، كما تم إغلاق مراكز تعليم وتحفيظ القرآن وسُمح فقط لعدد قليل من الأئمة، لكن دورات تعليم القرآن كانت مستمرة خفية بدون إذن.
سعيًا ﻹلغاء الهوية والفكر الإسلامي، قام سياسيو العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين بتغيير الحروف العربية وإنشاء لغة تركية جديدة
كذلك تم إلغاء الدروس الدينية في برامج تأهيل المعلمين للمرحلة الثانوية عام 1924 وللمرحلة الإعدادية عام 1927 وللمرحلة الإبتدائية عام 1929. آنذاك، أرجع معارضو تلك الحجة إلى أن السبب الحقيقي للإغلاق هو عدم دعم الدولة لهذه المدارس ماديًا، وعدم فتح مجال العمل لخريجيها.
وسعيًا ﻹلغاء الهوية والفكر الإسلامي، قام سياسيو العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين بتغيير الحروف العربية وإنشاء لغة تركية جديدة، وفي عام 1932 تغير الآذان وإقامة الصلاة والتسبيحات والتكبيرات إلى اللغة التركية، واستمر الأذان باللغة التركية 18 عامًا.
في الأربعينات كان ممنوعًا نشر أو طباعة أو بيع أي منشور أو كتاب ديني بما في ذلك القرآن الكريم، ولم يكن هناك دروس دينية في المدارس، وبذلك تم فصل الدين عن الدولة تمامًا في الأربعينات، ومُنع الذهاب إلى الحج وبدأ بعدها السماح لعدد محدود بأداء فريضة الحج.
تركيا الكمالية.. جدل الدين والدولة
أورث غياب التعليم الديني المجتمع التركي فترة جهل ديني قاتمة، وساد فيه نمط الحياة الغربية، ورغم تحكم الدولة في خطاب خريجي مدارس الخطباء في ذلك الحين، فإن المواطنين كانوا يتوقون إلى من ينتشلهم من حالة الفقر الديني التي يعيشونها، لدرجة أن البحث عمن يصلي أو حتى من يقرأ الفاتحة على روح الموتى أضحى كالبحث عن إبرة وسط جبال من القش.
وزير التربية الوطنية توفيق إيلاري: “نحن لم نؤمن للقرويين الماء والطعام والقمح فقط، بل قمنا بتأمين الغذاء المعنوي الضروري لبقاء الأمة وعدم زوالها، نحن فتحنا مدارس الأئمة والخطباء”.
في عام 1949، ولسدة الحاجة إلى رجال الدين، قام حزب الشعب الجمهوري الذي أغلق ثانويات الأئمة والخطباء بعقد دورات تأهيل الأئمة والخطباء، ولكنها لم تلقَ إقبالاً، وفشلت لاشتراطها على من يريد التسجيل أن يكون مُنهيًا خدمته العسكرية ومتخرجًا في المدرسة الإعدادية على اﻷقل التي كان عددها قليلاً جدًا، ومن أنهى خدمته العسكرية غالبًا ما يكون متزوجًا وعنده أطفال، ولا توجد معاشات للأئمة والخطباء والمؤذنين في المساجد.
بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح من الضروري تعدد اﻷحزاب السياسية في البلاد، فتم تأسيس حزب الديمقراطية في تركيا كمنافس لحزب الشعب الجمهوري، وعقب فوز الحزب الجديد بانتخابات عام 1950 دار جدل في البلاد حول ضرورة إعادة فتح مدارس الأئمة والخطباء، وكانت نتيجة هذا الجدل أن عادت هذه المدارس إلى الساحة التعليمية.
في 16 حزيران/يونيو 1950؛ أي بعد شهر واحد من الانتخابات، كان أول إجراء ديني لحكومة عدنان مندريس – رئيس وزراء الجمهورية التركية حتى عام 1960 – بعودة الآذان وإقامة الصلاة والتسبيحات والتكبيرات إلى اللغة العربية، وكان القرار الثاني هو فتح مدارس الأئمة والخطباء في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1951، بعدما طلب الشيخ جلال الدين أوكتان من مندريس تفعيل الخدمات الدينية مرة أخرى، وكان لديه مشروع لفتح مدارس الأئمة والخطباء، بدأ في إعداده منذ عام 1947 بعد تقاعده من العمل.
ثانوية الأئمة والخطباء تفتح في تركيا
صادق على القرار وزير التربية الوطنية آنذاك توفيق إيلاري في 17 أكتوبر/تشرين الأول، وقال في خطاب شهير: “أصدقائي الأعزاء، نحن لم نقم ببناء سدود وموانئ فقط في هذه البلاد، نحن لم نقم بإنشاء طرق وجسور ومصانع فقط في هذه البلاد، نحن لم نؤمن للقرويين الماء والطعام والقمح فقط، بل قمنا بتأمين الغذاء المعنوي الضروري لبقاء الأمة وعدم زوالها، نحن فتحنا مدارس الأئمة والخطباء”.
كان القرار ينص على فتح مدارس الأئمة والخطباء في 7 أقاليم تركية هي إسطنبول وأنقرة وأضنة وقيصري وإسبارطة وقونية ومرعش، وكانت ثانوية اﻷئمة والخطباء في إسطنبول، أول ثانوية تفتح في تركيا، وبذل أول مدير للمدرسة آنذاك جلال الدين أوكتان مجهودًا كبيرًا لفتح المدرسة وإعداد المناهج الدراسية ووضع الأنظمة الخاصة بها.
لكن البيروقراطية واصلت كفاحها ضد مدارس الأئمة والخطباء، وكانت النتيجة أن وافق البيروقراطيون على فتح مدارس الأئمة والخطباء بشرط أن تُدرِّس المواد الدينية والقرآن الكريم بالأحرف اللاتينية، ولكن الشيخ جلال الدين يعرف أن تعلم القرآن الكريم وأحكام التجويد ومخارج الحروف لا يمكن أن يكون بغير اللغة العربية، وصدر قرار تعلم القرآن باللغة العربية بدعم كبير من توفيق إيلاري.
السقوط في شِباك الحظر
استمرت المحاولات الرامية لوضع حد للحياة التعليمية لطلبة مدارس الأئمة والخطباء في وقت كانت فيها المدارس في أوج عطائها التعليمي، خاصة بعد تخريجها للعديد من الأئمة والخطباء ذوي الكفاءة العالية، الأمر الذي دفع القائمن عليها إلى المطالبة بعقد لقاء مع رئيس الوزراء عدنان مندريس، أملاً في تغيير هذا الوضع، وخلال اللقاء تعهد مندريس بفتح مراحل تعليمية عليا في مدارس الأئمة والخطباء “حتى لو كلفه ذلك حياته”.
مثَّل انقلاب عام 1960 هجمة مضادة للتحكم في الشؤون الدينية التي حصلت على حريتها على مدى 10 سنوات
لكن وقع أول انقلاب عسكري في تاريخ الجمهورية التركية في 27 ونُفَّذ الحكم مايو/أيار عام 1960، واُعتقل رئيس الوزراء عدنان مندريس والعديد من منتسبي الحزب الديمقرطي، وقام الانقلابيون بتهديد وتخويف الناس وإشاعة الفوضى في البلاد، وحُكم على مندريس باﻹعدام، في صباح 17 سبتمبر/أيلول 1960.
مثَّل انقلاب عام 1960 هجمة مضادة للتحكم في الشؤون الدينية التي حصلت على حريتها على مدى 10 سنوات، لكن الحملة لم تستمر طويلاً، إذ بدأت النقاشات مرة أخرى حول البرامج الإصلاحية والعلمانية كما كانت في الأيام الأولى لانطلاق الجمهورية التركية، حيث وُصف الدين بالرجعية، وقيل إن المتدينين مسؤولون عن تخلف البلاد ﻷنهم يؤمنون بالخرافات ويرفضون العلم والتقنية والفنون ويعارضون الحضارة الغربية.
في هذه الفترة، لم يكن التخرج من مدارس الأئمة والخطباء كافيًا للالتحاق بالجامعات، بل كان عليهم أن أن يحصلوا على شهادة الثانوية العامة أيضًا، لذلك قام الطلاب عام 1976 بتنظيم مظاهرات واحتجاجات، كانت أكبرها تلك التي نظمتها مدرسة إسطنبول للأئمة والخطباء، وكان لهذه الاحتجاجات أثر كبير، فقد حصلت مدارس الأئمة والخطباء في العام التالي على حق الدخول إلى الجامعة مباشرة.
تمثال أتاتورك في باحة إحدى مدارس الأئمة والخطباء
قام الجيش في 12 سبتمبر/أيلول عام 1980 بعملية انقلاب أخرى، ولم تُغلق مدارس الأئمة والخطباء، لكنهم لم يُسمح بفتح أي مدرسة جديدة، وفي الفترة من 1973 إلى 1982، وهي فترة الحكومة الائتلافية، تم فتح 302 مدرسة ووصل بذلك عدد هذه المدارس إلى 374 مدرسة، وقام المسؤولون عنها بفتح فروع لها في مدن مختلفة لزيادة الطلب عليها واستيعاب الكم الكبير من الطلاب، لكن دون إنشاء مدارس جديدة.
وفي موقف متناقض، افتتح الجنرالات الذين يعرِّفون أنفسهم بأنهم أصحاب فكر أتاتورك عددًا كبيرًا من مدارس الأئمة والخطباء في تاريخ الجمهورية التركية، وذلك حتى ينالوا رضى الشعب، ففي عهد حكومة تورغوت أوزال، الذي وجد فيه قادة انقلاب عام 1980 الشخصية الأفضل لتولي الحكم، قامت الحكومة بفتح مدارس الأناضول للأئمة والخطباء، وذلك لتأهيل وإعداد أبناء العمال الأتراك الذين يعملون في ألمانيا، وتعليمهم اللغة الألمانية، ثم إعادة إرسالهم كموظفيين دينيين إلى هناك، وعبر مر السنيين ازداد عدد مدارس الأناضول للائمة والخطباء بفتحها فروعًا في أقاليم متعددة، وعندما بدأت هذه المدارس بتخريج الطلاب، وتميز العديد منهم، بدأت تحظي باهتمام واسع.
انقلاب ما بعد الحداثة
تشكلت ثانويات الأئمة والخطباء بأشكال وسياسات اختلفت باختلاف الحكومات التي حكمت البلاد في الفترة ما بين عشرينات وسبعينات القرن العشرين، فتارة قويت وفتحت فروعًا أكثر وزاد عدد طلابها، وتارة أخرى مرت بمراحل توقفت أو تم إغلاقها بسبب انخفاض عدد الطلاب.
بعد تشكيل المهندس والسياسي التركي نجم الدين أربكان للحكومة الـ54 لتركيا في 25 يونيو/حزيران عام 1996، اشتدت الضغوطات تجاه الإسلاميين وكل مظاهر التدين في البلاد، لتأخد ثانويات الأئمة والخطباء نصيبها من هذه الضغوطات، حيث أراد البعض قطع الطريق على مدارس الأئمة والخطباء فاختلقوا ذرائع حول استعمال الحكومة للمؤسسات التعليمية لتحقيق أهداف سياسية.
تلقت المدارس المتوسطة ضربة كبيرة بعدما تقدمت الحكومة الجديدة للبرلمان بمشروع قانون نظام تعليمي إلزامي لثماني سنوات متواصلة
وشهدت مرحلة ما قبل انقلاب 28 فبراير/شباط عام 1997 سيناريوهات مرعبة ضد مدارس الأئمة والخطباء، وقامت بعض وسائل الإعلام الكبيرة في البلاد بعرض هذه السيناريوهات التي وصفوها بالرجعية على شاشاتها يوميًا، واحتلت مساحات كبيرة في الصحف، وتحدثت عنها المعارضة والنقابات وعالم المال والأعمال، فيما بدأت هذه المزاعم والأحداث في النمو بشكل كبير والسير نحو انقلاب 28 فبراير/شباط.
في 27 فبراير/شباط عام 1997 عقد مجلس الأمن القومي المشكَّل من الجنرالات أطول اجتماع في تاريخ الجمهورية التركية، متخذًا قرارًا من 18 مادة لمكافحة الرجعية، حيث خُصَّت مدارس الأئمة والخطباء بشكل مباشر في عدد من المواد، وفي اليوم التالي أعلن الجنرالات أن “الأفكار الإسلامية المدعومة من حكومات بعض الدول التي تطبق الشريعة الإسلامية تشكل خطرًا حقيقيًا وواضحًا على نظام العلمانية”.
هذه المرحلة قلبت وغيَّرت كل موازين في تركيا، ووُضعت فيها الديمقراطية على الرف، ولم تصبح السياسة المدنية سارية المفعول، وتدخل الجيش في نظام الحكم، وأصبحت كل المؤسسات والمنظمات والأشخاض الذين لهم علاقة مع الشعب تحت الخطر والتهديد، بما في ذلك مدارس الأئمة والخطباء.
مروة قاوقجي أول نائبة تركية محجبة
وعند دخول أول عضوة محجبة إلى البرلمان، وهي مروة قاوقجي، البرلمانية التي اُنتخبت عام 1999، لم يتقبل النظام السياسي وجود امرأة بداخله، وعمل على تهميش المحجبات وإبعادهن إلى المناطق البعيدة المحيطة وإنهائهن من الحياة الاجتماعية، وقاموا مع بعضهم بتحقيق حملة فتك سياسية وهدفوا لجعلها عبرة لغيرها، حتى لا تجرؤ أي محجبة على ذلك مرة أخرى، وكانت جملة “أوقفوا هذه المرأة عند حدها” إحدى كلمات السر لمرحلة الـ28 من فبراير/شباط.
عقب هذه الواقعة، أيقطن المجتمع التركي بأن قرارات مرحلة 28 فبراير/شباط كانت بمثابة مؤامرة تُحاك ضد الدولة مستهدفة في الوقت نفسه الإسلاميين، فعبَّرت الجموع عن رفضها لهذه القرارات من خلال النزول إلى الشارع، لاسيما التظاهر بعد صلوات الجمعة أمام مسجد بايزيد في مدينة إسطنبول.
وعلى إثر انهيار الحكومة الائتلافية التركية بطريقة غير ديمقراطية وتكليف رئيس الجمهورية سليمان ديميريل لرئيس حزب “الوطن الأم” مسعود يلماز تشكيل حكومة جديدة تلقت المدارس المتوسطة ضربة كبيرة بعدما تقدمت الحكومة الجديدة للبرلمان بمشروع قانون نظام تعليمي إلزامي لثماني سنوات متواصلة، حيث تسبب القرار بإغلاق الطريق أمام خريجي ثانويات الأئمة والخطباء للالتحاق بالكليات الجامعية تحت مسمى “قانون المُعامِل” وأمام خريجي المدراس المهنية.
توجد في تركيا اليوم 4500 مدرسة للأئمة والخطباء، تشكّل 7% من العدد الإجمالي للمدارس في تركيا (62 ألفًا و250 مدرسة)، وقد تضاعف عددها 10 مرات خلال الـ15 عامًا الماضية
كان هذا القرار يهدف إلى منع خريجي مدارس الأئمة والخطباء من الدراسة في كليات جامعية غير الكليات الدينية، لكنه كان سياسيًا، فقد صرَّح الجنرال العسكري شفير بير للصحافة قائلاً: “لو لم يتم قطع الطريق على مادرس الأئمة والخطباء، فإنه في عام 2010 سيصبح عدد خريجي هذه المدارس كبير، وستدخل المدارس في موجات سياسية نتيجة لذلك، وهذا سيؤدي إلى اتجاه تركيا نحو جهة مختلفة، إضافة إلى لمجيء حكومات متعاطفة معهم، وهذا سيشكل خطرًا كبيرًا على تركيا”.
من الهامش إلى المركز
استطاع الشعب التركي أن يتجاوز انعكاسات انقلاب 28 فبراير/شباط وآثاره بعد ما يقرب من 13 عامًا، تاركًا وراءه عبئًا ثقيلاً خلفته انتكاسات فرضتها مغامرات “العسكر”، ليتطلع إلى عهد جديد بدأ بانتخاب حزب العدالة والتنمية عام 2002، وتشكيله حكومة جديدة أطلقت برنامجًا تنمويًا طموحًا يسعى لتبوأ البلاد مكانها في مصافِ الدول المتقدمة ويضع قادة الجيش الذين شاركوا في تنفيذ الانقلاب أمام العدالة.
أردوغان: “حملت طوال حياتي في قلبي فخر وشرف وكرامة التخرج في ثانوية الأئمة والخطباء، سأواصل هذا الفخر حتى آخر نفس في حياتي”
ورغم عمل الحكومات المتعاقبة لحزب العدالة والتنمية على تطوير النظام التعليمي في تركيامن خلال خطط شملت في 13 عامًا إنشاء 250 ألف صف دراسي جديد، ومضاعفة عدد الأساتذة في البلاد ليصل إلى 933 ألفًا، وتوزيع 1.4 مليون حاسب لوحي، و432 ألف سبورة ذكية تفاعلية، وغير ذلك من المبادرات، إلا أن مدارس الأئمة والخطباء كان لها مكان خاص في هذه الخطط.
تحسَّن وضع مدارس الأئمة والخطباء مع قدوم حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، فزادت مخصصاتها المالية، وصار بإمكان خريجيها الالتحاق بأي جامعة يرغبون الدراسة فيها حسب نتائج امتحان الثانوية الموحّد، وتوجد في تركيا اليوم 4500 مدرسة للأئمة والخطباء، تشكّل 7% من العدد الإجمالي للمدارس في تركيا (62 ألفًا و250 مدرسة)، وقد تضاعف عددها 10 مرات خلال الـ15 عاماً الماضية.
ينتمي معظم طلاب مدارس إمام خطيب إلى الفئة المحافظة، ومع ذلك هناك طلاب من خلفيات قومية وليبرالية ويسارية، ورغم عدم وجود خلاف بين الأحزاب السياسية الرئيسة حول هذه المدارس بالتحديد، إلا أنها لا تتمتع بهذا الاستقرار الظاهر، فهي تتعرض لانتقادات وهجومات مستمرة من “الكماليين” الذين يحاولون الحفاظ على علمانية المبادئ التركية، ويرفضون جعل الدين محور الحياة في البلاد وتعزيز التفرقة الدينية بين الطلاب.
وترد بين الحين والآخر تقارير إخبارية تتناول الصعوبات التي عانى منها خريجو المدارس الدينية السابقون أو منتسبوها الجدد، ففي يونيو/حزيران الماضي، أثارت صحيفة “نيويورك تايمز ” في تقرير لها، وعودًا أطلقها الرئيس التركي منذ سنوات بتربية “جيل تقيّ” قبل ست سنوات، حين كان رئيسًا للوزراء، من خلال تقرير تحدث عن وجود “انقسام بين الآباء” في تركيا حول مدارس الأئمة والخطباء الآخذة بالانتشار في البلاد تحت حكم العدالة والتنمية، وهو ما نفاه فى الرئيس التركي بقوله: “لم نلجأ يوما لسياسة القمع والإكراه، والحقيقة واضحة لأهل البصيرة”.
في مقال نشرته صحيفة “حرييت“، رأى الكاتب التركي الليبرالي طه أكيول أن مدارس إمام خطيب “قصص نجاح لتركيا”، تجمع المعرفة الإسلامية الكلاسيكية بالمعرفة الحديثة، وأن نجاح تركيا بتحقيق هذه المعادلة ضَمِنَ عدم وجود أرضية خصبة للتشدّد والتنظيمات المتطرف، فقد تخرج من هذه المدارس عدد كبير من الأئمة والخطباء والمؤذنين وعدد لا بأس به من أعضاء حزب العدالة والتنمية الحالي وأهمهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يفتخر بذلك بقوله: “حملت طوال حياتي في قلبي فخر وشرف وكرامة التخرج في ثانوية الأئمة والخطباء، سأواصل هذا الفخر حتى آخر نفس في حياتي”.
تُدرّس ثانويات الأئمة والخطباء – حسب أكيول – المنهاج الوطني المعتمد في المدارس الثانوية، إضافة إلى مناهج دينية، وتملك وعيًا متفردًا بالرموز الوطنية مثل العلم والنشيد الوطني، ويميل عدد كبير من خريجيها إلى الالتحاق بفروع جامعية علمية تُؤهلهم لوظائف بعيدة عن الجامعات والمدارس الشرعية التي حُشروا فيها لعقود ماضية، ولعل هذا الاهتمام والتركيز الكبير على هذه المدارس يثير قلق بعض الأتراك الذين ينتمون إلى الإيديولوجية الكمالية، ويرون أن هذه المعاهد وسيلة لتحقيق أهداف الحزب السياسية.
ما تزال المعارضة التركية العلمانية ترفض هذه المدارس، وتتهم الحكومة بأنها تستعمل المؤسسات التعليمية لتحقيق أهداف سياسية
وبحسب تقرير لوكالة رويترز، رأى البعض خاصة مسؤولين من أفغانستان وباكستان أن النظام التركي قد ينير الطريق أمام تعليم ديني للشباب في البلدين يكون أقل تشددًا، ويمكن فهم هذا الاهتمام لأن نظام “إمام خطيب” التركي بعيد تمامًا عن الصورة النمطية الموجودة لدى الغرب للمدرسة الدينية باعتبارها مؤسسة تعلم التلاميذ القران بنظام الحفظ والتلقين.
وخلال السنوات الأخيرة التي أعقبت ثورات الربيع العربي، أصبحت مدارس الأئمة والخطباء وجهة ملايين العرب الذين فروا من بلادهم منذ 8 سنوات، بحثًا عن الأمن، خشية فقدان اللغة الأم، ووجدت العائلات العربية الحل لحفظ لسان الجيل الجديد من الأبناء بالالتحاق بمدارس الأئمة والخطباء في تركيا، كونها تعمل على تدريس علوم اللغة العربية، في المحادثة والقواعد والنحو.
رؤية من الداخل
رغم عدم وجود علاقة رسمية بين الحزب الحاكم وهذه المدارس، فإن مؤيدي الحكومة التركية يرون أن من الطبيعي أن تدعم الأخيرة هذا النوع من المدارس وأن تزيد عددها، لتعريف الأجيال الجديدة بتعاليم دينها الإسلامي على الوجه الأكمل، وذلك جنبًا إلى جنب مع المواد العلمية والأدبية، في المقابل، ما تزال المعارضة التركية العلمانية ترفض هذه المدارس، وتتهم الحكومة بأنها تستعمل المؤسسات التعليمية لتحقيق أهداف سياسية، وأنها تسعى لتكوين قاعدة من المحافظين تمكّنها من الفوز في الانتخابات.
وتعد نقابة العمل والتعليم (المعارضة) أكثر من يقف ضد هذا النوع من المدارس، وتتهم الحكومة بتحويل العديد من مدارس الدولة إلى مدارس الأئمة والخطباء، التي تصف كوادرها وخريجيها بأنهم “غير أكفاء”، وتقول إنهم “ذوو مستوى تعليمي منخفض”، كما أنها ترى أن هذه المدارس “تعزز التفرقة بين الطلاب وتقسمهم بحسب معتقداتهم الدينية، مما يفسد السلام الاجتماعي ووحدة التعليم في تركيا”.
تميل العائلات التركية المحافظة إلى هذه المدارس، لأن الفتيات -وفق آراء الأهالي- يستطعن ارتداء الحجاب بحرية داخلها
لكن وفق إحصائيات وزارة التعليم التركية، فإن 207 مدارس حكومية من أصل 49 ألفًا و765 مدرسة فقط هي التي تم تحويلها إلى مدارس متوسطة وثانوية للأئمة والخطباء، وعزت الوزارة هذا الإجراء إلى سياسة حسن استغلال مباني المدارس الحكومية، إضافة إلى تزايد عدد الأهالي الراغبين في تسجيل أبنائهم بهذه المدارس، لاسيما بعد إلغاء نظام التعليم الإلزامي الذي كان يمتد لـ8 سنوات، وكانت الحكومات العلمانية قد فرضته لإغلاق المرحلة المتوسطة لمدارس الأئمة والخطباء ضمن سياساتها القمعية ضد التعليم الديني.
غير أن الحكومة التركية رفعت هذا الحظر عام 2012، عندما رفعت سنوات التعليم إلى 12 سنة، تنقسم على 4 سنوات مستقلة لكل مرحلة (الابتدائية، المتوسطة، الثانوية)، وأصبح بإمكان الأهالي إرسال أبنائهم إلى مختلف أنواع المدارس المتوسطة -ومنها الدينية- بعد انتهاء المرحلة الابتدائية، كما تميل العائلات التركية المحافظة إلى هذه المدارس، لأن الفتيات -وفق آراء الأهالي- يستطعن ارتداء الحجاب بحرية داخلها، كما أن مُناخها التعليمي آمن مقارنة بالمدارس الأخرى، لكن هذا لا يعني أن كل الفتيات اللائي يدرسن فيها محجبات، بل العديد منهن لا يرتدينه.
يقود ذلك إلى البحث عن الأثر الكبير الذي أحدثته هذه المدارس في بنية تركيا السياسية والاجتماعية والثقافية، وفي هذا الشأن، تقول العضوة في مركز تربية القيم شيماء أرسلان إن “من أهم النتائج التي حققتها البنية الثنائية الشخصية لهذه المدارس، تَوْأمة الفكر الديني والعلمي، وربما مِنْ أهم تأثيرات هذه المدارس على أفكار المسلمين فكرة إمكانية وجود المسلم الحديث المجدد، أمَّا كون المدارس قد واءَمت بين علاقات الدين والعلم، فهي مسألة مهمة يجب الوقوف عليها، وهذه المسألة ليست فقط تتعلق بهذه المدارس، بل هي من أهم الواجبات التي تُلْقى على عاتق العالم الإسلامي”.
كذلك لعبت مدارس الأئمة والخطباء دورًا في التغير الاجتماعي لتركيا، فمنذ عام 1950 تحملت وظيفة رفع مستوى الطبقة الاجتماعية المنخفضة (من المناطق الريفية)، وذلك بتعليم أبنائها في مستوى أعلى وأرقى، ولهذه المدارس انطباع إيجابي بشكل عام من الشعب، دون تمييزٍ عرقي أو مذهبي، فالخدمات الدينية والتعليم الديني في تركيا يُداران من قِبل الدولة، أما المؤسسات المدنية، فإنها تدير فعاليات في هذا المجال بشكل غير رسمي.
وقبل عام 1982 كانت السمة الأبرز لطلبة الأئمة والخطباء تتمثل في كون معظمهم من أبناء الريف أو ممن هاجرت أسرهم حديثًا من القرى إلى المدن، في حين أن طلبة اليوم معظمهم وُلِد أو نشأ في المدن أو أن عائلاتهم تعيش فيها منذ أمد بعيد. وباختصار، فإن قصة طلبة الأئمة والخطباء الممتدة لأكثر من قرن لا بد من محاولة فهمها وتحليلها على أساس الفروقات بين الأجيال المختلفة.