توقفت سهام الحرب العسكرية وانطلقت سهام الحرب الاقتصادية، جملة تصف المشهد السوري الراهن وتحكي عن حال السوريين الذين قُدِر لهم أن يعانوا على الأصعدة كافة، فلم يكد الناس يفرحون بحصول أمان “نسبي” في منطقة إدلب المحررة بفعل اتفاق سوتشي منتصف سبتمبر/أيلول من العام الآفل، حتى نغصت عليهم فرحتهم بل خنقتهم أزمة اقتصادية كانت نتيجة لمقدمات عدة، منها ما هو قديم ومنها ما هو جديد، ويمكن القول إن العقوبات الدولية هي من أوجدت العوامل التي أوصلت الناس إلى ما وصلوا إليه.. فكيف حصل ذلك؟
قانون حماية المدنيين
بعد أن فرضت وزارة الخزانة الأمريكية في الـ20 من نوفمبر/تشرين الثاني 2018 عقوبات على 6 شخصيات و3 شركات متورطة بتوريد النفط الإيراني إلى النظام السوري، صوت مجلس النواب الأمريكي على تفعيل قانون سيزر أو ما يعرف بقانون قيصر، نسبة إلى ضابط منشق عن النظام السوري سرب نحو 55 ألف صورة لـ11 ألف معتقل قتلوا تحت التعذيب، وقالت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي في بيان لها في 22 من يناير/كانون الثاني: “المجلس صوت على تفعيل قانون سيزر لحماية المدنيين السوريين لعام 2019 من أجل فرض عقوبات جديدة على حلفاء سوريا في مجالات الطاقة والأعمال والنقل الجوي”.
تبعًا لذلك، أصاب مناطق نفوذ النظام ارتفاع مهول في أسعار المحروقات بحيث صار الحصول على جرة غاز واحدة – بسعر فاحش – إنجازًا كبيرًا، ولعل الكثيرين شاهدوا ظاهرة الوقوف على طوابير الغاز وما صاحبها من أجواء، حتى غدت مادة خصبة لصنع سكتشات كوميدية، شعبية واحترافية!
حذر الملحق التجاري لدى السفارة الأمريكية بعمان، خلال اجتماعه بعدد من التجار الأردنيين من توجيه تجارتهم نحو سوريا، وطلب منهم الالتفات نحو العراق
لاحقًا، وبعد مضي أسابيع قليلة على تفعيل هذا القانون، امتدت موجة غلاء الأثمان لتطال أنواعًا من السلع الرئيسة في حياة الناس، منها الخضراوات والفروج النيء، وذلك لسببين، أولهما: انخفاض قيمة الليرة السورية مقابل الدولار، وثانيهما: توقف معظم التجار، شركات وأفراد، عن التعامل مع النظام السوري خوفًا من أن تضربهم يد سيزر، فالقانون لا يحصر العقوبات في مجال الطاقة والأعمال والنقل الجوي كما صرح بيان لجنة الشؤون الخارجية المذكور أعلاه، ولا حتى قطع غيار الطائرات أو من يشارك في مشاريع البناء والهندسة التي يقوم عليها النظام، بل يشمل كل شخص أو جهة أو شركة تتعامل مع الحكومة السورية، أو توفر لها التمويل، أو تتعامل مع المصارف الحكومية، بما فيها المصرف المركزي السوري.
وتأكيدًا على هذا الحظر، حذر الملحق التجاري لدى السفارة الأمريكية بعمان، خلال اجتماعه بعدد من التجار الأردنيين من توجيه تجارتهم نحو سوريا، وطلب منهم الالتفات نحو العراق، وأكد المسؤول الأمريكي قائلاً: “من سيتعامل مع سوريا (النظام) بعلاقات تجارية عليه أن يتحمل تبعات ذلك، بما في ذلك تطبيق قانون قيصر الأمريكي”، حسب ما صرحت به النائبة الأردنية وفاء بني مصطفى لوكالة الأناضول بداية مارس/آذار الفائت.
وكان من تداعيات هذا الأمر أن تراجعت الصادرات الأردنية إلى سوريا بنسبة 69% مقارنة بالعام الماضي، وفق إحصاءات أردنية رسمية، وربما يقول قائل: ما علاقة العقوبات الدولية على النظام ومشكلة الاستيراد والتصدير التي تحيط به وانخفاض قيمة الليرة؟ وما علاقة ذلك بأزمة المناطق المحررة؟! أليست منطقتا النظام والثورة منفصلتين سياسيًا وإداريًا، نجيب عن هذا في الفقرة الآتية.
للمناطق المحررة نصيب كبير من مفاعيل القانون
نعم، إن المنطقتين منفصلتان عن بعضهما من حيث السياسة والإدارة، ولكن بينهما ارتباطات اقتصادية لا تخفى، فانخفاض قيمة الليرة أمام الدولار بسبب العقوبات على النظام وخسارتها نحو 10% من قيمتها يؤثر على الناس في المناطق المحررة كون الاستيراد من المعابر الحدودية قائمًا على الدولار بينما معظم مداخيل الناس بالليرة السورية، وأيضًا نقص المواد والسلع بمناطق سيطرة النظام إثر حظر الاستيراد الخارجي دفع إلى استيرادها من المناطق المحررة رغم عدم وجود الاكتفاء في هذه المناطق أصلًا!
رغم توقف معظم محطات توليد الكهرباء في مناطق سيطرة النظام عن العمل، إضافة إلى التراجع الحاد في التجارة البينية مع الأردن، لا يمكن اعتبار هذه الإجراءات أداةً حاسمة في إسقاط النظام
إذًا، ارتفع سعر بعض السلع بنسبة 30% وذلك كالفروج النيء، وبعضها إلى نحو 50% كالبصل، بل إن بعضها (البندورة) وصل إلى ضعف القيمة بالتمام، وإذا أضفنا إلى هذا تفشي البطالة ونقص السيولة بأيدي الناس وتخوُف المستثمرين من تنفيذ المشاريع التجارية كون المستقبل السياسي مجهولًا، وارتفاع معدلات الفقر لعام 2018 إلى نسبة قياسية بلغت 85% حسب فريق “منسقو الاستجابة”، ندرك وقتئذ أن قانون “سيزر” قد زاد طين الأزمة بلة ولم يمس – في الوقت الحاليّ – سوى الشعب المتعثِر.
هل يسقط قانون سيزر نظام الأسد؟
رغم توقف معظم محطات توليد الكهرباء في مناطق سيطرة النظام عن العمل، إضافة إلى التراجع الحاد في التجارة البينية مع الأردن، فضلًا عن اضطراره لشراء النفط والقمح بالعملة الصعبة بعد أن قطعت عليه الولايات المتحدة الأمريكية طريق السيطرة على المنطقة الشرقية الغنية بهاتين المادتين، رغم ذلك كله – ما ذكرنا منه وما لم نذكر – لا يمكن اعتبار هذه الإجراءات أداةً حاسمة في إسقاط النظام، ولا تعدو أن تكون عامل ضغط عليه على المدى الطويل.
مع ذلك، فإن الملابسات المتعلقة بهذا القانون المتمثلة بصدوره بعد فترة ليست بالطويلة من مؤتمر سوتشي الذي منع روسيا من الهجوم الكاسح على إدلب وفرض الحل الذي يبقي النظام على حاله دون أي تغيير، وأيضًا قيام السفارات الأمريكية في الدول العربية والمحيطة بسوريا على وجه الخصوص بتوجيه إنذار شديد اللهجة بوقف كل تعاملاتها التجارية مع النظام ووقف أنشطة شركاتها الاستثمارية التي كانت تتحضر للدخول إلى سوريا والمشاركة في مشاريع إعادة الإعمار، يضاف إليه تصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون عن غرق روسيا في سوريا، هذه الملابسات توحي بأن قانون سيزر هو لاعب مهم في الخطة الأمريكية للحل في سوريا التي تتركز حول إخراج بشار الأسد من السلطة، وإيجاد حكومة جديدة تحقق الاستقرار والسلام المستدام.
هل تنسجم رؤية الحل الأمريكية مع رغبات وتطلعات الثائرين في سوريا؟ أزعم أن الجواب هو “كلا“ كبيرة جدًا، إذ لا يُرتجى من الشوك العنب، وتعامل أمريكا مع الثورة بعد سنين من اندلاعها خير بيان وأظهر برهان
وقد ذُكرتْ هذه الأهداف صراحة في البيان الذي أصدره البيت الأبيض في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 تأييدًا لمشروع القانون في ذلك الوقت: “سيساعد مشروع القانون هذا على توفير المزيد من النفوذ لتحقيق أهداف حكومة الولايات المتحدة لتهدئة الحرب في سوريا ودعم عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة، والانتقال إلى حكومة في سوريا تحترم إرادة الشعب السوري”.
فهل تنجح الولايات المتحدة الأمريكية بتحقيق مساعيها تلك؟ وهل تنسجم رؤية الحل الأمريكية مع رغبات وتطلعات الثائرين في سوريا؟ أزعم أن الجواب هو “كلا“ كبيرة جدًا، إذ لا يُرتجى من الشوك العنب، وتعامل أمريكا مع الثورة بعد سنين من اندلاعها خير بيان وأظهر برهان.