يقول الأثر، المال لا يغير الناس ولا يفسدهم، هو فقط يسمح لهم بإظهار مشاعرهم وقيمهم الحقيقية الموجودة بداخلهم، ولكن بقوة ودرجة أكبر، فلا يصبحوا بحاجة لارتداء أقنعة لتغطية ضعفهم وقلة حيلتهم، ما نود قوله، عند الحديث عن الضعف الإنساني والفساد، لا يجب تلبيس العرب وحدهم هوان البشرية، في ظل الفضائح التي تشهدها الدول الإسكندنافية، أفضل البلدان تقدمًا في العالم، وغرق العديد من مصارفها في فضائح غسيل أموال، ومساعدة رجال الأعمال والسياسيين الفسدة وأباطرة الجريمة المنظمة، على تخزين مليارات الدولارات بطرق غير مشروعة.
كيف ظهرت الفضيحة؟
تورط بنكDanske ، أحد أهم وأكبر بنوك الدنمارك في أنشطه مشبوهة على مستوى فروعه بإستونيا، ومع كشف السلطات عن الكارثة، تبين لسلطات التحقيق أن هذه الفضائح لا تخصه وحده، بل يشترك معه Swedbank وفروعه في دول البلطيق، وهي ممارسات الفساد التي أجبرت رئيسه لارس إيدرمارك، على الاستقالة يوم الجمعة الماضية، بعد القصف الإعلامي العنيف ضده، ومحاولته تقديم رئيسه التنفيذي بيرجيت بونسين المشرف السابق على عمليات البنك في دول البلطيق كبش فداء، ولكن لم تفلح المحاولة.
المثير أن التحقيق مع المسؤولين عن البنك، كشف خللاً خطيرًا في منظومة الإدارة، وأوضح أنها كانت تتعمد تقليل عدد أفراد وحدة غسيل الأموال لديه
لم يكن أمامDanske bank ومع فتح ملفه من وسائل الإعلام العالمية، إلا الاعتراف بفساد فرعه الإستوني، ومساعدته لـ”آلاف العملاء” ومعظمهم من غير المقيمين في إستونيا، على غسل عشرات المليارات من اليورو في الفترة من 2007 إلى 2015، كما اعترف أن مديري البنك طوال هذه الفترة، لم يعطوا تحذيرات بشأن المعاملات المشبوهة من المنظمين الإستونيين والبنك المركزي الروسي والبنوك الشريكة ومراجعي الحسابات الداخليين أي أهمية، حتى تكشفت رائحة الفساد بعد ظهور أرباح البنك بمعاملات بلغت 200 مليار يورو ـ 225 مليار دولار ـ لعملاء معظمهم أجانب، وهي أرباح كبيرة ولا تتناسب بأي حال مع حجم الفروع وأهميتها لعملاء الخارج.
المثير أن التحقيق مع المسؤولين عن البنك، كشف خللاً خطيرًا في منظومة الإدارة، وأوضح أنها كانت تتعمد تقليل عدد أفراد وحدة غسيل الأموال لديه، وحتى مع بدء ظهور هذه الأزمات، وإشارة الصحف إلى وجود أيادٍ فاسدة، لم يكن البنك وحتى عام 2017 مهتمًا بكشفها ومعالجتها حفاظًا على سمعته، بما يؤكد عمله على شرعنة الفساد، حتى أصبح غير قادر على مواجهته، قبل أن تجبره وسائل الإعلام الدنماركية على ذلك رغمًا عنه، وفي سبتمبر من العام الماضي 2018، فتح البنك تحقيقًا، أجرته شركة قانونية خارجية، بسبب ضغوط العملاء، وأقر في النهاية أنه فشل في الوفاء بمسؤوليته، واستقال الرئيس التنفيذي توماس بورغن تحت الضغط المكثف، وكشف المزيد من الممارسات الفاسدة.
الغريب في القضية، أن معهد شيلر في الدنمارك المعني بالفساد، كان يدعو منذ نحو 10 سنوات، وخاصة بعد موجة الثورات العربية، إلى الفصل بين البنوك، ووضع قوانين صارمة تفرض القانون على المشارك منها في الأنشطة المصرفية الاستثمارية بالبلاد، في ظل معرفته بمشاكل توجه البلاد للسوق الحر، والابتعاد عن قبضة الدولة منذ الحرب العالمية الثانية، وحتى بداية السبعينيات، التي استبدلت الدولة بأسواق مالية حرة تمامًا، أصبحت فيما بعد القوة الدافعة في الاقتصاد، ولم تعد البنوك تخضع لنفس الرقابة التي كانت عليها.
لم تقف أزمة الفساد وغسيل الأموال على بنوك الدنمارك فقط، بل طالت السويد أيضًا ممثلة في أكبر بنوكها، Swedbank
مع الوقت، ألغيت القيود التنظيمية وثقافة الأعمال وأصبحت الوظيفة الأساسية للبنوك هي إقراض الأموال للأشخاص الذين يعرفونهم، والذين يمكنهم الحكم على جدارتهم الائتمانية في وقت لاحق، وبات هدف البنوك والمصرفيين تحقيق أقصى قدر من الأرباح على حساب تحمل مسؤوليتهم تجاه المجتمع الذي لم يعرف بدوره أي مناقشة أخلاقية علنية إلا بعد تفجر هذه الفضائح، بعد نحو 11 عامًا من الأزمة المالية العالمية في 2008.
السويد على خط الأزمة
لم تقف أزمة الفساد وغسيل الأموال على بنوك الدنمارك فقط، بل طالت السويد أيضا ممثلة في أكبر بنوكها Swedbank، بعد تسريب عدة وثائق بنكية، وهو ما دعا دائرة الخدمات المالية بنيويورك للتصدي للأزمة خوفًا على سكانها، لا سيما أن جميع البنوك الدولية لها أفرع في الولايات المتحدة، وهو مبرر شرعي لأمريكا في التدخل القانوني، ويمكن المسؤوليين المعنيين بها من السفر بعيدًا عن حدودهم لكشف أي واقعة فساد، وهو ما حدث بالفعل.
وصل الأمريكيون إلى نتائج واضحة في فبراير الماضي، وبناء عليها أرسلوا رسائل تتضمن أسئلة موسعة إلى فرع البنك السويدي في نيويورك، بشأن معاملاته مع رجال أعمال ومسؤولين روس، وشركات خارجية وبنوك في أوكرانيا وقبرص ودول أخرى، معروف أنها أكبر مراكز غسيل الأموال في العالم، وبينت التحقيقات الأمريكية أن البنك فتح أبوابه للرئيس الأوكراني المخلوع فيكتور يانوكوفيتش، واستغل ثغرة قانون التقادم الذي يمنع من متابعة تهم غسل الأموال في Swedbank منذ انتهاء النشاط المشتبه به في عام 2014، وكشف أيضًا أن الفساد كان يتسابق عليه صغار الموظفي الذين تم تجنيد الكثير منهم لإخبار كبار المستثمرين بأي محاولة ولو صورية للكشف عن أنشطتهم المشبوهة لتوخي الحذر، وهو انتهاك محرم لقوانين التداول.
تعاني أوروبا بشكل واضح من أزمة كبيرة، ويجسد ذلك سلسلة إخفاقاتها في مكافحة غسل الأموال
الهيئة السويدية للجريمة الاقتصادية من ناحيتها، صادرت الوثائق المضبوطة، وأطلقت يد هيئة تنظيم الصناعة Finansinspektionen في التحقيق، كما وفرت أول ميناء للاتصال بغاسلي الأموال الروس الذين يتوقون إلى الحصول على أموالهم في الاتحاد الأوروبي، وهو إجراء قد يصل في النهاية إلى لا شيء، بسبب ضعف المؤسسات الأوروبية الوطنية التي تفتقر غالبًا إلى الموارد والتدريب للتصدي لغاسلي الأموال من العملاء المجرمين والمعروفين بقدرتهم على التلاعب من البنوك المعروفة بغسل الأموال، لدرجة أن عددًا كبيرًا من هؤلاء، وعن طريق عملائهم داخل البنوك، يضعون نفس العنوان ورقم الهاتف، وغيرها من الممارسات الشيطانية لإخفاء جرائمهم.
أوروبا أصل الأزمة
تعاني أوروبا بشكل واضح من أزمة كبيرة، ويجسد ذلك سلسلة إخفاقاتها في مكافحة غسل الأموال، وخاصة غسل الأموال القذرة المرتبطة بالإتجار في المخدرات والإرهاب والجريمة المنظمة، التي تصل بحسب تقديرات الأمم المتحدة، إلى ملياري دولار في العام الواحد.
وتملك أوروبا نظامًا مصرفيًا متراخيًا، وهو ما اتضح من تسهيل البنك الدنماركي تدفق نحو 30 مليار دولار سنويًا، معظمه من أموال روسية مشبوهة بحسب لجان التحقيق الأمريكية، وكأن هؤلاء لم يجدوا في العالم مكانًا آمنًا إلا من فرع صغير في إستونيا، ولكن الطمع أعماهم عن توقع حالة الضجيح التي يمكن أن تحدث، إذا حقق بنك صغير عائدًا مرتفعًا على الأسهم، يزيد على 400%، وليست الدنمارك أو السويد فقط أصحاب الأزمة الآن، ولكن السنوات الأخيرة كان تحمل الكثير من الأخبار، عن تغريم بنوك كبرى مثل HSBC، Standard Chartered وغيرهم مبالغ كبيرة، بسبب غسيل الأموال.
تختلف دول الاتحاد بشكل كبير في أنظمة المكافحة، وبعضها لا يمارس مسؤولياته سوى في 5% من الشكوك المتعلقة بغسل الأموال
كما كانت تعتمد أوروبا قبل تولي ترامب على أمريكا في كل شيء، كانت تعتمد عليها أيضًا في مكافحة غسل الأموال، التي كشفت تقريبًا أغلب عمليات الجرائم، استنادًا لقوانين تبيح لها التدخل والتحقيق في أي مكان لأفرع البنوك العالمية، إن كان لديها وحدات وأفرع أمريكية.
تختلف دول الاتحاد بشكل كبير في أنظمة المكافحة، وبعضها لا يمارس مسؤولياته سوى في 5% من الشكوك المتعلقة بغسل الأموال، لا سيما أن الكثير من الدول الأعضاء مثل إستونيا ولاتفيا ومالطا وقبرص، استطاعوا بناء اقتصاداتهم عبر جذب رؤوس الأموال الأجنبية، دون أدنى مراقبة لمصادر تلك الأموال، وهو ما أضعف البلدان الأوروبية، إذ لا توجد قاعدة بيانات مركزية للاتحاد الأوروبي للمعلومات المتعلقة بغسل الأموال حتى الآن.
ومع موجة الصحيان التي تعيشها أوروبا، بسبب مزايدات ترامب وتطاوله عليها، يبدو أن مكافحة جرائم غسيل الأموال ستأخذ موضعها الصحيح، بعد أعلان المفوضية الأوروبية الأسبوع الماضي أنها ستأخذ القضية بجدية أكبر، ومنح صلاحيات إضافية لمكافحة غسيل الأموال للسلطة المصرفية الأوروبية.