أدّى الموقع الجغرافي لتركيّا في نقطة التقاء قارتي آسيا وأوروبا إلى استيعابها لتاريخٍ طويل من الحضارات والإمبراطوريات المختلفة التي تعاقبت عليها على مرّ السنين، بدءًا من الفترات الأولى للبشر على الأرض والعصور الحجرية والبرونزية وحتى وقتٍ متأخر من التاريخ.
ولا عجب أنّ هناك الكثير من الآثار والمعالم التاريخية التي تحمل صخورها وبقاياها الكثير من قصص التاريخ والحضارات الغابرة. فهنا تستطيع أنْ تتخيّل نفسك الإنسان الأول الذي عاش في العصر الحجري حيث لا يعرف أداةً سوى الحجر ليستخدمها، أو قد تتخيّلها محاربًا في العصر البرونزي يحاول بناء مدينته وحمايتها، أو حتى قد تتخيّلها طالب علمٍ إغريقيّ يقصد مكتبةً ما أو يذهب للمسرح ليرفّه عن نفسه مع رفاقه.
تبعًا لهذا التنوّع الحضاري أيضًا، تحتوي تركيا على العديد من المعابد وأماكن العبادات والطقوس العقائدية المختلفة. إذ يُعتقد أنّ أول معبدٍ عرفه البشر في التاريخ كلّه وجد في تركيا قبل أنْ يعرف العالم بعد معنى الحضارات والاستقرار والتمدّن وما إلى ذلك.
غوبكلي تيبي: نقطة بداية التاريخ وتجلّي الآلهة
يصف البعض هذا المكان بأنّه المكان الذي تجلّت فيه الآلهة للمرة الأولى عند الإنسان الأول. إذ يعتقد المؤرّخون ودارسي التاريخ أنّ “غوبكلي تيبي Göbekli Tepe” هو أوّل الأماكن المقدّسة التي عمّرها الإنسان في التاريخ، وأنّ حجارته وآثاره المتبقّية تحمل في نتوءاتها أسرار نشوء الحضارات والطقوس الدينية.
تصوّر مرسوم لمخطط المعبد وكيفية بنائه
على بعد ستة أميال من مدينة شانلي أورفا، جنوب شرق تركيا، حقّق عالم الآثار الألماني كلاوس شميدت عام 1994 واحدة من أهمّ الاكتشافات الأثرية المذهلة في عصرنا؛ وذلك بعدما وجد في رحلة تنقيبه مجموعة من الأحجار والمباني الصخرية المنحوتة فوق أراضٍ جبلية ويرجع عمرها إلى ما قبل 11 ألف و500 عامٍ تقريبًا، نحتها وأنشأها أشخاص من عصور ما قبل التاريخ، تحديدًا في العصر الحجري، حيث لم يكن الإنسان قد اكتشف أيّ أدواتٍ معدنية بعد.
تمكّنت عمليات التنقيب حتى اللحظة من العثور على أربعة معابد فقط، ما يعني أنّها كشفت عن ما يقارب 1.5% فقط من مجمل مساحة الموقع فيما بقي 16 معبدًا آخر تحت التراب فيما لا تزال الأعمال مستمرة بالتنقيب عنها وإخراجها. وتزيّن جدران المعابد العديد من صور الحيوانات مثل الثعالب والخنزير البري والثعابين والعقارب والطيور والغزلان والأسود والزواحف والثيران.
وفي الواقع، يتمركز الموقع على الحافة الشمالية للهلال الخصيب، وهو مصطلح جغرافي يُطلق على منطقة حوض نهري دجلة والفرات والجزء الساحلي من بلاد الشام، أي في العراق وسوريا وفلسطين والأردن ولبنان. يرجّح شميدت أنّ الجماعات البشرية لم تقم بشكلٍ دائم في جوبكلي تيبي نفسها، وإنما كان مكانًا للعبادة فقط. ولهذا، فهو يشبّه المنطقة بالكاتدرائية الأولى التي عرفتها الإنسانية أو أول مكان حجّ ديني قصدته القبائل البدائية في الشرق.
يُعتقد بأن غوبكلي تابي هو أوّل مكان حجّ ديني قصدته القبائل البدائية في الشرق خلال العصر الحجري
يخبرنا الموقع أنّ سعي الإنسان الأول وبحثه عن الآلهة والدين والطقوس التعبّدية وُجدت قبل نشوء المدن. فالآثار المتبقية تُشير أنّ من أنشأ المكان كانوا من الصيّادين الرحّل قبل أنْ يعرف البشر الزراعة والطبخ والاستقرار. وبحسب رأي شميدت نفسه فإنّ “المعبد بني أولًا ثمّ بنيت المدينة”. وهي فرضية ثورية تتنافى مع الكثير من الفرضيات التي تعتقد أنّ الإنسان أوجد المدينة وعرف التطوّر قبل أنْ يعرف الآلهة والطقوس العقائدية.
حَتّوساس: عاصمة الحيثيين القديمة
كانت المدينة التي تُعرف أيضًا باسم حتُّوشاش “Hattuşaş“، عاصمةً للإمبراطورية الحيثية، واحدة من الحضارات الأولى التي نشأت وتوطّنت في منطقة الأناضول في أواخر العصر البرونزي، أي أنها تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد. حاليًا تتبع المنطقة لمدينة جوروم في منطقة البحر الأسود شمالي تركيا، وقد أدرجتها اليونسكو ضمن لائحة التراث العالمي عام 1986.
بقايا مدينة حتّوساس
تتكون المدينة بشكلٍ عام من قسمين: المدينة السفلى التي كانت بالأساس مركزًا للحياة المدنية والمعيشة حيث لا يزال من الممكن لنا مشاهدة بقاياها وكيفية تنظيمها وترتيبها دالّة على وجود حضارة مدنية عاشت يومًا ما فيها. وهناك المدينة العليا التي احتوت على المعابد وأماكن العبادة والطقوس.
يُعرف أهمّ تلك المعابد باسم المعبد الكبير أو العظيم حيث كان الناس يعبدون إله العواصف وإله الشمس المعروف باسم “أرينا”. وقد كان لمنطقة المعبد الكبير شوارع معبّدة ومنظّمة تربطه بالمعابد الرئيسية والصغيرة الأخرى، إضافةً إلى ربطه بأماكن المعيشة والمخازن والمحلات التجارية في المدينة.
بوابة الأسد- واحدة من بوّابات المعبد الكبير في حتّوساس
وقد بنى الحيثيّون معابدهم ومدينتهم على على موقعٍ يمكن الدفاع عنه جيدًا ويحيط به جدارٌ مزدوجٌ وضخمٌ يمتد طوله لأكثر من 8 كيلومترات، يحتوي على 5 أبواب وأكثر من مائة برج. أمّا أهم الآثار المتبقّية من المعبد فهي الألواح المسمارية لـمعاهدة قادش، أقدم معاهدة سلام عرفها التاريخ وقد أُبرمت بين إمبراطوريتي الحثيين والفراعنة المتنازعتين عام 1280 قبل الميلاد وتوجد الآن في متحف إسطنبول الأثري.
معبد الآلهة الإغريقية أرتميس
كان هذا المعبد يُعتبر يومًا ما واحدًا من عجائب الدنيا السبع القديمة. يحمل اسم الآلهة أرتميس التي ذُكرت في الميثولوجيا الإغريقية القديمة ويحتوي على تماثلًا لها. وأرتميس هي آلهة الصيد والبرية، حامية الأطفال، وإلهة الإنجاب والعذرية والخصوبة. كما تعتبر إحدى أهم وأقوى وأقدم الآلهة الإغريقية حيث أنها تنتمي للأولمبيين أو الآلهة الإثنا عشر. غالبًا ما كان يتمّ تجسيدها وفي يدها قوسٌ وسهام.
بقايا معبد أرتميس في منطقة أفسس القريبة من مدينة إزمير التركية
تمّ بناء المعبد حوالي عام 550 قبل الميلاد ، في مدينة أفسس الساحلية، واحدة من أعظم المدن الإغريقية القديمة في الأناضول، والواقعة حاليًا غرب تركيا. وقد كان بالأساس مكوّنًا من هيكلٍ مستطيل ضخم مصنوع من الرخام الابيض ويحتوي على 127 عمودًا رخامًا تصطف في صفين، فيما يبلغ طول الواحد منها حوالي 60 قدمًا. أمّا جدران المعبد فقد زيّنت بالمنحوتات والرسومات الجميلة.
تعرّض المعبد لعدّة حرائق وعددًا من الهجمات ما أدّى إلى اختفائه تدريجيًا. في عام 1864، قام المتحف البريطاني بتخصيص تمويلٍ خاص للتنقيب في المنطقة على أمل العثور على بعض الأنقاض والبقايا. وبالفعل، تمّ العثور على بقايا المعبد على عمق 25 قدمًا من طين المستنقعات بعد 5 سنوات من بداية عملية البحث والتنقيب.
جديرٌ بالذكر أيضًا أنّ منطقة أفسس تُعتبر واحدة من أكثر المناطق زخمًا بالآثار الرومانية والإغريقية القديمة. فمنذ بدء تأسيسها في القرن العاشر قبل الميلاد على يد الإغريق القدامى، بدأت المدينة بضمّ الكثير من المعالم والآثار العظيمة التي تدلّ على حضارة الإغريق العريقة، مثل مكتبة سيلسس التي تمّ بنهاؤها سنة 125 قبل الميلاد ومسرح المدينة اليوناني والذي يعدّ الأكبر في العالم القديم حيث كانت سعته تصل إلى حوالي 25 ألف شخص، إضافةً إلى معبدي هادريان وأوديون وغيرها الكثير.