تعمل روسيا على استغلال الأزمات التي تمر بها دول عربية عدة لمزيد من التغلل في المنطقة وفرض نفوذها فيها، بالاستعانة مع “بيادق” من داخل كل دولة تطئها، وهو ما حصل في ليبيا التي تعاني أزمات متواصلة منذ سنوات عدة.
وجدت روسيا في ليبيا، اللواء المتقاعد والمناهض للشرعية الدولية ولحكومة الوفاق الوطني خليفة حفتر، لتنفيذ أجندتها هناك، وهو ما يفسر سعيها المتواصل لضرب جهود السلام في هذا البلد العربي، خدمة لحليفها “المطيع”.
دعم دبلوماسي
لئن دعمت كل من السعودية والإمارات ومصر وفرنسا، خليفة حفتر بالمال والسلاح، فقد حملت روسيا على نفسها دعم حفتر دبلوماسيًا، وهو ما حصل مؤخرًا، فقد منعت موسكو تمرير البيان البريطاني في مجلس الأمن المطالب بوقف هجوم قوات حفتر نحو العاصمة طرابلس.
وقالت وسائل إعلام روسية إن الوفد الروسي في الأمم المتحدة طلب تعديل صيغة هذا البيان الرئاسي بحيث تصبح دعوة كل الأطراف الليبية المسلحة إلى وقف القتال، وليس فقط قوات حفتر، ولكن الولايات المتحدة رفضت مقترح التعديل الروسي فأجهضت موسكو صدور البيان، ذلك أن بيانات مجلس الأمن تصدر بالإجماع.
كثيرًا ما تلقت موسكو دعوات من قيادات الشرق، للعب دور أكبر في الملف الليبي يشبه الدور الذي لعبته في سوريا
كان مجلس الأمن الدولي قد عقد الجمعة الماضية، جلسة مغلقة طارئة لبحث الوضع في ليبيا، أصدر في ختامها بيانًا صحفيًا دعا فيه قوات الكرامة التي يقودها حفتر إلى وقف هجومه على العاصمة طرابلس، محذرًا من أن هذا الهجوم يعرض الاستقرار في ليبيا للخطر.
واقترحت بريطانيا التي دعت إلى عقد تلك الجلسة صدور بيان رئاسي عن مجلس الأمن وليس بيانًا صحفيًا (البيان الرئاسي يتمتع بصفة رسمية أكثر من البيان الصحفي)، لكن روسيا اعترضت على ذلك فغاب الإجماع وسقط المقترح البريطاني.
النص الذي اقترحته بريطانيا، تضمن تهديدًا بمحاسبة قوات حفتر إذا لم توقف هجومها، وجاء في النص البريطاني أن مجلس الأمن يدعو قوات حفتر لوقف كل أنشطتها العسكرية ويحض كل القوات المسلحة في ليبيا، بما فيها تلك التابعة لحكومة الوفاق الوطني، إلى العمل على عودة الهدوء.
دعم سخي لحفتر
منع صدور قرار يدين عملية حفتر نحو طرابلس، لم يكن العمل الأول الذي تقوم به روسيا لفائدة حليفها الوفي، فقد عملت في الفترة السابقة على تقديم دعم سخي لحفتر، حتى يشتد عوده بعد الهزائم الكبرى الذي تكبدها ميدانيًا وسياسيًا.
ولئن ادعت روسيا العمل على إحلال السلام في ليبيا ووقوفها على مسافة واحدة بين مختلف الفرقاء الليبيين، وتبنيها في العلن سياسة التواصل مع جميع أطراف الأزمة الليبية، فإن الواقع يكشف عكس ذلك، فهي تضع كل ثقلها إلى جانب اللواء المتقاعد خليفة حفتر ومجلس النواب في طبرق والحكومة المنبثقة عنه في البيضاء شرق البلاد بالتنسيق مع مصر، على أمل استعادة بعض مكانتها السابقة.
زار حفتر روسيا أكثر من مرة
يأتي هذا الدعم الروسي في جزء منه، استجابة لدعوات حفتر، وكثيرًا ما تلقت موسكو دعوات، من قيادات الشرق، للعب دور أكبر في الملف الليبي يشبه الدور الذي لعبته في سوريا، عسكريًا وبخاصة دبلوماسيًا، لإبعاد بعض الدول أو الحد من نفوذها.
وسبق أن زار حفتر روسيا أكثر من مرة، والتقى فيها وزيري الخارجية والدفاع، واستقبلته حاملة الطائرات “الأميرال كوزنيتسوف” على سواحل ليبيا، إضافة إلى ذلك ذهب مستشار عبد الله الثني رئيس حكومة شرق البلاد غير المعترف بها دوليًا إلى موسكو والتقى نائب وزير الخارجية الروسي، وكان قد سبقه إلى ذلك رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح.
كما دعمت روسيا حفتر وقدمت قطع غيار عسكرية ومشورة فنية له خارج دائرة حظر التسليح المفروض على ليبيا، كما اتفقت معه على صفقات تسليح تم معظمها على نحو غير مباشر، عن طريق مصر أساسًا، وبأسلحة قادمة من بيلاروسيا أو دول أخرى قريبة من موسكو.
ضرب الحل السياسي
هذا الدعم السخي لخليفة حفتر تسعى من خلاله موسكو إلى ضرب الحل السياسي في ليبيا، حتى تُمكن حفتر الذي يقود ميليشيات الكرامة من حكم ليبيا، فهي ترى فيه الشخص المناسب لتمكينها من ثروات ليبيا الكبيرة.
وتسعى روسيا إلى الإعلاء من شأن حفتر في ليبيا، خدمة لأجندتها هناك، وتستند روسيا في دعم قائد قوات الكرامة إلى أسس قديمة مردها الإرث السوفييتي الذي يحمله، ذلك أن حفتر قد درس في الاتحاد السوفييتي وزار روسيا مرارًا ويتحدث اللغة الروسية.
وترى روسيا أن الحل السياسي، سيبعد حليفها من دائرة الحكم، وهو ما يعني تراجع نفوذها هناك، وخسارة كل شيء في ليبيا، فالقوى الأجنبية تنافسها النفوذ في هذا البلد العربي المليء بالثروات الباطنية على رأسها النفط، لذلك فهي تسعى إلى عرقلة هذا الحل.
ترى موسكو أن من شأن عودتها إلى ليبيا والمسك بزمام الأمور هناك أن تثبت حضورها في المنطقة التي تعتبر امتدادًا للنفوذ الغربي
من المنتظر أن تشهد ليبيا في الفترة القادمة تنظيم “الملتقى الليبي الجامع”، الذي سيركز على عدد من النقاط أهمها مشروع الدستور والترتيبات الأمنية ومشروع قانون الانتخابات، وسيكون هذا الملتقى، في حال تنظيمه، محاولة جديدة لحل الأزمة الليبية عقب سلسلة من الملتقيات آخرها مؤتمر باليرمو في إيطاليا الذي طبعه استمرار الخلاف بين الفرقاء الليبيين.
وكان المبعوث الأممي لليبيا غسان سلامة قد أعلن أن الملتقى الليبي الجامع سيعقد منتصف أبريل/نيسان بحضور أكثر من 100 شخصية ليبية للمساهمة في وضع حد للأزمة في البلاد ضمن خطة العمل المدعومة من المجتمع الدولي التي تنص على إجراء استفتاء على الدستور وعقد انتخابات تنهي الانقسام السياسي في البلاد.
امتيازات كبرى
ترى السلطات الروسية على رأسها الرئيس فلاديمير بوتين، الذي أدان الحملة العسكرية التي قادها حلف شمال الأطلسي (ناتو) على ليبيا لينهي أربعة عقود من حكم القذافي، واعتبرها “حملة صليبية”، أن استعادة الدور القوي لموسكو في ليبيا بعد تجربة تدخله الناجح في سوريا، من شأنه أن يعزز مكانة روسيا عالميًا.
بعد عسكري
من شأن هذا الأمر أيضًا، أن يفتح الطريق أمام حصول روسيا على تسهيلات عسكرية من ليبيا في الواجهة المتوسطية، وتأسيس قاعدة روسية في شواطئ ليبيا أو قاعدة مشتركة بين البلدين تكون محطة للسفن الحربية الروسية، على غرار قاعدة طرطوس (الروسية) في سوريا.
وتعتقد السلطات الروسية، أن إنشاء قاعدة عسكرية روسية هناك، من شأنها أن تخلق الرعب لدى الدول الغربية، خاصة أن وجود قواعد بحرية أو جوية روسية في السواحل الليبية يعني أن “الساحة الخلفية الأوروبية تحت التهديد” حسب العديد من الخبراء، وسبق لروسيا أن قامت بمحاولات عديدة مع الجزائر والمغرب للسماح لها بإقامة قاعدة عسكرية على شواطئ إحدى البلدين، لكن الرد الجزائري والمغربي كان حاسمًا بالرفض.
بعد اقتصادي
فضلاً عن الامتيازات العسكرية، ترى موسكو أن عودتها إلى ليبيا ستمكنها من إعادة إحياء العديد من المشاريع المعطلة مع ليبيا، وتأمل روسيا أن ينمو نفوذ حفتر في ليبيا بما يكفي لإعطائها امتيازات اقتصادية، مما يعوض الخسائر المالية التي تكبدتها نتيجة سقوط نظام القذافي.
تسعى روسيا لإقامة قاعدة عسكرية في ليبيا
خلال حكم القذافي كانت ليبيا من أكبر أسواق السلاح السوفييتي والروسي، وعقدت صفقات عديدة تقدرها بعض التقارير بأكثر من 22 مليار دولار، كما أقامت روسيا في تلك الفترة عددًا من المشاريع في ليبيا، منها مركز للبحوث الذرية ومشاريع طاقة كهربائية وخطوط أنابيب غاز، كما جرى حفر المئات من آبار النفط من الشركات الروسية.
بعد جيوسياسي
فوائد روسيا في ليبيا تتجاوز البُعد العسكري والاقتصادي، فلها بعد جيوسياسي أيضًا، وترى موسكو أن من شأن عودتها إلى ليبيا والمسك بزمام الأمور هناك أن تثبت حضورها في المنطقة التي تعتبر امتدادًا للنفوذ الغربي، في وقت يشهد فيه القرار الغربي بعض التردد.
ويندرج الاهتمام الروسي بليبيا، حسب العديد من الخبراء، في إطار إستراتيجية أوسع تهدف من خلالها موسكو إلى استعادة دور جيوسياسي بارز في المنطقة، ذلك أنها غابت لسنوات عدة عن منطقة المغرب العربي، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
تعتبر شمال إفريقيا تاريخيًا منطقة نفوذ لدول الاتحاد الأوروبي، حيث تمتلك الدول الأوروبية الواقعة على شاطئ البحر المتوسط مصالح كثيرة في هذه المنطقة الإستراتيجية، لذلك تسعى روسيا إلى تعزيز نفوذها فيها من خلال البوابة الليبية.