لطالما أهدتني نيويورك فضيلة أن أكون الآخر، في مدينة كل من يأتيها يمني نفسه بالذوبان قررت أن أدهن سائر جسمي لا رأسي فقط بزيت السمسم كي ألعق ملح الغربة في وجهي حين تمطر ظهيرة إبريل الكاذبة.
اليوم فقط : في هذا السبت الغاضب لن أستقل القطار الأحمر، لا التو ولا الثري، لا التو القادم من البرونكس – ذاك المحمل بالجاز والأغنيات – قاطع نهر هارلم الصغير باتجاه الداون تاون، ولا ذاك الذي يدعى الثري ، القطار الذي يصلي الفجر تحت جامع تمبكتو ويمشي مشي الصابرين حتى يصلي ركعتي الضحى في أطراف بروكلين.
اليوم فقط سنمشي باتجاه السوق العربي ، نحن القادمون من لفة جوبا أو من تقاطع عبيد ختم، الراجلون من مخبز البلابل أو الهاتفون ب تسقط تسقط من الخرطوم اثنين أو حتى من مسجد العمارات الصغير ، جميعاً أو فرادى باتجاه شارع المك نمر.
لا من ناصية شقتنا المتواضعة في شارع مالكوم اكس بقلب هارلم ولا من أمام رابطة جمعية السودانيين الأمريكيين في بروكلين، بل من فرجينيا جائت الجموع، ولمن لا يعرف فرجينيا فهي مسيرة ساعاتها بين فجر وظهيرة أوبين عصر وعشية، ومن فيلادلفيا وكذاك من مين، وكلها أطراف بعيدة عن مانهاتن ، فما عذرنا نحن سكان جزيرة مانهاتن؟، أهل مانهاتن المستعجلون حتى في طلب القهوة أو انتظار ظهور الكاش من صرافة بنك أوف أمريكا، لا عذر لنا والله إن لم نخرج نهار الست من أبريل لمؤازرة أهلنا في الخرطوم وكل قرى السودان التي لم تعد تنام منذ ديسمبر على ضفاف النيل.
نهارات هارلم تعرف كيف تختار الأغنية المناسبة لكل مناسبة، سيارة سوداء تتبع خطانا وصوت الموسيقى فيها واضح جداً ، على الأقل لي ولمحمد عبدالباري الذي يبتسم ولا يقول شيئاً ، صوت سام كوك في الأغنية التي يقال أنها كانت سبب اغتياله مناسب جدا في هذا النهار ونحن باتجاه مظاهرة الشعب السوداني ضد طاغيته :
I was born by the river in a little tent
Oh and just like the river I’ve been running ev’r since
It’s been a long time, a long time coming
But I know a change gonna come, oh yes it will
أعرف وإن كثر أهلنا – الواحدين – أمام بعثة الأمم المتحدة إلا أنهم سيكونون وحيدين، لا شالات فلسطينية ولا مستشرقون، لا مخبرون بألسنة عجمتها تطم البطن ، ولا باحثون عن سبق صحفي لمقتل خاشقجي، السودانيون يمضون وحدهم منذ الأزل، يتهادون كالنيل من الجنوب إلى الشمال، يتأدبون كالنسمة وكأن موعدهم حتى في يوم الحشر موعد شعب لا يشبه إلا نفسه ، السودانيون هم الناس وهم شعب الله الذين يمشون بملء إرادتهم وحيدين.
سأشرف اليوم بأن أكون الغريب بين أهله ، بل أن أتخلى عن الفضيلة الوحيدة التي تمنحها نيويورك : أن تكون الآخر في كل حين، كيف أكون الآخر و “الليلة يستقبلني أهلي” ؟
لا أدري إن كانت صدفة أو مزحة من مزحات القدر أن يصدح صوت سميرة دنيا في ناصية تقاطع إسحاق رابين على امتداد السكند أفنيو هاتفة ضد عمر البشير ، نهر هديسون الخجول مقارنة بالنيل العريض يرخي سمعه من خلف مبنى الأمم المتحدة في مانهاتن، كنت خائفاً جداً أن يخذل المكان والزمان أهلنا السمر الطوال ، مشينا وحيدين وأعلام الدول على يميننا ، شابان بعلم ما بعد الاستقلال يغازلان خواجية لينة العود ، كانت في آخر العشرين قبيل الثلاثين ، قصيرة الشعر هاربة من أنوثتها بجنز ضيق، لم تذكرني بمسز روبنسن ولم يكن في ملامح الشابين رغبة كتلك التي كانت بين مصطفى سعيد و آن ابنة السيد همند.
شاب عريض المنكبين يقصدنا مباشرة و يصافحنا مصافحة صديق قديم، شبه على رفيق دربي الشاعر الوسيم، في عينه شك العارف وبلسانه أدب الذي يريد السؤال ولم يقل، نقترب من نهاية رصيف الأمم المتحدة دون مرأى العمائم ولا ثياب الخالات، نكمل بيقين المؤمن وتوكل المتظاهر في بلاد بعيدة تسمح بحرية لم نجربها سلفاً ، مس الثورة يجعل نهايات الطرق مفتوحة على كل الاحتمالات.
فجأة صوت يشبه وقع الكوز في خد الزير، صوت كتفوق تصميم الفضة على بريق الذهب، صوت الخالة من سور الجيران : تعال يا ابني ، تعال يا ود حسنة بت محمود : الشاي باللبن هاندا !
كان الشاي باللبن صوت سميرة دنيا ، سلم خماسي في حنجرة البلور ، شيء يشبه كعبك العالي يدق دمي كما يقول محمد عبدالباري ، سواد من الناس أطيبهم – كصيغة مبالغة – لا وجود له في قواميس العربية، فكل سوداني شرب من النيل طيب طابت عروقه وأتحمل وزر التعميم إلي يوم الدين.
على مدخل التجمع الهائل أوقف السودانيون شاعرهم المحبوب ، حاول أن يعطلني عن اقتحام الجمع وهو العارف بطرق الطبال في صدري ، بعيني أومأت إليه :
أنا اليوم لست الآخر يا محمد ياود أم كلثوم ، اتركني على حل شعري .
في صوت سميرة دنيا لحن قديم لأغنية أحبها ، أغنية أتذكرها جيداً وأنا أبصر الحناء في يدها، لم تكن مصادفة أني لا أعرف لها غير” أغالب دمعي” ، وهي تشبهني في هذا المحفل الكبي :
أنا الصابرة عليك ياهم
انا الوافي وهوايا بعيد
زمان قالوا الغرام قسمة
حقيقة القسمة ما بالإيد
مصير الحي يعود تاني
يهل في ديارنا أجمل عيد
في الساحة الطويلة لا العريضة اجتمعت أطياف الشعب السوداني كله ، كيف لشعب في مهجر بعيد أن يقيم صيواناً يكون أول مافيه السندويشات المجانية والماء الذي يناولك إياه كل أحد ، صفان لصلاة العصر، بروفيسور يمسك يد شابين في أول العمر، يسألهما عن دراستهما وينصحهما بالجد والاجتهاد معرباً عن سعادته بحفاظهما على صلاة العصر.
دخلت الحضرة دخول الدرويش المتنكر، ثلاث أوطان في الدنيا تسع الناس كل الناس ملامحهم ، لفرط اتساع الجغرافيا في البرازيل، يفتخر البرازيليون على الآخرين بأنه لا وجه للبرازيلي ، كل وجوه الدنيا يمكنها أن تضع صورتها على جواز السفر دون أن يوقفها أحد، أمريكا كذلك ، يمكنك بالميلاد أو بمبلغ مالي معين أن تقول أنا من أمريكا، بعيداً عن الأمريكيتين لا يستطيع أن يتحمل كل الملامح في افريقيا الشمس سوى السودان الكبير، السودان الحنيِّن كنخلة مايلة على الشط عصر الجمعة في مدني.
ساحة طويلة طول الظل في العصرية، أمشي وأتبسم واقول للدنيا كل الدنيا ” ديل أهلي ” ، مافي زول سألني انت من وين وكل زول سلامه سلام راجع بالسلامة صباح العيد ، وانا في فمي محمد عبدالحي لو زول سألني : أجابك شنو، أقوله :
أنا منكم.. جرحكم جرحي
وقوسي قوسكم.
وثنيٌ مجَّد الأرضَ وصوفيٌّ ضريرٌ
مجَّد الرؤيا ونيران الإلهْ.
وأنا أمشي بين الجموع الحارة ، يصلني صوت الزار وخيالي خيال الراكب في حافلة تقطع الصحافة زلط ، كأني قد قابلت كل الحاضرين من قبل ، كأني في مأتم صديق، عرس زميلة في لفة الشجرة أو بري ، الوجوه وجوه ركاب بناصية الميناء البري ، العيون مألوفة، الأكتاف حنينه حتى لما كتفك يضرب بكتف زول أو زولة ما تحتاج أبدا تتلفت أو تعتذر، مرة أخرى محمد عبدالحي يطل من سنار في رأسي :
افتحوا الليلة أبواب المدينة
– “بدوىُّ أنتَ؟”
– “لا”
– ” من بلاد الزَّنج؟”
– “لا”
أنا منكم. تائهٌ عاد يغنِّي بلسانٍ
ويصلَّي بلسانٍ
وأنا ذائب في الحضرة تمتد يد لكتفي، الشاعر الذي ينسى أن يأكل وقد خرجنا مسرعين من الشوق يناولني سندويشة ملفوفة بكيس بلاستيكي بالحب ، أسأله ما هذا ؟
انت عارف السودانيين ، حلفوا علي ، وهاك الموية الباردة .
يعرف عبدالباري أني لا أحسده في الدنيا إلا على رضى أمه التي هي أمي ، وعلى أنه ينتمي للبلد الوحيد الذي أغار من كل من ينتمي إليه ، أن تكون سودانياً أي أن تجمع في عطفيك كل محبة الناس وعشرة من المحاسن دون أن تحتاج إلا لفضيلة أن تقول : الله يسلمك ، وشكرا ، وربنا يديك الصحة والعافية.
اقتربنا من المسرح المكتظ بالناس والأعلام، في زاوية الخشبة وقف رجل قصير يشرح لأهل لغة الإشارة كل ما يحدث على الخشبة، بين كل فاصل وآخر، يصعد رجل مستعجل دائما ينادي :
إخوانا الجايين من فرجينيا ، الباص واقف في الفرست أفنيو، عليكم الله ما تنسوا السندويشات والمويه وانتو راجعين ، أنا بعرف الناس لمن تجوع في الباص !
هذا الإغراق في البساطة والمحلية مع الانتباه لكل التفاصيل الصغيرة حتى في قلب مانهاتن شيء لا يحسنه أحد مثل السودانيين ، ومن عاشرهم يعرف أهمية ” الترحيل” وحنو الأمهات بالسندويشات التي لا تجعلك محتاجاً لشيء وأنت في طريق الطريق.
شطر محمد – الذي يعاف ويمنع نفسه الخبز كثيراً – الساندوتش لنصفين، ناولني النصف المحشو بالمرتديلا وقضم لأول مرة سندوتشا في الشارع وأمام الناس ، لقد عدنا طفلين ياصاحبي ، في حناجر الغاضبين تولد المعاني ، وفي ساحات الغضب يصبح الرغيف أشهى من سمك الموردة.
تسقط تسقط من كل اتجاه ، تسقط بس من فوق ومن تحت وعن يمين وعن شمال ، شباب يرتدون قمصاناً كتب عليها : تسقط بس ، عم شديد الزرقة كبير البطن تكاد سرته تبان لارتفاع التي شيرت المكتوب عليه أيضا : تسقط بس ، فتيات يربطن العلم – علم الاستقلال – على أكتافهن ، وعلم أصفر وأزرق وأخضر لأول مرة في حياتي أراه يحمله كبار السن والخالات ، سألت محمداً عنه، فقال لي : هذا علم الاستقلال.
لعنت البشير في سري ، قبح الله رجلا لشناعة فعله جعل الناس تختار لحظة ماقبل الاستقلال كلحظة صفرية لآمالهم ، ليس من السهل أبداً أن تصبح مطالب شعب كامل من ثورة استمرت لثلاثين عاما فقط حق الترجل والنزول من هذه الحقبة التعيسة، أعيدونا إلى ما قبل الاستقلال وخذوا أعلامكم وأسمائكم و بنيكم وبناتكم، فقط اتركونا وبس ، تسقط وتسقط بس !
في الساحة أمهات كبيرات في السن اخترن المقاعد الأمامية ، أباء كلما فتح أحدهم شاشة هاتفه رأيت الخلفية علم السودان، شباب بضفائر واخرون تعرف من وجوههم أنهم ولدوا في بلاد تموت من البرد حيتانها لكنه السودان يا أبتي، وطن الشموس ووهج النفوس ، صبايا في عمر الورد يجمعن ما يسقط هنا وهناك كي تبقى الساحة نظيفة كحوش البيت ، أطباء يقفون في زاوية بعيدة وعيونهم على الأخبار الواردة من الخرطوم، وشباب لا يأبهون بما يحدث على المسرح المجدول ، غارقون في الربة ، تارة يغنون لابوعركي :
ينكسر سور الموانع
وتبدأ أعراس المزارع والمصانع
وتوصل الناس الروائع
كانت شهوة الميكرفون حاضرة على المسرح ، فصعد – رجل غتيت – كما يقول أهلنا السودانيون ليخبرنا عن رجل أبيض متعاطف سيلقي كلمة على الجموع ، تأدب السودانيون مع الغريب لدقائق، حتى بدأ في الحديث عن التطهير العرقي وتسليم البشير لمحكمة العدل الدولية ، فعلم الناس أنه متعاطف قديم العهد بأخبار السودان فعاد الناس لهتافاتهم :
حرية سلام عدالة
والثورة خيار الشعب
وهمس شماس لصاحبه خلفي :
عليكم الله نزلوا اللوطي دا !
لم أمسك نفسي من الضحك ، محروم من لم يعش بين السودانيين ولم يضحك على شماراتهم.
أقبل علينا سائق حافلة بنظارة شمسية ودون مقدمات بشرنا بأن البشير سيتنازل بعد ثلاثة أيام عن منصبه، سأله شاب تبدو عليه أمارات النجابة :
مصدرك منو ياعمك ؟
ود أخوي !
غريب تعلق الناس بأي أمل لترجل البشير عن الكرسي ، بجانبي بدأ حوار مقتضب، شاب ساخر من زميل أمريكي ينسب خروج السودانيين اليوم لانتصار ثورة الجزائريين ، ويضحك قائلا :
الخواجة ما جايب خبر انه السودانيين كانوا مشغولين بالإسراء والمعراج وفعاليات الشكينيبة وأنه أهلنا ما جايبين خبر أصلا الجزائر دي وين وبيحصل فيها شنو !
فهم صاحبنا الخواجة أن كلمته لم تجد آذانا صاغية ، والجمهور يطالب بعودة سميرة دنيا لقلب الحدث ، لكن مقدم الحفل – وأكره فعلا مقدمي الحفلات والمنظمين الذين يخيبون آمال الجماهير كرهي للسلطة المطلقة – قدم ورقة طويلة عن مناضلة لا يعرفها أحد ، مناضلة نجت من محرقة في قرية التفت الناس لبعضهم حين ذكرت ، مناضلة نالت جائزتين من الخارجية الأمريكية ، وظهرت على غلاف مجلة ألمانية لتلقي كلمة على المتظاهرين، تعرف هؤلاء الذين لم يسمع بهم غير الصحفي الذي بنى القصة المعتادة، فخرجت تهتف : يا أهل الجنوب ، يا أهل الشمال ، يا أهل الوسط …. الخ
لأنها بدأت بطريقة خاطئة ، إذ لا يمكن أن يوحد السودانيين في هذه المرحلة سوى نداء : أنا سوداني ، فقد عاقبها الشباب الواقفون في زاوية الربة بأن سرقوا منها الضوء بأقدم طريقة ، أغنية لمصطفى سيد أحمد – رحمه الله – وفي المكان والزمان المناسب :
ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻧﺤﻦّ ﻣﻊ ﺍﻟﻄﻴﻮﺭ..
ﺍﻟﻤﺎ ﺑﺘﻌﺮﻑ ﻟﻴﻬﺎ ﺧﺮﻃﺔ
ﻭﻻ ﻓﻰ ﺇﻳﺪﺍ ﺟﻮﺍﺯ ﺳﻔﺮ
ﻧﻤﺸﻰ ﻓﻰ ﻛﻞ ﺍﻟﻤﺪﺍﺋﻦ
ﻧﺒﻨﻰ ﻋﺸﻨﺎ ﺑﺎﻟﻐﻨﺎﻭﻯ
.. ﻭﻧﻨﺜﺮ ﺍﻷﻓﺮﺍﺡ .. ﺩﺭﺭ
ﻭﺍﻟﺮﺑﻴﻊ ﻳﺴﻜﻦ ﺟﻮﺍﺭﻧﺎ
ﻭﺍﻟﺴﻨﺎﺑﻞ ﺗﻤﻼ ﺩﺍﺭﻧﺎ
ﻭﺍﻟﺮﻳﺎﺣﻴﻦ .. ﻭﺍﻟﻤﻄﺮ
وعندما استمرت المناضلة التي لم يعرفها أحد، انتقلنا جميعا إلى الكوبليه الثاني:
ﺇﻻّ ﺑﺎﻛﺮ ﻳﺎ ﺣﻠﻴﻮﺓ
ﻟﻤـّﺎ ﺃﻭﻻﺩﻧﺎ ﺍﻟﺴﻤﺮ
ﻳﺒﻘﻮﺍ ﺃﻓﺮﺍﺣﻨﺎ ﺍﻟﺒﻨﻤﺴﺢ ﺑﻴﻬﺎ ..
ﺃﺣﺰﺍﻥ ﺍﻟﺰﻣﻦ
ﻧﻤﺸﻰ ﻓﻰ ﻛﻞ ﺍﻟﺪﺭﻭﺏ
ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ .. ﺩﻳﻚ
ﻭﺍﻟﺮﻭﺍﻛﻴﺐ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮﺓ .. ﺗﺒﻘﻰ ﺃﻛﺒﺮ
ﻣﻦ ﻣﺪﻥ
ﺇﻳﺪﻯ ﻓﻰ ﺇﻳﺪﻙ ﻧﻐﻨﻰ
ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻧﺤﻦّ .. ﻣﻊ ﺍﻟﻄﻴﻮﺭ
ﺍﻟﻤﺎ ﺑﺘﻌﺮﻑ ﻟﻴﻬﺎ ﺧﺮﻃﺔ
ﻭﻻ ﻓﻰ ﺇﻳﺪﺍ ﺟﻮﺍﺯ ﺳﻔﺮ
فور نزول الأخت المناضلة من الخشبة، استغل سائق الباص الساخر الفرصة كي يرسل تحية لكل الكنداكات في شمال السودان وجنوبه وفي كل بقعة بالوطن الكبير ، لم يستثن شاعرة كانت رمزاً- إلى قبل قبولها منصب وزارة الثقافة – في التوقيت الخطأ- لتسقط من عين الشعب والقصيدة ، وتصبح أول امرأة في تاريخ السودان تجمع بين نقيضين مرة واحدة : أول وزيرة ثقافة وأول سودانية تتخلى عن أن تكون كنداكة كما اختار لها الشعر وتوجتها القصيدة، وآسفاه !
مرة أخرى :
حرية سلام وعدالة
والثورة خيار الشعب
كانت شمس مانهاتن تتهادى عندما أبصرت في الجموع صديق الطفولة وشقيقي الكبير د ياسر محجوب ، لم أتوقع يوما أن يخرج ياسر من بروكلين ليصل مانهاتن، فوالده مؤسس قسم الأمراض النفسية بجامعة الملك فيصل بالدمام وهو طبيب نفسي في بروكلين وإخوانه أطباء وزوجته أيضا طبيبة، وكلما اجتمعنا في بيته العامر ببروكلين ندب حظ السودان وسألني ببساطة : هل من المعقول أن يكون السودان الذي تعرف إمكانياته غير متسع لي وهو الذي لم يتسع لوالدي رحمه الله ، بل وكل أمنياتي أن تجد فيه ابنتي رندا تعريف الوطن الحقيقي ولو بعد حين ، حضنت ياسر الذي يذكرني بالسودان الذي يشبه تراب الأرض ، واللون الأصفر والأحمر ، وكل شيء عدا شجرة الحراز التي تشبه نظام الإنقاذ و طغمته الحاكمة.
خمسة أعلام تبدأ بالأزرق وتنتهي بالأصفر ترفرف عالياً على المسرح ، زول يمازح صاحبه :
الزول العقيم قالوا مقفل الأبواب وجالس بالقصر براه !|
وارتفعتْ من عتمةِ الأرضِ
مرايا النّارْ
وها هيَ الآن جذوع الشّجر الحيِّ
ولحم الأرضِ
والأزهارْ
قبل أن يبدأ النشيد الوطني صعد السائق الذي يعرف جوع الناس في الباصات ليشكر الناس السمحة الجت من بعيد ويذكر بأماكن الباصات المتجهة للولايات البعيدة، حيا شرطة نيويورك التي قدمت كل ما يلزم لنجاح مسيرة السادس من أبريل ، ودون سابق إنذار طلب من الناس أن يلقوا قناني المياه الفارغة مع عمر البشير ونافع علي نافع والتعيس عطا وأسماء كثيرة من نظام الإنقاذ وين ؟
ردت الجموع الساخرة في عز الغضب برد واحد :
في مزبلة التاريخ !
بصوت واحد يملأ جنبات السكند أفنيو، وقفنا جميعا تحت شمس الغروب والأيادي على القلوب :
هذه الأرض لنا
فليعش سوداننا
علماً بين الأمم
يا بني السودان
هذا رمزكم
يحمل العبء
ويحمي أرضكم
تسقط تسقط .. تسقط بس .. كانت المقطع الأخير الذي أضافه الثوار الغاضبون لنشيد العلم.