تتعدد الأدوات المستخدمة في الحروب والمعارك – منذ الأزل -، ويظهر للإنسان أن تطور الأسلحة والمعدات المادية هي التي تحسم المعارك فقط، لكن الحقيقة أن هناك أسلحة غير مادية أشد خطورة حسمت الكثير من الحروب وغيرت معادلات كثيرة، باستخدام أقل ما يمكن من السلاح وهي “الدعاية والحرب النفسية”.
إن الدعاية والحرب النفسية لم تأت دون تطور تسلسلي وخلفية تاريخية عريقة تعود لمئات السنين، فقد أدرك القادة العسكريون منذ القدم أهمية التأثير في العدو، وهناك العديد من نماذج لقادة اعتمدوا الحرب النفسية لفرض سيطرتهم.
الإسكندر المقدوني والحرب النفسية
الإسكندر الأكبر هو أحد ملوك مقدونيا الإغريق، ومن أشهر القادة العسكريين والفاتحين عبر التاريخ، وُلد في مدينة “پيلا” قرابة سنة 356 ق. م، ويعتقد بعض علماء المسلمين أنه نفسه “ذو القرنين” الذي تحدث عنه القرآن الكريم، وقد تتلمذ على يد الفيلسوف والعالم الشهير أرسطو حتى بلغ سن الـ16.
كان ما يميز ملك مقدونيا معرفته بأن الدعاية لها الأثر الأقوى في قلوب الناس، فقد خصص عمال يقومون بصناعة عدد كبیر من الدروع والخوذات الضخمة جدًا، كان یتركھا خلفه بعد أي غزوة أو حملة لیجدھا العدو فیعتقد أن جیش الإسكندر الأكبر به عمالقة من الرجال فيبث الرعب فيهم ويجدهم مستسلمين
وبحلول عامه الـ30، كان قد أسس إحدى أكبر وأعظم الإمبراطوريات التي عرفها العالم القديم، وامتدت من سواحل البحر الأيوني غربًا وصولاً إلى سلسلة جبال الهيمالايا شرقًا، إذ إنه يُعد أحد أنجح القادة العسكريين في مسيرتهم، إذ لم يحدث أن هُزم في أي معركة خاضها على الإطلاق.
كان ما يميز ملك مقدونيا، هو معرفته بأن الدعاية لها الأثر الأقوى في قلوب الناس، فقد خصص عمال يقومون بصناعة عدد كبیر من الدروع والخوذات الضخمة جدًا، كان یتركھا خلفه بعد أي غزوة أو حملة لیجدھا العدو، فیعتقد أن جیش الإسكندر الأكبر به عمالقة من الرجال فيبث الرعب فيهم ويجدهم مستسلمين.
وكانت أحد أسباب نجاح غزواته في أوروبا وآسيا، تخويفه للنخب المحلية في البلدان التي احتلها على التعاون معه حتى لا ينال الأعداء منهم، ونصح جنوده بإدخال الثقافة اليونانية لتطغي على الثقافات الأخرى، وكان يأمر جنوده بالزواج من بنات السكان المحليين بمهور عالية وذلك لدمجهم بالمجتمع الذي احتلوه.
فتح مكة.. بالحرب النفسية
استخدم الرسول – صلى الله عليه وسلم – الحرب النفسية في أشهر معركة تاريخية “فتح مكة” التي حدثت دون إهدار قطرة دم واحدة من جيش المسلمين ولا جيش الكفار بكل براعة.
فعندما جاء الرسول الكريم لفتح مكة وجاءه أبو سفیان وھو من سادة قریش، فجعل جيشه یسیر أمامه في حركة دائریة مع تغیر الرایات وتغیر الجنود الراجلة الذین على ظھور الخیل مما أوحى لأبو سفیان أن عدد الجیش ضخم جدًا لا طاقة لقریش بھم وقد ذھب ونقل الصورة التي شاھدھا مما ساھم في فتح مكة دون قتال.
شاهد التاريخ – أبرع وأبشع – من استخدم الحرب النفسية هم المغول ووصفهم بعض المؤرخين بأنهم عاثوا في الأرض فسادًا في معاركهم مع المسلمين وغير المسلمين، واعتمدوا على الدعاية في فتوحاتهم باستخدام طرق متعددة
وفي اليوم التالي لفتحه مكة ألقى النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – خطبة عظيمة بيَّن فيها بعض معالم الدين وحرمة مدينة “مكة”، ثم بايع الرجال والنساء من أهل مكة على السمع والطاعة، وذلك بعد أن كانوا من أشد أعداء المسلمين، وأقام بها بعد ذلك 19 يومًا وضح لهم فيها معالم الإسلام وتعاليمه ورتب فيها الشؤون الإدارة للمدينة.
الرعب المغولي
شاهد التاريخ – أبرع وأبشع – من استخدم الحرب النفسية ووصفهم بعض المؤرخين بأنهم عاثوا في الأرض فسادًا في معاركهم مع المسلمين وغير المسلمين، واعتمدوا على الدعاية في فتوحاتهم باستخدام طرق متعددة.
تعتبر نشر الإشاعة من أكثر الطرق التي استخدمها المغول ببراعة، راسمين دعاية عنهم، فكان القائد المغولي جنكیز خان “زعيم الإمبراطورية المغولية في القرن الـ13 ميلادي” یبعث عملاءه وجواسيسه المدربين، ینشرون وسط البلاد المستھدفة أحاديثهم عن أعداد المغول الكبیرة وأفعالھم الوحشیة من أجل بث الرعب في النفوس.
كما كان يخدع جیش عدوه فیجعلھم یعتقدون أن جیشه أكبر من الواقع بشكل مبالغ، عن طریق مجموعة مدربة من الفرسان الذین كانو یتحركون بمهارة وبسرعة كبیرة من مكان إلى آخر، وفي كثير من الأحيان كان جنود عدوه يلوذون بالفرار.
في القرن الـ14 ميلادي سطر القائد المغولي تيمور لنك فصولًا جديدة من الحرب النفسية لكن بألون أكثر إجرامية، حيث وضع 90000 من الرؤوس البشرية المقطوعة أمام جدران دلهي، لإقناع الهنود بتسليم أنفسهم خلال حملته على بلادهم
ومن أدوات جنكيز خان أيضًا في أثناء العمليات العسكرية الليلية، أنه كان يأمر كل جندي بإضاءة ثلاثة مشاعل عند الغسق لإعطاء وهم لدى الآخر بأنهم سيواجهون جيشًا ساحقًا لا قِبل لهم به.
وفي القرن الـ14 ميلادي سطر القائد المغولي تيمور لنك فصولًا جديدة من الحرب النفسية لكن بألون أكثر إجرامية، حيث وضع 90000 من الرؤوس البشرية المقطوعة أمام جدران دلهي، لإقناع الهنود بتسليم أنفسهم خلال حملته على بلادهم، إذ كان جنوده يقطعون الرؤوس البشرية ويعلقونها على أسوار المدينة لتخويف السكان ودفعهم للاستسلام.
وبنفس الطريقة دخل تيمور لنك مدينة حلب التي لقت من جيوشه قتلًا وسبيًا واغتصابًا، وامتلأت الطرقات بالجثث، وأحرق أجزاءً واسعة من المدينة، واستمرت المذبحة أيامًا بأمر تيمور، في ذلك الحين، كان أمراء الشام وأعيان حلب متحصنين في القلعة يحاولون الدفاع لكن دون جدوى.
في نهاية الأمر طلب الأمراء الاستسلام مقابل الأمان، فقبل منهم تيمور ذلك، وأمر بإنزالهم مقيّدين من القلعة إلى معسكره، فأخذ يعنّفهم، ثم عفا عنهم جميعًا سوى “سودون” الذي قتل رسولَه، ثم غادر تيمور لنك حلب المدمرة بعد شهر، وترك على أسوارها تذكارًا لجميع المسلمين وهو “رؤوس القتلى”.
ومن الجدير ذكره أن السائد أن جنكيز خان استخدم أعدادًا هائلة من المقاتلين واجتاح بهم أغلب مناطق العالم، إلا أن الدراسات الحديثة أثبتت أن أراضي وسط آسيا لا يمكن أن تعيل أعدادًا كبيرة من السكان في ذلك الوقت الذي كان بإمكانهم غلبة سكان المناطق المجاورة المكتظة بالسكان.
انتقلت الحرب النفسية إلى مرحلة جديدة ومختلفة تزامنت مع ظهور وسائل الإعلام الحديثة بداية القرن العشرين، لتصبح أدوات جديدة
يقول المؤرخون إن إمبراطورية المغول بنيت بإبداع عسكري ليس إلا، وذلك باستخدام القوات المدربة والجواسيس المتخصصين مع الاستخدام الصحيح للدعاية، فقد أشاع المغول أن أعدادهم كبيرة وطباعهم شرسة وقاسية بغرض إخافة أعدائهم وخفض معنوياتهم.
الحرب العالمية.. نقطة تحول
انتقلت الحرب النفسية إلى مرحلة جديدة ومختلفة تزامنت مع ظهور وسائل الإعلام الحديثة بداية القرن العشرين، لتصبح أدوات جديدة تم استخدامها في الحرب العالمية الأولى، فقد امتلكت بريطانيا واحدة من أشهر أنظمة الأخبار في العالم، مع الخبرة الواسعة في التواصل الاجتماعي اللذين أبقياها على علاقات جيدة مع كثير من دول العالم، مما مكنها من التأثير في الرأي العام العالمي.
كما حرضت الشعوب في الطرف الآخر على الثورة على الدول التي تحتلها، ونجحت من خلال إعلان العرب (الثورة العربية الكبرى) ضد السلطنة العثمانية في عام 1916.
وعلى هذا المنوال سارت فرنسا أيضًا، التي أنشأت دار الصحافة عام 1916، (وهي مكان تطبع وتنشر فيه الصحف الفرنسية)، وبدأت تستخدم الحرب النفسية، حيث أنشأت قسمًا في مكتب تكنولوجيا المعلومات والاتصالات باسم (الطيران الجوي قسم الدعاية)، برئاسة جان جاك الفالس وهو رسّام من منطقة الألزاس، حيث وزع منشورات من الصور فقط.
كما نشروا مبادئ الرئيس الأمريكي آنذاك ودرو ويلسون الأربعة عشر وعلى رأسها حق الشعوب في تقرير مصيرها، وذلك لإقناع العالم بأن الغرب يسعى لتحرير الدول المحتلة والارتقاء بها حتى تصبح قادرة على تقرير مصيرها وبالتالي يطبق عليها مبادئ ويلسون.
عين هتلر غوبلز وزيرًا للدعاية خلال الحرب العالمية الأولى، حيث نجحت دعايته التي استخدمها ضد تشيكوسلوفاكيا من خلال تحريض المواطنين ضد حكومتهم، ووصل تأثير هذه الدعاية إلى حد موافقة فرنسا وبريطانيا على احتلال ألمانيا لتشيكوسلوفاكيا ومسحها من الخريطة السياسية
أما في الحرب العالمية الثانية، فقد شهدت مرحلة تكوين المعالم ووضع الخطوط العريضة لمبادئ الدعاية والحرب النفسية، والفضل بذلك يعود لألمانيا النازية بقيادة أدولف هتلر ووزيره جوزيف غوبلز.
ظهرت خلال هذه الحرب لغة الخطاب ولغة الجسد والخدع كطريق للتأثير في الرأي العام، واشتهر بها هتلر الذي رفع شعار “اكذب.. اكذب.. حتى يصدقك الناس”، وبالفعل كانت خطابات هتلر تؤثر بجماهير عدوه قبل حلفائه.
وقد استفادت ألمانيا من التجربة البريطانية في استخدام الحرب النفسية خلال الحرب العالمية الأولى، فعين هتلر غوبلز وزيرًا للدعاية، حيث نجحت دعايته التي استخدمها ضد تشيكوسلوفاكيا من خلال تحريض المواطنين ضد حكومتهم، ووصل تأثير هذه الدعاية إلى حد موافقة فرنسا وبريطانيا على احتلال ألمانيا لتشيكوسلوفاكيا ومسحها من الخريطة السياسية للدول في أوروبا وذلك عام 1938.
وعلى النقيض، استخدمت بريطانيا الخداع على نطاق واسع في ممارسة الحرب النفسية ضد الألمان كالخداع البصري والعمالة المزدوجة، فكان ذلك من الأسباب التي مكنت بريطانيا وحلفاءها من الانتصار في الحرب العالمية الثانية التي دامت لنحو ست سنوات.
“إسرائيل” والحرب النفسية ضد الفلسطينيين
استخدمت “إسرائیل” الحرب النفسیة ضد الشعب الفلسطیني منذ حرب عام 1948 من خلال المجازر التي ارتكبتھا مثل “مجزرة دیر یاسين” و”مجزرة كفر قاسم” من أجل إجبار الفلسطینیین على الرضوخ للتھجیر القسري للنجاة بأرواحھم وأعراضھم من مجازر العصابات الصھیونیة.
تعتبر الحرب النفسية واحدة من أخطر أنواع الحروب عبر التاريخ، لما تثيره من أضرار أو انتصارات تاركة وراءها آثار طويلة الأمد
وبعد بث الإشاعة للرأي العالم العالمي تحت شعار “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، روجت “إسرائیل” بأن الشعب الفلسطیني ھرب من أرضه لأسباب أخرى منھا أن الفلسطینیین لم یھربوا من الإبادة في المذابح السابقة، بل إنھم تركوا أرضھم بناءً على أوامر الجیوش العربیة التي كانت تنوي إبادة الیھود بعد خروج العرب.
وبذلك، تعتبر الحرب النفسية واحدة من أخطر أنواع الحروب عبر التاريخ، لما تثيره من أضرار أو انتصارات تاركة وراءها آثار طويلة الأمد، ويتضح ذلك من خلال التعبير عن الدعاية النفسية بمصطلحات عديدة كـ”حرب الأفكار” و”حرب الأعصاب” و”الحرب السياسية” و”العدوان غير المباشر”.