مرة أخرى تعود قضية وجود حزب العمال الكردستاني (ppk) في مناطق شمال العراق إلى الواجهة، لتلقي بظلالها على المشهد العسكري والسياسي في تلك المنطقة، ولتختبر مرة أخرى مدى نجاح تركيا في حربها ضد هذا الحزب، وتختبر كذلك جدية كل من إيران والولايات المتحدة في تصنيفها لهذا الحزب كمنظمة إرهابية حسب ما تعلنانه رسميًا.
انتهى شهر العسل الذي شهدته مناطق جنوب تركيا، بعد انهيار مباحثات السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال عام 2015، وشنت تركيا حربًا كبيرة على هذا الحزب في تلك المناطق، مما جعل مسلحي الحزب يتقهقرون وينسحبون إلى قواعدهم في جبال قنديل شمال العراق، انتقلت الحرب بعد ذلك إلى هناك، لتستهدف الطائرات التركية مقرات الحزب وتشل تحركاته، لكن ما فات القيادة التركية أن تراعيه، هو عدم محاصرتها لعلاقات هذا التنظيم الإرهابي بدول الجوار والدول الكبرى التي تسعى لتقويض الوضع الداخلي التركي وإبقاء حالة الحرب بين تركيا وهذا الحزب مستعرة دون أفق لنهايتها، بسبب امتعاضها الشديد من سياسة حزب العدالة تجاه الغرب بشكل عام وتجاه “إسرائيل” بشكل خاص، ناهيك عن بعض توجهاته الإسلامية.
لم يستطع الجيش العراقي الرد على تلك الحادثة التي أضعفت موقفه وقللت من هيبته العسكرية، وهو يتلقى ضربات مهينة من هذا الحزب وعلى أرض عراقية
استطاع حزب العمال الكردستاني، وبشكل ناجح، اللعب على تناقضات المصالح في الحرب الدائرة في سوريا منذ ثماني سنوات، واستطاع اللعب على حالة الفوضى السياسية والعسكرية في العراق منذ الاحتلال الأمريكي لهذا البلد، وما الحادثة الأخيرة التي حدثت في سنجار، وقُتل وجرح فيها عدد من الجنود العراقيين على يد مسلحي حزب العمال في 18 من الشهر الماضي، إلا مثال يدلُّ بشكل واضح على حجم الدعم والمساندة التي يتلقاها هذا الحزب، وإلا كيف كان له أن يقدم على مثل هذا الفعل، لو كان في حالة استضعاف؟
الجيش العراقي عاجز عن الرد على حزب العمال
لم يستطع الجيش العراقي الرد على تلك الحادثة التي أضعفت موقفه وقللت من هيبته العسكرية، وهو يتلقى ضربات مهينة من هذا الحزب وعلى أرض عراقية، وكل ما استطاع أن يفعله الجيش العراقي هو إعطاء مهلة لخروج عناصر الحزب من سنجار، قدرها ثلاثة أيام، لكن المهلة انقضت منذ أكثر من عشرين يومًا ولم ينسحب مسلحو الحزب، ولم يقدم الجيش العراقي على أي عمل عسكري ضده، مما جعل الجيش بموقف محرج ومخجل لا يحسد عليه.
ومن الواضح أن الجيش العراقي مكبَّل بقرارات قيادته السياسية في بغداد، التي هي الأخرى لا تستطيع البت بأمرٍ بمثل هذا المستوى، دون أخذ المشورة الإيرانية لكي ترسم لها التصرف والأسلوب الأمثل، وبما يتناسب مع المصلحة الإيرانية، فالأخبار التي وردت ونشرتها أكثر من صحيفة، بأن القيادة الإيرانية ومن خلال أدواتها الفاعلة على الأرض العراقية، وبمعزل عن القيادة العراقية، احتوت الموقف لتصل إلى تسوية لا تؤثر على وجود الحزب في العراق، وبنفس الوقت تعززه وتقويه لاستخدامه فيما بعد، كورقة ضغط إيرانية تجاه الدولة التركية.
فقد قام فريق أمني إيراني بلقاء قيادات من حزب العمال، لإقناعه بتسليم عناصرهِ الذين قتلوا الجنود، مقابل انسحابٍ أمنٍ من سنجار، تجاه السليمانية المسيطر عليها من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وهو حزب حليف تاريخي لإيران في كردستان العراق، لكن حزب العمال رفض تسليم عناصره القتلة، ووافق مبدئيًا على فتح مقرات له في السليمانية، ولم نر على الأرض ما يشير أن الحزب عازم على مغادرة سنجار والقرى والجبال المحيطة بها، بل العكس هو الذي يحصل الآن، فهو يعزز مقراته وقواعده بالمدينة بقوات إضافية، وكأنه يتحضر تحسبًا لأي طارئ عسكري يمكن أن يحدث في المنطقة.
رغم أن الولايات المتحدة تُصنف هذا حزب العمال على أنه منظمة إرهابية، نجدها تدعمه نكاية بالحكومة التركية
إن التلاعب والخداع عند حزب العمال هو سجية راسخة فيه، فقد ادعى بأنه سحب قواته من سنجار قبل أشهر، عندما أعلنت تركيا عزمها ضرب قواعد هذا الحزب هناك، لكنه لم يخرج كما ادعى، وحينما أُخليت مقراته في السليمانية قبل فترة، بضغط تركي على حزب الاتحاد الكردستاني، نجده الآن يعود للمدينة باتفاق إيراني كردي، دون إخلاء مقراته في سنجار، ويجري كل هذا بعيدًا عن حكومة بغداد التي تقف متفرجة على ما يحدث.
أمريكا وإيران تدعمان حزب العمال لتحاربا به تركيا
رغم أن الولايات المتحدة تُصنف هذا حزب العمال على أنه منظمة إرهابية، نجدها تدعمه نكاية بالحكومة التركية ومحاولة منها لإسقاط حزب العدالة والتنمية الذي تراه واشنطن سحب تركيا بعيدًا عن الامتثال لسياستها، كما كانت تفعل معظم الأحزاب التركية فيما سبق، فالمعلومات تؤكد أن حزب العمال تلقى دعمًا أمريكيًا لبناء قواعد مؤقتة له بالمنطقة، وهي تدعم “قوات سوريا الديمقراطية” في شمال شرق سوريا بحجة محاربة داعش، والجميع يعلم أن جميع المساعدات العسكرية وغير العسكرية لتلك القوات ينتهي بها المطاف إلى حزب العمال الذي يخوض حربًا مع الدولة التركية، بالإضافة إلى غض النظر الأمريكي عن وجود مليشيات موالية لهذا الحزب في سنجار تدعى أنها “قوات لحماية سنجار”.
حزب العمال استغل الفوضى التي حدثت بعد احتلال داعش لمناطق شاسعة من العراق، ليقوي نفوذه في المناطق الكردية التابعة لمحافظة نينوى، فقد انتقل ما يقارب ألف عنصر من عناصره من جبال قنديل إلى سنجار للمشاركة في محاربة داعش
بنفس الوقت تدعم إيران حزب العمال، وهي بذلك تشن حربًا غير معلنة على تركيا، وهناك شواهد عديدة على هذا الدعم الذي يأخذ شكل الدعم المباشر وغير المباشر، من خلال مليشيات الحشد الشعبي الذي يمد عناصر حزب العمال بالمال والسلاح من ميزانية الحشد الملياريَّة، والسبب في ذلك أن إيران تضررت كثيرًا من تركيا في الساحة السورية، حينما دعمت تركيا فصائل الثورة السورية ضد نظام الأسد، كما أن العلاقة القوية التي وطدتها تركيا مع روسيا، سحبت البساط من إيران لتتركها وحيدة دون الدعم الروسي لها في سوريا، وبالتالي فإن من مصلحتها أن تفتح على تركيا جبهة مفتوحة من المواجهات مع حزب العمال الكردي، نكاية بها، بل إن المطالبات العراقية بإخراج القوات التركية من شمال العراق، هي قضية تقف وراءها إيران بشكل واضح.
تركيا فوتت على نفسها فرصة فرض وجودها بالعراق
حزب العمال استغل الفوضى التي حدثت بعد احتلال داعش لمناطق شاسعة من العراق، ليقوي نفوذه في المناطق الكردية التابعة لمحافظة نينوى، فقد انتقل ما يقارب ألف عنصر من عناصره من جبال قنديل إلى سنجار للمشاركة في محاربة داعش، وبموافقة عراقية وكردية وحتى أمريكية، ما مكنه من إنشاء مليشيات موالية له من سكان المدينة، بعد طرد داعش من سنجار، التي هي صورة عن حزب العمال، وجعل الحدود السورية العراقية القريبة من سنجار مفتوحة لعناصره في العراق وعناصر قسد التي اصطنعتها في سوريا، يتحركون فيها كيفما يشاؤون.
فيما الأتراك الذين صعَّدوا لغة خطابهم قبيل الهجوم على داعش في مدينة الموصل، أصروا على دخول المعركة عسكريًا، لكن سرعان ما فترت حماستهم، فلا هم دخلوا بشكل مباشر ولا هم دعموا العراقيين من أبناء الموصل ليشاركوا بتلك المعركة، وليكون لهم دور في فترة ما بعد الانتهاء من داعش، وتجربة القوات التابعة لأثيل النجيفي التي أشرفت القوات التركية على تدريبها، كانت تجربة فاشلة بامتياز، فكانت النتيجة أن سيطرت إيران على الموصل وكل مناطق محافظة نينوى، بواسطة المليشيات، فيما سيطر حزب العمال على مناطق أخرى من المحافظة، فبعد أن كانت إيران لا تمتلك نفوذًا يذكر في تلك المناطق، أصبحت هي الآمر الناهي فيها الآن، أما تركيا فهي خارج المعادلة حاليًّا.
تدخل الجيش التركي بشكل مباشر بالعراق، يلقي بضلال دعاوي التدخل الأجنبي، ويجعل موقفها السياسي ضعيفًا، ويقلل التعاطف الشعبي العراقي معها، على عكس إيران التي فهمت اللعبة بشكل جيد
لقد أخطأت تركيا كثيرًا حينما وضعت بيضها كله في سلة آل النجيفي الذي فشل في إدارة الصراع في تلك المناطق، وكان المفترض بتركيا، البحث عن فاعلين آخرين على الأرض، لتضمن وجودًا حقيقيًا لها في نينوى ومناطق عراقية أخرى.
تركيا نجحت في أراضيها وفشلت في كردستان العراق
تركيا نجحت في القضاء على عناصر هذا الحزب في مناطقها ذات الغالبية الكردية، واستطاعت أن تكسب التعاطف الكردي مع حزب العدالة والتنمية، وانتخبه الشعب الكردي في العديد من المدن الكردية، لكنها فشلت في معالجة وجود حزب العمال العسكري في العراق وسوريا، لأنها غالبًا ترتكب نفس الخطأ حينما تحاول حسم تحدياتها بالقوة العسكرية، بشن الغارات الجوية والوجود العسكري البري، وهذا ما نراه في شمال العراق وشمال سوريا، وكان الأولى بتركيا، صنع أدوات فاعلة لها ودعم المتضررين من وجود حزب العمال ومن داعميه.
فبدلاً من دخول قوات برية لشمال العراق، كان يمكنها دعم الكرد العراقيين في محاربة هذا الحزب، ودعم العرب المتضررين منه ومن المليشيات الطائفية التابعة لإيران في الموصل وكركوك، كذلك دعم أحزاب مناهضة لإيران في دائرة صنع القرار في بغداد، ذلك لأن تدخل الجيش التركي بشكل مباشر بالعراق، يلقي بضلال دعاوي التدخل الأجنبي ويجعل موقفها السياسي ضعيفًا ويقلل التعاطف الشعبي العراقي معها، على عكس إيران التي فهمت اللعبة بشكل جيد، فهي تسيطر على العراق بشكل عملي وتقاتل أعداءها فيه، من غير أن تُدخل جندي إيراني واحد، وتقاتل بميليشياتها، وتفرض نفسها سياسيًا بأحزابها المسيطرة على العملية السياسية في بغداد.