بموجب بنود اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان و”إسرائيل” الذي دخل حيز التنفيذ صباح أمس الأربعاء، يتولى الجيش اللبناني – بجانب قوات اليونيفيل الأممية المؤقتة – المسؤولية الكاملة في الجنوب اللبناني، وذلك بعد سحب كل من “حزب الله” وجيش الاحتلال لعناصرهما خلال فترة 60 يومًا.
وكان وزير الخارجية اللبناني، عبدالله بوحبيب، قد أشار إلى أن جيش بلاده سينشر 5 آلاف جندي في جنوب البلاد، كجزء من الاتفاق المبرم، ليُضافوا إلى 5 آلاف جندي آخرين موجودين بالفعل في الجنوب، ليصل عدد الجنود المحتمل وجودهم في تلك المنطقة 10 آلاف، مع توقع زيادته إلى 15 ألف مجند التزامًا بالقرار الأممي رقم 1701 لعام 2006.
ومع تحفظ كل من “حزب الله” وحكومة الاحتلال على مشاركة قوات دول بعينها في سد الفراغ المحتمل الناجم عن تفريغ الجنوب من عناصر القوتين، بات السؤال الأهم الذي يفرض نفسه بعد الإعلان عن تفاصيل الاتفاق المبرم: هل يمتلك الجيش اللبناني الإمكانيات والقدرات التي تؤهله للقيام بالمهام الجديدة الموكلة إليه؟ وما السيناريوهات والخيارات المحتملة أمام لبنان للتعامل مع هذا التحدي الجديد الذي يعتبره البعض اختبارًا قاسيًا للجيش الوطني للدولة؟
الجيش اللبناني.. إمكانيات محدودة
يحتل الجيش اللبناني، بحسب موقع “جلوبال فاير باور” المتخصص بالشؤون العسكرية، المرتبة 111 بين أقوى 145 جيشًا في العالم، فيما يصل عدد قواته إلى 160 ألف مجند وضابط (60 ألفًا قيد الخدمة الفعلية، و35 ألفًا من قوات الاحتياط، و65 ألفًا قوات شبه عسكرية)، وذلك وفق تصنيف مركز جنيف لحكومة الأمن.
تبلغ ميزانية الجيش اللبناني قرابة 1.3 مليار دولار أمريكي، يذهب 50% منها إلى رواتب عناصره، فيما يتوزع النصف الآخر على المستلزمات الطبية والمحروقات والأغذية، ولا يوجد في الميزانية أي بند يتعلق بشراء الأسلحة التي يعتمد فيها الجيش في الغالب على المنح والمساعدات الخارجية.
أما عن الإمكانيات العسكرية، يمتلك الجيش قرابة 204 دبابات (133 منها فقط صالحة للخدمة) وفي أغلبها من الطرازات القديمة مثل الدبابة الأمريكية M48 A5 وM60 A3، إضافة إلى 84 مدفعًا ذاتي الدفع (55 منها قيد الخدمة)، و374 مدفعًا بآلية السحب (243 منها صالح للخدمة)، إلى جانب 30 راجمة صواريخ (20 منها صالحة للاستخدام)، و81 طائرة (45 منها صالحة للاستعمال)، و9 طائرات قتالية (5 منها فقط تصلح للطيران)، بالإضافة إلى 9 طائرات تدريب (5 منها فقط صالحة)، إلى جانب 69 مروحية (38 منها قادرة على الطيران)، علاوة على 69 سفينة وقارب، بينها 44 سفينة دورية واعتراض.
وتعاني الترسانة التسليحية للجيش اللبناني من مشكلات عدة، ناتجة عن قدم الأسلحة المستخدمة وعدم ملائمتها للمستجدات القتالية، فبعض الأنواع تعود لسبعينيات القرن الماضي، إذ لم تُحدث منذ سنوات طويلة، فضلًا عن ضعف القدرات وعدم توافر قطع الغيار المطلوبة وتجاهل الصيانات المنتظمة، ما أدى إلى خروج نسبة كبيرة من تلك الأسلحة عن الخدمة، فيما يواجه المتبقي أزمات قد تُخرجه في القريب العاجل أيضًا.
وتتولى الولايات المتحدة بشكل رئيسي مهمة تسليح الجيش اللبناني، يليها دول الاتحاد الأوروبي ثم بعض الدول العربية خاصة الأردن، فيما تستحوذ الأسلحة والمعدات المستعملة والخفيفة على النصيب الأكبر من نوعية الأسلحة الممنوحة من تلك الدول للجيش اللبناني الذي بات دوره محصورًا في الحفاظ على الأمن الداخلي فقط.
تهديد الجبهة الداخلية.. تحديات جسيمة
ربما تلك هي المرة الأولى التي يجد فيها الجيش اللبناني نفسه أمام مستوى جديد من التحديات لم يعهدها من قبل، فرغم أن القرار الأممي 1701 لعام 2006 نص على نشر 15 ألف جندي من عناصر الجيش في الجنوب مع سحب قوات “حزب الله”، وسيطرة المؤسسة العسكرية الرسمية اللبنانية على تلك المنطقة وتوليها مهمة الدفاع عن السيادة اللبنانية في مواجهة أي اعتداءات، داخلية كانت – حزب الله أو أي فصيل مسلح آخر – أو خارجية – “إسرائيل” -، فإن الجيش لم يلتزم بشكل أو بآخر بما جاء في هذا القرار تاركًا الساحة للحزب، فيما كان دوره إشرافيًا تنسيقيًا في المقام الأول.
ومنذ بداية الصراع اللبناني الإسرائيلي يميل صناع القرار في بيروت إلى تجنيب الجيش الانخراط في صراع مسلح مباشر مع جيش الاحتلال، في ظل الفوارق الكبيرة بينهما في القوة والعتاد، وكانت معادلة “الجيش والشعب والمقاومة” التي استُحدثت لأول مرة خلال محادثات الدوحة 2008 بين طرفي الانقسام في لبنان، فريق الثامن من مارس/أذار بقيادة “حزب الله” وحركة أمل والتيار الوطني الحر، وتحالف 14 مارس/آذار بقيادة تيار المستقبل، هي المخرج الآمن للجيش من تلك المعضلة، والحل المُرضي لـ”حزب الله”، حيث أوكلت مهام الأمن الداخلي للجيش، فيما حافظ الحزب على وجوده في الجنوب كـ”مقاوم” للاحتلال.
اليوم تجد المؤسسة العسكرية اللبنانية نفسها في مأزق حقيقي، فهي مطالبة بالقيام بالدور الذي كان يقوم به “حزب الله”، من فرض للأمن وتطويق للمنطقة والحفاظ على استقرارها والتصدي لأي أعمال من شأنها خرق الاتفاق، بما فيها تحركات الحزب نفسه، فضلًا عن الدفاع عن السيادة اللبنانية ضد أي تهديدات أو اعتداءات خارجية، ويقصد بذلك “إسرائيل” المتوقع أن تتحرش بين الحين والآخر بالقوات اللبنانية، وتضعها في اختبارات قاسية.
ولأجل التحشيد لتلك المهمة الصعبة ذات الأعباء الحرجة، قد يضطر الجيش اللبناني لسحب قواته وعتاده العسكري المتواضع من داخل البلاد إلى الجنوب، وهو ما قد يكون له تبعاته على استقرار الجبهة الداخلية التي تعاني هي الأخرى من توترات حادة بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة التي يحياها اللبنانيون منذ سنوات وأسفرت عن احتجاجات عارمة عمت شوارع بيروت وأجوارها.
هل يستطيع الجيش الوفاء بمسؤولياته منفردًا؟
هناك قناعة وسردية مُتبناة بشكل كبير لدى قطاع عريض من اللبنانيين تذهب باتجاه تحميل الولايات المتحدة مسؤولية ما وصل إليه الجيش اللبناني من تقزيم لدوره وإضعاف قدراته ومن ثم تهميش حضوره، وهي السردية التي دعمتها شهادات العديد من الضباط السابقين في الجيش اللبناني، الذين يتهمون واشنطن بالضغط المستمر على الحكومات المتعاقبة لمنع الدولة اللبنانية من الحصول على أي أسلحة متطورة يمكن أن تشكل تهديدًا لـ”إسرائيل”، حسبما نقلت شبكة “بي بي سي”.
ومن ثم جاءت كل المساعدات المقدمة للجيش عبارة عن أسلحة مستهلكة ومعدات قديمة، تساعد في القيام بمهام الأمن الداخلي دون القدرة على الدخول في أي مواجهات مع جيوش نظامية، فضلًا عن الرواتب الهزيلة والإنفاق المحدود على المؤسسة العسكرية، الأزمة التي عمقتها الأوضاع الاقتصادية المأساوية التي يعاني منها لبنان في المجمل، والتي تفاقمت بسبب انفجار مستودع الأسمدة المدمر في مرفأ بيروت عام 2020.
بالتالي.. فإن جيش بتلك الإمكانيات المحدودة والقدرة التسليحية المتواضعة والميزانيات الضعيفة ليس بمقدوره الدخول في أي مواجهات محتملة مع طرفي الأزمة في الجنوب، “حزب الله” وجيش الاحتلال، في حال خرقهما أو أي منهما لبنود الاتفاق، في ظل الفوارق الهائلة بين الطرفين التي تميل كفتها بشكل متطرف عكس عقارب المؤسسة العسكرية اللبنانية.
وعليه فإن الحديث عن قدرة الجيش اللبناني على القيام منفردًا بالمهام الموكلة إليه بحسب اتفاق وقف إطلاق النار، مسألة غير موضوعية، أو على الأقل ستكون غاية في الصعوبة، حتى مع وجود قوات اليونيفيل البالغ عددها 10 آلاف جندي حتى سبتمبر/أيلول 2024، وهم ما يثير التساؤل: ما الخيارات التي ممكن أن يلجأ إليها لبنان للقيام بمسؤولياته دون الإخلال بها؟ من الذي يمكنه تعويض هذا الفارق الكبير في القدرات بين الجيش اللبناني وغيره من الأطراف المعنية؟
ما الخيارات؟
في مواجهة تلك المعضلة هناك عدة خيارات أمام الجيش اللبناني للتعاطي مع هذا التحدي المستحدث:
أولًا: تجييش لبنان معظم قواته لتلك المهمة من خلال سحب جل ألويته القتالية وعتاده للجنوب بمساعدة قوات اليونيفيل، وهو ما سيكون له أثره على الجبهة الداخلية كما أُشير سابقًا، ومن ثم لا يتوقع أن يغامر الجيش بتفريغ البلاد من وجوده، خشية ما قد يترتب على ذلك من كوارث تقوض الأمن والاستقرار الداخلي، إلا إذا عززت القوات الأممية العاملة هناك من قدراتها، كما وكيفًا، وهنا قد يكون الأمر مقبولا نسبيًا.
ثانيًا: الاستعانة بقوات أجنبية، فبحسب البيان المشترك الصادر عن فرنسا والولايات المتحدة ونشرته وكالة “رويترز”، فقد تعهدا بالعمل معًا لتعزيز القوات المسلحة اللبنانية ومساعدة اقتصاد لبنان، والسعي لضمان تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان بشكل كامل وبكل بنوده، بما فيها تولي الجيش اللبناني مسؤولية الجنوب بشكل مطلق.
وقد يصطدم هذا الخيار بمقاربات كل من “حزب الله” و”إسرائيل” فيما يتعلق بهوية وجنسية القوات الأجنبية المشتركة، وانضمام أطراف أخرى للجنة المقترح تدشينها لمراقبة تطبيق الاتفاق، فبينما يرحب الحزب بالوجود الفرنسي، يرفضه الإسرائيليون الذين يميلون للألمان والبريطانيين، وهو ما يتحفظ عليه الحزب اللبناني، ومن ثم فإن استدعاء طرف عسكري أجنبي مسألة ربما تُحدث انقسامًا جديدًا بين الطرفين.
ثالثًا: مشاركة قوات عربية تحت إشراف أمريكي.. وربما يكون ذلك هو الأقرب حظًا والأكثر احتمالًا بحسب بعض التقديرات، العربية والغربية، والتي تشير إلى احتمالية أن يكون للوجود السعودي-الإماراتي تحديدًا دورًا محوريًا في تلك المهمة، وهو الوجود الذي ربما يحظى بموافقة الجانب الإسرائيلي و”حزب الله” وعليه تتضاءل احتمالات الصدام.
وربط بعض الخبراء بين هذا السيناريو وما جاء في تصريحات الرئيس الأمريكي، الأربعاء 27 نوفمبر/تشرين الثاني، بشأن استعداد بلاده لتوقيع سلسلة من الصفقات التاريخية مع السعودية، بما فيها معاهدات دفاع مشترك وضمانات اقتصادية، تقود في النهاية إلى التطبيع الكامل مع “إسرائيل”، حيث يرى أنصار هذا الرأي أن للرياض دورًا محوريًا في اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، والحديث عن حضور قوي في ملف إعادة الإعمار، في محاولة لاستعادة النفوذ السعودي لبنانيًا بعد تراجعه لعدة سنوات بسبب “حزب الله” ومقارباته الإيرانية.
بالمحصلة، فإن الحالة الرخوة التي عليها المشهد اللبناني حاليًا، والتي زادت هشاشتها بعد الاتفاق الأخير الذي قد يفتح الباب أمام أجندات وتدخلات خارجية تحت عباءة اللجنة المشكلة لمراقبة بنود الهدنة، ستضع لبنان وجيشها أمام تحدي خطير، وبين فكي رحى، إما القيام بما هو موكل إليه بشكل منفرد رغم تداعيات ذلك على الجبهة الداخلية، وإما اللجوء للمساعدات الخارجية التي على الارجح لن يكون وجودها حسن النية، هذا في حال قدرة الاتفاق على الصمود وعبور المهلة الانتقالية المحددة بشهرين، لسحب الحزب وجيش الاحتلال قواتهما من الجنوب، في ظل المؤشرات غير المبشرة خلال الساعات الماضية والتي تنذر باحتمالية حدوث خرق في أي وقت.