أصدرت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل مؤخرًا كتابها “الحرية: مذكرات 1954-2021″، الذي يتجاوز 700 صفحة، مقدمةً فيه سردًا شخصيًا وفكريًا لأبرز محطات حياتها ومسيرتها السياسية، مركّزة على أحداث وقضايا عالمية شهدتها خلال فترة توليها منصب المستشارة من عام 2005 حتى استقالتها في ديسمبر/ كانون الأول 2021.
تسلّط ميركل الضوء على تحديات كبرى وقرارات مصيرية اتخذتها، بالإضافة إلى الأزمات التي واجهتها، في إطار جهودها للحفاظ على استقرار ألمانيا وتعزيز وحدة الاتحاد الأوروبي، أبرزها قرارها التاريخي في عام 2015 باستقبال نحو مليون لاجئ، معظمهم من السوريين، وهو القرار الذي أثار جدلًا واسعًا وواجه انتقادات محلية ودولية.
كما يكشف الكتاب فصولًا شيّقة حول علاقاتها مع قادة عالميين مثل دونالد ترامب وفلاديمير بوتين وباراك أوباما، مسلطًا الضوء على كواليس التفاعلات الدبلوماسية معهم، وبينما تقدم ميركل للقارئ صورة متكاملة عن نفسها كسياسية جمعت بين المرونة في المواقف والحزم في اتخاذ القرارات المصيرية، تغيب عن الكتاب حالة “تصفية الحسابات” التي تتّسم بها مذكرات السياسيين عادةً.
نستعرض في هذا المقال أبرز محاور الكتاب، مع التركيز على كواليس قرارها الحاسم في عام 2015 باستقبال اللاجئين السوريين، وما رافقه من تحديات وضغوط داخلية وخارجية، كما نتناول تفاعلاتها المعقدة مع القوى العالمية، وموقفها من الحركة النسوية، حيث تتحفظ على وصف نفسها بالنسوية، رغم كونها أول امرأة تتولى منصب المستشارة في ألمانيا، وأخيرًا نستكشف تأملاتها الشخصية وجوانبها الإنسانية.
تحديات ومنعطفات سياسية
يبدأ “كتاب الحرية” بقسم طويل يتناول العقود الثلاثة الأولى من حياة ميركل السياسية، مع استعادة تفصيلية لأحداث الأيام الأولى لسقوط جدار برلين عام 1989، حيث تصف ميركل كيف لم تكن لديها أية آمال بشأن اتحاد ألمانيا الشرقية والغربية بشكل يضمن المساواة بين الشعبَين.
كما عبّرت بصراحة عن استيائها من النظرة الفوقية التي كان يُنظر بها إلى الألمان الشرقيين، وبالأخص من الإعلاميين، مشيرةً إلى الصعوبة التي كانت تجدها في التواصل معهم آنذاك، فيما كانت لا تزال “مترددة في الحديث عن كونها أول امرأة مستشارة لألمانيا، رفضًا لأن يتم تصنيفها ضمن فئة معينة”.
أما النصف الثاني من الكتاب، فتناولت فيه المواضيع الجيوسياسية الأكثر تعقيدًا وشمولية، بدءًا من تعاملها مع الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2007، وما تبعها من اضطرابات في منطقة اليورو، وصولًا إلى التصعيد العسكري بين روسيا وأوكرانيا عام 2014، ثم الحرب الروسية على أوكرانيا التي اندلعت بعد شهرين ونصف فقط من تنحّيها عن منصب المستشارة.
قدّمت ميركل تبريرًا حول استخدام بلادها وفرنسا حق النقض عام 2008 ضد خطة انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، بالقول إنها حسب خبرتها الطويلة بالتعامل مع بوتين، “كانت متأكدة أن لا شيء كان سيقف في وجه بوتين من غزو أوكرانيا، وأن مجرد الإشارة الخطابية نحو عضوية أوكرانيا المستقبلية في حلف شمال الأطلسي -التي وافقت عليها كحلّ وسط- كان يراها بمثابة إعلان حرب”.
وفيما يخص خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أكدت ميركل أن هذا المسار أضعف الاتحاد جدًّا، إلا أنها أوضحت أن الدول الأوروبية لم يكن لديها المزيد من التنازلات لتقديمها للمملكة لإغرائها في البقاء، ووصفت تلك المرحلة من عملها بأنها الأكثر “قلقًا على الإطلاق”، وأنها وزملائها من الدول الأوروبية الأخرى “شعروا بالعار والإحراج من تركهم بهذه الطريقة”.
وترى ميركل أن هذا الحدث لم يقتصر على التأثير الداخلي فقط، بل غيّر أيضًا نظرة العالم إلى الاتحاد الأوروبي ككيان موحّد، وأشارت إلى أن خروج بريطانيا كان نتيجة حتمية بدأت مع جهود ديفيد كاميرون لإرضاء المشكّكين في الاتحاد الأوروبي داخل حزبه، ما جعل الأمر أشبه بمسار لا يمكن تجنّبه.
سياسات الهجرة وشعار “يمكننا فعل هذا”
تبدأ ميركل حديثها حول سياسة اللاجئين في مذكراتها، بنسب الفضل إلى فريق الاستشاريين الذي عمل معها طوال مسيرتها السياسية، مشيرة إلى أنهم كانوا الداعمين الرئيسيين على اتخاذ قرار فتح باب اللجوء لنحو مليون لاجئ، أغلبهم من السوريين، في سبتمبر/ أيلول 2015، وتوضح أن هذا الفريق كان أيضًا من شجّعها على كتابة هذه المذكرات ونشرها.
وتستعرض ميركل كيف أن هذا القرار كان يحمل أبعادًا إنسانية وسياسية معقدة، حيث كان بمثابة اختبار حاسم لقدرتها على دمج مبادئها الشخصية وتوجهاتها السياسية بشكل متوازن، لأنها رأت نفسها “أمام قرار يتطلب موازنة بين القيم الإنسانية ومسؤولياتها كقائدة لأكبر اقتصاد في أوروبا”.
خاصة أن هذا القرار كان يتطلب أيضًا مراعاة تاريخ ألمانيا كدولة تحمّلت مسؤولية كبيرة في مساعدة اللاجئين بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها تعترف بأن إدارة تبعات هذا القرار “لم تكن سهلة داخليًا”، حيث تعرضت لانتقادات شديدة من الأحزاب المعارضة، كما نشأت خلافات داخل حزبها الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، التي تركزت بشكل رئيسي على المخاوف من الأثر الاجتماعي لهذا القرار.
على مستوى الاتحاد الأوروبي، دافعت ميركل عن موقفها بخصوص أزمة اللاجئين، مؤكدة أن الأزمة تتطلب حلولًا اجتماعية شاملة، ومع ذلك لم تتفق العديد من الدول الأوروبية معها، حيث أبدت دول مثل المجر وبولندا تحفظًا كبيرًا على خطة توزيع اللاجئين.
وفي مذكراتها، تتأمل ميركل “بقلق خاص” في عبارتها الشهيرة “يمكننا فعل هذا”، التي قالتها في سياق مساعي ألمانيا لإيجاد حلول اجتماعية واقتصادية لإدارة ملف اللاجئين، وتوضح أنه تم تفسير هذه الجملة داخليًا بشكل خاطئ، إذ لم تعنِ أن ألمانيا ستستقبل جميع اللاجئين في العالم، وتكتب ميركل في مذكراتها: “لو أخبرني شخص ما في ذلك الوقت أن ‘يمكننا أن نفعل هذا’ -تلك الكلمات الأربع الشائعة- ستُستخدم لتوبيخي لأسابيع وأشهر وسنوات قادمة، لكنت نظرت إليه في عدم تصديق وقلت له: عفوًا!”.
دافعت ميركل أيضًا في مذكراتها عن صورة “السيلفي” التي التقطت لها في عام 2015 بصحبة لاجئ سوري في أحد مراكز استقبال اللاجئين في برلين، والتي استخدمتها الأحزاب اليمينية لاحقًا للهجوم عليها، وفي سرد مختصر لما حدث أثناء التقاط الصورة، قائلة: “كنت متجهة لألقي التحية على بعض الأشخاص الذين تجمعوا حولي بعد انتهاء زيارتي، حين فاجأني أحدهم رافعًا هاتفه المحمول وهو يقول “سيلفي”، ولم أفكر في تلك اللحظة عن الجدل الذي يمكن أن تخلقه صورة عفوية كهذه، فيما كان جوابي له “لم لا؟””.
وفي تعليقها على تصاعد حظوظ اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، تؤكد ميركل على ضرورة الاعتدال كشرط أساسي لنجاح الأحزاب الديمقراطية، مشيرة إلى مثالها الليبرالي في هذا السياق، وتنقل في مذكراتها أهمية الالتزام بمعتقدات تحترم الكرامة الإنسانية الفردية، مع التأكيد على قيمة العالم المفتوح والمترابط، الذي يقوم على الرخاء المشترك، ورغم إدراكها للمخاوف التي يواجهها الشعب الألماني في ظل المستقبل الغامض، فإنها تؤكد على أن على الناس ألا ينسوا أهمية “أن يكونوا أصحاب قلوب واسعة” في مواجهة التحديات.
التفاعلات مع القادة: صداقات وتوترات
حظيت أنجيلا ميركل مع مغادرتها عالم السياسة، بالعديد من الألقاب المميزة التي أطلقها عليها الناس والإعلام الدولي، من بينها “ملكة أوروبا” و”أقوى امرأة في العالم” و”زعيمة العالم الحر”، وتتناول ميركل هذا الموضوع في مذكراتها، مشيرة إلى أن شخصيتها السياسية لم تتشكل فقط من خلال العمل في السياسة الداخلية الألمانية، بل أيضًا من خلال تعاملاتها مع القادة العالميين، وتؤكد أنها كانت تتبع شعارًا مأخوذًا من العائلة المالكة البريطانية “لا تشرح أبدًا، لا تشكو أبدًا”، بما يتعلق بالتفاهم مع القادة الغربيين مثل دونالد ترامب وفلاديمير بوتين.
من الواضح أن ميركل لم تكن من المعجبين بترامب، حيث كتبت في مذكراتها بأنه “كان يتعامل مع كل شيء من منظور رجل الأعمال العقاري، الذي يرى أنه إن لم يحصل على هذا العقار، فسيحصل عليه شخص آخر”، وأضافت أن “إعجاب ترامب بالديكتاتوريين والرجال أصحاب السمات الاستبدادية القوية، أمثال بوتين، كان واضحًا جدًّا”.
وتؤكد أن اجتماعاتهما كانت غالبًا ما تسودها روح العداء، وهو ما تجسّد بوضوح عندما اتهمها ترامب بأنها “دمّرت ألمانيا باستقبال عدد كبير من اللاجئين في عامي 2015 و2016″، إضافة إلى شكوته من انتقادها المستمر لممارساته التجارية غير العادلة.
تميزت علاقتها بالرئيس الأمريكي بالتحديات منذ اليوم الأول، ففي الوقت الذي كانت تصرفات ترامب متقلبة وعدائية، سعت ميركل باستمرار للحفاظ على استقرار العلاقات بين ألمانيا والولايات المتحدة، وأكدت في مذكراتها أنها تلقت نصيحة من بابا الفاتيكان حول كيفية التعامل مع ترامب، تمثلت بقوله: “انحني.. ثم انحني.. ثم انحني أكثر، لكن لا تنكسري له”، ومع ذلك لم تكن هذه النصيحة الثمينة نافعة أو كافية لتجنّب الصدامات المتكررة مع ترامب.
وفي سياق آخر، تحدثت ميركل عن لقاءاتها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي كانت تتّسم بمحاولات بوتين المستمرة لإظهار مدى قوته وإثارة القلق والترقب بين الحاضرين، واحدة من أبرز هذه اللقاءات كانت في عام 2007 عندما أحضر بوتين معه كلبه الشرس إلى اللقاء، رغم معرفته بخوفها الكبير من الكلاب بعد أن عضها كلب شرس عام 1995.
تروي ميركل عن تلك الواقعة، قائلةً: “جلست أنا وبوتين أمام المصورين حتى يتمكنوا من التقاط صور لنا، بينما حاولت تجاهل الكلب، رغم أنه كان يتحرك بجواري تقريبًا، وقد رأيت تعابير وجه بوتين مستمتعًا بالموقف”، وتضيف بأنها لم تعلم ما إن كان يستعرض قوته، أو أنه كان فقط يحب رؤية الناس وهم يعانون.
على النقيض من علاقاتها المتوترة مع ترامب وبوتين، كانت علاقتها مع الرئيسين الأمريكيين السابقين، باراك أوباما وجورج بوش، أكثر سلاسة وتفاهمًا، ورغم استنتاجها بأن حرب الأخير في العراق كانت “خطأ شُنّ على أساس معتقدات خاطئة”، إلا أنها تعاملت معهما بقدر من المودة والاحترام المتبادلين، خاصةً أنهما كانا يشاركانها رؤى مشابهة حول القيم الديمقراطية وحلول الأزمة المالية العالمية والتغير المناخي.
ومن أبرز اللحظات التي تحدثت عنها في كتابها، صورتها الشهيرة مع أوباما في ولاية بافاريا، أمام جبال الألب، على هامش قمة مجموعة السبع في ألمانيا عام 2015، والتي أثارت تكهنات كثيرة حول طبيعة علاقتهما، لكنها أكدت قائلة: “لقد كانت مجرد صورة عفوية في موضوع جانبي”.
تأملات شخصية في النسوية والحرية الجنسية
في الجزء الأخير من مذكراتها، تضع المستشارة السابقة نفسها في موضع تأمل عميق حول العديد من المواضيع التي شكلت هويتها السياسية خلال سنوات عملها الـ 16، حيث تتقاطع بشكل كبير مع خلفيتها المسيحية المحافظة التي نشأت بها لمدة 31 عامًا قبل انتهاء الاتحاد السوفيتي في ألمانيا.
من بين القضايا التي تناولتها، كانت مسألتا النسوية والحرية الجنسية، إذ كانت ميركل دائمًا متحفظة على تصنيف نفسها ضمن فئة “النسويات”، رغم شغلها منصب وزيرة المرأة والشباب في حكومة هيلموت كول عام 1991.
تحدثت ميركل عن عدم توافقها مع العديد من النظريات النسوية الحديثة، مثل ما وصفته بـ”وهم” سيمون دي بوفوار (كاتبة نسوية فرنسية) بأن “النسوية والاشتراكية هما رؤية واحدة ومتماثلة”، وكان رفض ميركل لوضعها في قوالب فكرية نمطية واضحًا، كما يظهر في ردّها خلال جلسة نقاش مفتوحة مع إيفانكا ترامب عام 2017، عندما ضحكت على السؤال الذي وُجّه إليها عن كونها “نسوية”، وأعادت طرح السؤال على الجمهور.
أما في مذكراتها، فقد أجابت بطريقة أكثر حزمًا قائلة: “ربما أنا نسوية من نوع ما، لكنني لا أريد أن يتم تعريفي كجزء من مجموعة”، مشيرة إلى أنها كانت دائمًا تركز على العمل الجادّ أكثر من التفكير في التحولات الاجتماعية للمرأة.
وفيما يتعلق بقرارات الحرية الجنسية في ألمانيا، كانت صريحة في مذكراتها حول بعض الندم الذي تشعر به، لأنها شخصيًا “لم تكن متأكدة من أن هذه التشريعات مدروسة بما فيه الكفاية”، مشيرة إلى أنها لطالما تعاملت بحذر مع هذه الموضوعات، وترى أنه تم “تحريكها بسرعة دون الأخذ بعين الاعتبار جميع الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية”، ومع ذلك هي مقتنعة بحرية تعبير الأفراد عن أنفسهم كضرورة أساسية في المجتمعات المتقدمة.
ورغم تعمقها في هذه الموضوعات الشخصية، تواصل ميركل سرد تجاربها السياسية الممتدة، حيث توقفت عند تلك اللحظات التي كان فيها حزبها “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” مترددًا ومنقسمًا في دعم بعض سياساتها، وتعترف بأن حزبها صار أقل وحدةً مع مرور الوقت، خاصة بعد تصاعد الرفض الشعبي لسياسات الهجرة التي تبناها الحزب خلال فترة ترؤّسها، إلا أنها لا تزال تعتقد بأهمية الاعتدال والالتزام بالمعتقدات الصحيحة واحترام أولئك الذين قالوا لا، في إشارة إلى الناخبين الذين صوّتوا لصالح الأحزاب الأخرى.
وبالانتقال إلى عنوان كتابها، تشرح ميركل كيف استلهمته من المرحلة المبكرة من حياتها، حيث كان التوق للحرية يشكّل تفكير وأهداف سكان ألمانيا الشرقية، وفي حديث طويل خصّصته للحديث عن الأحداث السريعة وغير المتوقعة التي أعقبت سقوط جدار برلين، قالت ميركل: “توقعت أشياء كثيرة، ولكن لم يكن منها نيل حريتي قبل بلوغ سن التقاعد”، مؤكدة أن سقوط برلين “قدم لها حياةً جديدة كليًا”، وفي هذا السياق استندت إلى فريق من المترجمين الذين ساعدوها “لصياغة مشاعرها وأفكارها بأفضل طريقة ممكنة”، حسب تعبيرها.
تختتم مذكرات أنجيلا ميركل رحلة عميقة في حياة سياسية مليئة بالتحديات والقرارات المصيرية التي ساهمت في تشكيل مسار ألمانيا وأوروبا على مدار أكثر من عقد ونصف، ومن خلال سرد مواقفها الشخصية حول النسوية والحرية الجنسية إلى قراراتها التاريخية بشأن استقبال اللاجئين، تقدم ميركل صورة شاملة عن معركة التوازن بين القيم الإنسانية ومسؤوليات القيادة السياسية في عالم معقد ومتغير.