العام الماضي، قررت المملكة العربية السعودية توقيف زراعة الأعلاف الخضراء في البلاد، استجابةً لقرار حكومي صادر في عام 2015، طالب بالتوقف نهائيًا عن زراعة البرسيم في المساحات التي تزيد على 50 هكتارًا (10 آلاف متر مربع)، بسبب كلفته الباهظة واستنزافه موارد المياه الشحيحة للبلاد ولذلك كانت البلد الصحراوية قد توجهت إلى خطط بديلة لتأمين الأمن الغذائي لملايين السعوديين.
ولكن البدائل الاحترازية لم تكن مجدية، فعلى الرغم من أنها وفرت نحو 8 مليارات متر مكعب سنويًا من المياه الجوفية، وساهمت في سد احتياجاتها الغذائية مؤقتًا، فإنها في نفس الوقت أثارت غضب واستياء أنصار البيئة والعديد من المراقبين للاستثمارات السعودية، فماذا كانت حلولها؟ وكيف أضرت بصورة السعودية العامة في المسرح العالمي؟
السعودية تشتري الأراضي الزراعية في الخارج وتهدد بيئة غيرها
نشر موقع “بيزنس إنسايدر” الأمريكي، تقريرًا بعنوان “السعودية تشتري أراضٍ أمريكية لإطعام أبقارها”، مشيرًا إلى توسع الاستثمارات السعودية في الولايات الأمريكية والأراضي التي تعاني من الشح لزراعة الأعلاف التي تساعد أبقارها الحلوب على النمو والإنتاج، ومن أهمها، شركة الألبان “المراعي” التي تأسست عام 1976 واشترت في عام 2014 ما مجموعه 9 آلاف و600 فدان من الأراضي الزراعية في ولاية أريزونا، بالجانب إلى 14 ألف فدان من إجمالي ممتلكاتها من الأراضي الأمريكية، ما تسبب بزيادة القلق بشأن احتياطات المياه المحلية في وادي “بالو فيردي” في كاليفورنيا.
ومع امتلاك المملكة نحو 170 ألف بقرة حلوب تحتاج إلى الأعلاف، اختارت السعودية أن تقلص من استنزافها لمواردها المحلية بمعدل 17 مليار متر مكعب سنويًا والذهاب إلى ثروات واحتياطات غيرها من الدول، لا سيما في المناطق التي لا تعاني قيودًا كبيرة وتتلاءم مع مصالحها التجارية وحاجة مشاريعها، مع العلم أن دول أخرى مثل الإمارات العربية المتحدة والصين واليابان تستفيد أيضًا من هذه التشريعات المرنة في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولكن التقرير يذكر أن السعودية وحدها أثارت سخط الأمريكيين، ربما بسبب حجم ممتلكاتها واستثماراتها أو بسبب كونها المنافس الرئيسي لأمريكا في قطاع النفط والماء أيضًا الذي يعتبر حاليًّا من الأصول الإستراتيجية التي تثير الحساسية الدبلوماسية والاقتصادية بين العديد من الدول في العالم، وتجنبًا لهذا السيناريو بين المملكة وأمريكا، من المرجح أن تزيد الدعوات الشعبية والحقوقية لتغيير سياسات القانون الأمريكي الذي يسمح باستخدام مصادر المياه دون حدود حتى لو كانت لتغذية الأبقار الأجنبية.
تُعرف شركة المراعي بكونها أكبر لاعب في صناعة الألبان في المملكة، حيث تحتل المرتبة الأولى في مبيعات الجبن والحليب واللبن الزبادي، وتحقق أرباحًا قياسية بلغت 1.4 مليار دولار في عام 2015
وبذلك فإن اختيار شركة المراعي لمنطقة “بلايث” لم يكن صائبًا، فهي تعد من إحدى المدن الزراعية الشاسعة التي تقع على ضفاف نهر كولورادو وتمتلك فيها 15 ألف فدان أي ما يعادل 16% من الوادي كاملًا، وتستخدم مياه النهر للزراعة، ثم تشحن محصولها إلى المملكة لإطعام أبقارها الحلوب وبالتالي بقاء منتجها في المرتبة الأولى في سوق الألبان في دولة يقطنها 30 مليون نسمة، دون الالتفاف إلى الآثار السلبية التي تخلفها هذه الأنشطة.
إذ تُعرف هذه الشركة بكونها أكبر لاعب في صناعة الألبان في المملكة العربية السعودية، حيث تحتل المرتبة الأولى في مبيعات الجبن والحليب واللبن الزبادي، وتحقق أرباحًا قياسية بلغت 1.4 مليار دولار في عام 2015، بزيادة قدرها 15% عن العام السابق، ولا شك أنها تصدرت هذه المكانة عن طريق استيراد البرسيم وشراء الأراضي الزراعية في بلدان أخرى، وتحديدًا تلك التي لا تفرض قواعد صارمة بشأن كيفية الاستخدام وكمية الاستهلاك، ففي ولاية كاليفورنيا مثلًا ترتبط حقوق استخدام المياه عادةً بمالك العقار، إذ يسمح لصاحب الأرض ببيع مياهه، مما يعني أن المياه الجوفية تعتبر موردًا خاصًا لا صلة له بالتدخل الحكومي.
العقود التي وقعت عليها المملكة تقضي بإراحة الأراضي، بحيث لا يمكنها زراعة جزء من هذه الأراضي بشكل سنوي، لكن السعودية تزرع في كل شبر من الأرض
بالنسبة إلى المراقبين، فإن شراء شركة المراعي للأراضي يسلط الضوء على العولمة التي لا تؤدي فقط إلى تصدير أغلى مورد للولاية على شكل البرسيم بأسعار منخفضة مثيرة للصدمة، ولكنها تخلق أيضًا انبعاثات كربونية هائلة لنقل أعلاف الحيوانات الثقيلة الضخمة إلى الجانب الآخر من العالم، عدا عن كونها طريقة بديلة لامتلاك الموارد المحلية، وربما اختراق القواعد التي تحمي الثروات الطبيعية من الانهيار والانحسار.
وذلك بالإضافة إلى الخسائر المادية، فوفقًا لكريستوفر ثورنبرغ، أستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا، يقول: “المياه اللازمة لزراعة البرسيم في منطقة “بليث” تكلف المزارعين نحو 70 دولارًا للفدان، لكن هذه المياه نفسها يمكن أن تجلب 1000 دولار لكل فدان إذا تم نقلها إلى المنازل في لوس أنغلوس”، ونظرًا لذلك ناشد بعض المسؤولين بعدم السماح باستخدام موارد البلد الثمينة مجانًا، إذ قال أحدهم في مقابلة مع قناة “سي إن بي سي”: “نحن لا نحصل على النفط مجانًا، فلماذا نعطي مياهنا مجانًا؟”.
ففي إحدى المناطق التي اشترتها المملكة في ولاية أريزونا، حصلت السعودية على 15 بئر مياه عندما اشترت العقار، التي من المرجح أن تضخ نحو 1.5 مليار غالون من المياه الجوفية وهي كمية ضخمة جدًا يمكنها حماية الولاية من التهديدات البيئية، ومع ذلك يتم تصديرها بكميات هائلة إلى مزارع ومصانع السعودية بدلًا من تفريغ احتياطياتهم المائية. جدير بالذكر أن العقود التي وقعت عليها المملكة تقضي بإراحة الأراضي، بحيث لا يمكنها زراعة جزء من هذه الأراضي بشكل سنوي، لكن السعودية تزرع في كل شبر من الأرض.
الأراضي الأمريكية ليست الوحيدة..
لم تستهدف المصالح التجارية الولايات الأمريكية فقط، فلقد توجهت طموحات السعودية إلى العديد من أراض الدول العربية مثل مصر والعراق واليمن والسودان، إذ وقعت هذه البلدان عدة اتفاقيات مع السعودية لتوفير الموارد المائية اللازمة لاستزراع أراضيها، مثل الحكومة السودانية التي وقعت صفقة عام 2015 بقيمة 2.7 مليار دولار لاستزراع نحو مليون فدان على ضفاف نهري عطبرة وستيت في شرق السودان من بين 200 مليون فدان صالحة للزراعة في البلاد.
وكما جرت العملية في أمريكا، فلم تختف آثار شركة المراعي عن المشهد، بل اشترت نحو 22 ألف فدان في منطقة سهل القولد لزراعة البرسيم من أجل تصديره لاحقًا إلى المملكة، علمًا أن هذه الملكيات لا تطبق عليها القوانين السودانية ولا تدفع السعودية مقابلها رسوم أو ضرائب، ما يعني أن السودان لم تستفيد من الصفقات المتتالية التي عقدتها مع المملكة، سواء على الصعيد الاقتصادي أو حتى البيئي.
ذكرت إحدى الدراسات المتخصصة أن البلد الصحراوية أكبر مستثمر في المجال الزراعي في السودان عبر استحواذها على مساحات خضراء تقدر بنحو 500 ألف هكتار أي ما يعادل نصف جميع الاستثمارات في هذا القطاع
وتعاني جمهورية مصر من الخسارة نفسها، فلقد قررت المملكة الاستثمار في صحراء مصر الغربية وتحويل مواردها المائية إلى ثروات تغنيها عن النقص والشح الذي تعاني منه وتتخوف من تفاقمه، معتمدة على مقومات غيرها من الدول، إذ قادت هذه المبادرة شركتي”الجنات” و”الراجحي” التي تعد شريكة لشركة المراعي وهي شركات لا تساهم فقط في إهدار موارد مصر وإنما تحاول بطريقة ما السيطرة على سلسلة الإنتاج الغذائي.
ذكرت إحدى الدراسات المتخصصة أن البلد الصحراوية أكبر مستثمر في المجال الزراعي في السودان عبر استحواذها على مساحات خضراء تقدر بنحو 500 ألف هكتار أي ما يعادل نصف جميع الاستثمارات في هذا القطاع، لكن نهاية هذا الطمع كان في عام 2013 حين شهد السودان احتجاجات تندد ببيع الأراضي للمستثمرين الخليجيين.
وبشكل عام، بين معهد أوكلاند أن مجموع الأراضي التي اشترتها أو استأجرتها المملكة في القارة الأفريقية عام 2009 وصلت إلى 60 مليون هكتار موزع بين إثيوبيا وليبيريا ونيجيريا وموزمبيق وغانا ومدغشقر ومالي، وذلك مع تصدرها قائمة الدول المشترية للأراضي الزراعية خارج حدودها، عقب ارتفاع أسعار المواد الغذائية لديها في عام 2008 وخوفها من مؤشرات نقص الغذاء والتغيرات المناخية على المستوى العالمي. في النهاية، فإن أموال استثماراتها تخرب مياه غيرها وتربتها ومناخها دون أن تهدد أمنها الغذائي أو البيئي.