كيف أشعلت الأغاني الثورية روح الاحتجاجات السودانية؟

“لو خوفنا راح.. رااااح.. وطريقنا مرصوف بالصباح ومشينا للحرية صاح.. لا بد أكيد.. ومهما طال الليل ضناهو الفجر جاي.. وضياهو عيد ونعود عزاز زي مامضى… ونفوسنا يرويها الرضى”
ترجمت أحلام السودانيين العريضة، نقلت لنا آلامهم وآمالهم، عبرت عن حلمهم بالحرية والكرامة وواكبت جميع تفاصيل أيام الاحتجاجات، إنها الأغاني الثورية السودانية التي ما زالت تصدح في جميع مدن السودان لتجسد أحد أهم أدوات الاحتجاجات الشعبية السودانية التي انطلقت في 19 من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
ففي مرحلة مبكرة من الاحتجاجات أيقن الثوار السودانيون أن مسيراتهم المطالبة بإسقاط نظام البشير لن تكتمل دون أغانٍ ثورية تلهب حماس المشاركين وتكون إنتاجًا ثقافيًا لثورتهم، ومن أشهر الأغاني التي ظهرت في أيام الاحتجاجات الأولى “الحس كوعك ولملم حرسك غفرك.. قسمًا عظمًا ناخد حقنا رغم دروعك”.
السودان وتاريخ طويل من الغناء في الثورات
“أصبح الصبح.. فلا السجن ولا السجان باق.. وإذا الفجر جناحان يرفان عليك
وإذا الحزن الذي كحل هاتيك المأقي.. فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي”
تعد أغنية “أصبح الصبح” من أشهر أغاني ثورة 21 من أكتوبر 1964 تلك الثورة التي أسقطت حكومة الجنرال إبراهيم عبود وتلاحم فيها الشعب السوداني بكل أطيافه وأعراقة وأديانه وألوانه، يومها خرج الشعب السوداني من أجل إسقاط الحكم العسكري وإرجاع الجيش إلى ثكناته العسكرية في خطوة كانت تجسد وعيًا مبكرًا عن كثير من الشعوب العربية التي كانت تصدق حينها في الثورات العسكرية.
بدأت قصة ثورة أكتوبر 1964 حين اقتحمت قوات الأمن السودانية حرم جامعة الخرطوم من أجل تفريق ندوة كانت تحمل عنوان “المعالجة الدستورية لمشكلة جنوب السودان” حينها هاجم المشاركون في الندوة النظام العسكري واتهموه باتباع سياسات غير صحيحة في جنوب السودان، وفي اليوم التالي لاقتحام قوات الأمن قرر الطلاب القيام بمظاهرة ينددون من خلالها بتعدي قوات الأمن على الجامعة مع تقديم مذكرة توضيحية طالبوا فيها مدير الجامعة ووزير الداخلية بحماية الجامعة من اعتداءات الأمن، ولكن قوات الأمن اعتقلت الطلاب الذين قدموا المذكرة، فاشتعلت المظاهرات في المدن الجامعية للطلاب وفي أثناء محاولات قوات الأمن تفريق المتظاهرين قتلت الطالب أحمد القرشي الذي جسد مقتله شرارة الثورة الأولى.
خلال تلك الثورة أيضًا غنى السودانيون “أكتوبر واحد وعشرين.. يا صحو الشعب الجبار.. يا لهب الثورة العملاقة.. يا ملهم غضب الأحرار”، كما غنوا “قلنا نعيد قلنا نعيد الماضي الأول.. ماضي جدودنا الهزموا الباغي وهدوا قلاع الظلم الطاغي.. وكان في الخطوة بنلقى شهيد.. بدمه يرسم فجر العيد”.
مشاركة النساء في الاحتجاجات ليست بالأمر الجديد في السودان، فخلال عام 1946 خرجت أول طبيبة في البلاد خالد زاهر إلى الشارع احتجاجًا على الحكم البريطاني وحينها تم القبض عليها وجلدها
وطوال أيام الثورة لم يتوقف السودانيون عن الغناء إذ رددوا أيضًا “يا بلاد النور يا راس الخير.. لا بد يوم باكر يبقى أخير.. الدمعة تفارق الوجدان.. ودموع الغبش الصابرة تسيل.. صبرك لو طال ما باقى كثير يا بلادي”.
وفي 16 من يونيو/حزيران 2012 خرجت جموع غفيرة من أبناء الشعب السوداني في الخرطوم احتجاجًا على إجراءات التقشف الحكومية وارتفاع الأسعار، وفي 22 من يونيو وبحسب تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش فإن قوات الأمن السودانية اعتقلت الكثير من المتظاهرين واستخدمت الرصاص المطاطي والذخيرة الحية من أجل تفريقهم، وعلى الرغم من ذلك انتشرت الاحتجاجات مثل النار في الهشيم في الكثير من المدن الأخرى مثل أم درمان ومدني وسنار والقضارف وبورتسودان والحصا حيصا، وخلال تلك الاحتجاجات ورغم مقتل ما لا يقل عن 24 سودانيًا وإصابة أكثر من 50 غنى السودانيون خلال مسيراتهم “لا للسلطة الأبدية.. ها قد حان الأوان هذا وقت الشباب.. هذا وقت الرجال هذا.. وقت الأسود التي تمذق الحبال.. نحن كوحده قوة تقدر تحرك جبال”.
حبوبتي كنداكة.. الحضور القوي للغناء النسائي في احتجاجات السودان
“الدين بيقول الزول.. إن شاف غلط منكر.. ما بينكتم يسكت.. يبقى الغلط ستين.. كوز السجم بيغرف.. نحن اللي سقينا النيل.. من دمنا الفاير.. ما بننكتم نسكت.. في وش عميل جاير.. الطلقة ما بتحرق.. بيحرق سكات الزول حبوبتي كندانة”، كلمة “كنداكة” كانت تطلق على ملكات مملكة كوش القديمة التي حكمت السودان قبل آلاف السنين.
مشاركة النساء في الاحتجاجات ليست بالأمر الجديد في السودان، فخلال عام 1946 خرجت أول طبيبة في البلاد خالد زاهر إلى الشارع احتجاجًا على الحكم البريطاني وحينها تم القبض عليها وجلدها، وخلال هذه الاحتجاجات لم تتخلف النساء يومًا واحدًا عن الاحتجاجات، إذ غالبًا ما كانت تبدأ المسيرات الشعبية بزغرودة نسائية.
وتشارك المرأة السودانية في هذه الاحتجاجات بطرق عدة، إما أن تتقدم صفوف الاحتجاجات أو تفتح منزلها من أجل إيواء المتظاهرين وأحيانًا تحضر الطعام والشراب للثوار ومع نهاية اليوم تشارك بنشاط في حملة تنظيف الشوارع.
ليس السودان وحده.. لماذا يلجأ جميع الثوار إلى الغناء؟
“يا رفيقة، ادفنيني، أعلى الجبال، تحت ظلِّ زهرةٍ جميلة، وإذا مر، مر قومٌ، سيقولون: ما أجمل الوردة، تلك وردة المقاوم، الذي استشهد حرًا”.
خلال الحرب العالمية الثانية انتشرت على لسان المقاومين لنظام موسيليني في الجبال القريبة من مدينة إيمولا “أغنية “بيلا تشاو” التي تعني “يا حلوتي وداعًا” بالإيطالية وهي أغنية من الفلكلور الإيطالي، حيث أراد المقاومون للفاشية والنازية أن تكون لهم أغنية ترفع من همتهم فاختاروا هذه الأغنية وحتى يومنا هذا تجسد أغنية “بيلا تشاو” رمزًا لأي نضال أو مقاومة ضد الاستبداد.
“صديقي، هل تسمع طيران الغربان الكئيب فوق سهولنا؟ صديقي، هل تسمع الصرخات المكتومة للبلاد المقيدة بالسلاسل؟ انتباه أيها الأنصار المتحمسون، العمال والفلاحون، هذه هي العلامة، هذه الليلة سيعرف العدو ثمن الدماء والدموع.
انتشرت هذه الأغنية التي كتبها الأديب الفرنسي موريس درون في الخمسينيات وسرعان ما تحولت إلى أهم أغنية للثورة والمقاومة ضد الحكم النازي، وبثتها هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” لتبقى بعدها في فرنسا كواحدة من أهم أغاني الثورة والمقاومة التي عاشت في ذاكرة الفرنسيين بعد الحرب.
الثوار لا يغنون فقط من أجل أن يلهبوا حماس المشاركين في الاحتجاجات ولكن لأن الغناء هو شكل أصيل من أشكال المقاومة
وعلى الرغم من تعثره الحاليّ انبثق لنا من رحم الربيع العربي عددًا كبيرًا من الأغنيات الثورية، ففي ميدان التحرير غنى المتظاهرون المصريون “ألوو الأجزخانة فاتحين ولا قافلين؟ ألوو فيه ناس تعبانة ومش عارفين وجعهم جاي منين.. في ناس تنهب وتسافر عايشين فوق السحاب، معندكوش دواء للاكتئاب”.
وفي سوريا غنى المتظاهرون “بيان رقم واحد الشعب السوري ما بينذل .. بيان رقم واحد أكيد هيك ما حنضل.. بيان رقم واحد من حوران جاءت البشاير.. بيان رقم واحد الشعب السوري ثائر”.
والحقيقة أن الثوار لا يغنون فقط من أجل أن يلهبوا حماس المشاركين في الاحتجاجات ولكن لأن الغناء هو شكل أصيل من أشكال المقاومة، نضال دون أسلحة وهو الأمر الذي يؤكده ما حدث في دولة إستونيا خلال عام 1988، فمنذ قرابة الثلاثين عامًا تجمع ثلاثمئة ألف مواطن في العاصمة الإستوانية احتجاجًا على الاحتلال السوفيتي، إذ فرض السوفيت على إستونيا ستارًا من العزلة عن باقي دول العالم، حيث كانوا يستمعون سرًا إلى محطات الراديو وكان الخط البحري بين هلسنكي وتالين هو وسيلة الاتصال الوحيدة مع باقي الدول.
في النهاية قرر الشباب الخروج في مسيرات بالشوارع لم يهتفوا خلالها ضد حكم السوفيت ولكنهم فقط قاموا بالغناء، خرجوا في مسيرات وغنوا باللغة الإستوانية وفيما بعد طوروا سلاحهم الوحيد وهو الغناء ونظموا مهرجانًا غنائيًا يجوب المدن لضم المزيد من المتظاهرين، وقتها سمحت سياسة البيريسترويكا التي طُبقت في الاتحاد السوفيتي أواخر الثمانينيات بالمقاومة السلمية وعليه أقيمت مهرجانات غنائية ليلية في تالين خلال عام 1988 وبلغت أوجها في مهرجان “أغنية إستونيا” الذي أقيم في 11 من سبتمبر 1988 ومن هنا أُطلق على ثورة إستوانيا مفهوم الثورة الغنائية السلمية واعترفت الحكومة السوفيتية في نهاية المطاف بسيادة إستونيا على أراضيها.