كان الاختبار الأخير من الاحتلال الإسرائيلي ومجتمع المانحين الأوروبيين، لقدرة حماس على ضبط الأمن في قطاع غزة في الذكرى السنوية الأولى لمسيرات العودة في 30-3-2019، فقد مر الأمر سريعًا هادئًا ليس على غرار سابقه في العام الماضي الذي أوقع أكثر من 60 شهيدًا، كانت المسيرات مضبوطة تمامًا بقيادة حماس للمشهد، والوفد الأمني المصري الذي تفقد عملية ضبط المتظاهرين في منطقة ملكة شرق مدينة غزة.
حاجة حماس لفتح مسار التمويل وحاجة الاحتلال الإسرائيلي لضبط الأمن بات واضحًا من خلال رسائل مهمة قدمتها حماس عبر صاروخها الأخير على تل أبيب الذي أوقع سبع إصابات، وحاجة “إسرائيل” واضحة من خلال الوسيط المصري بضبط الحالة على الحدود، نجحت حماس في ضبط الحدود وتوصل الاحتلال الإسرائيلي مع الوسيط المصري إلى تنفيذ الطلبات التي تريدها حماس (زيادة مساحة الصيد لـ15 ميلاً والسماح باستيراد بضائع يعتبرها الاحتلال الإسرائيلي ثنائية الاستخدام وحظرها ومساعدات مالية شهرية من قطر والاتحاد الأوروبي وحل مشكلة كهرباء غزة).
مشاريع مؤقتة وربط مسار المال بالهدوء
مشاريع جلها إغاثية مؤقتة كإعمار البيوت المهدمة وتطوير مستشفى الشفاء بتمويل كويتي وتشغيل محطة تحلية مياه مركزية بتمويل سعودي وزيادة برامج التشغيل المؤقت عبر المؤسسات الدولية لتوفير 40 ألف فرصة عمل لمدة ستة شهور، وتبرع قطر بـ30 مليون دولار لصالح الفقراء وخريجي الأعمال، ضمن وعود الاحتلال الإسرائيلي من خلال التفاهمات مع الوسيط المصري، قد لا يلتزم الاحتلال بها.
حماس تبحث عن حلول مؤقتة بعيدًا عن سلاحها والحرب، والاحتلال الإسرائيلي الذي يراهن على الوقت أكثر بحلول مؤقتة لإذابة ما تبقى من الحاضنة الشعبية للمقاومة خصوصًا بعد حراك “بدنا نعيش” الأخير في غزة ضد حماس
لكن الجديد في الأمر ليس الدعم المالي العربي لغزة بقدر ما هو دعم الاتحاد الأوروبي بشكل علني، فلأول مرة وعد الاتحاد الأوروبي بتقديم قرابة 40 مليون دولار لصالح مشاريع إغاثية، وموافقة الأوروبيين على إدخال المساعدات تأتي بعد نجاح اختبار قدرة حماس على ضبط الأمن في قطاع غزة ومحاولة تقديم أعذار للمنظمات الدولية التي تحذر بشكل دائم من الكارثة الإنسانية في محاصرة مليوني إنسان في غزة، وأثبتت حماس قدرتها على التوافق الوطني وضبط الفصائل الفلسطينية في غزة ما يعني تمامًا أمننة المساعدات القادمة.
والخطير أن جل المساعدات إغاثية مؤقتة، قد يرغب فيها الطرفان، حماس التي تبحث عن حلول مؤقتة بعيدًا عن سلاحها والحرب، والاحتلال الإسرائيلي الذي يراهن على الوقت أكثر بحلول مؤقتة لإذابة ما تبقى من الحاضنة الشعبية للمقاومة خصوصًا بعد حراك “بدنا نعيش” الأخير في غزة ضد حماس الذي تبعه موجة من الانتقادات لطبيعة تعامل حماس مع المتظاهرين.
هل يختلف تعامل حماس عن تعامل السلطة سابقًا؟
حالة سلطة الأمر الواقع التي يريدها الاحتلال الإسرائيلي في غزة وتديرها حماس شكل أكثر تعوًّقًا من شكل نشأة السلطة الفلسطينية بعد أوسلو التي ظلت معوقة إلى حد كبير، فلم ينقل الاحتلال الإسرائيلي الصلاحيات والموارد الضرورية للحكم، وإنما ألقى على السلطة أعباء الحكم، لكن الشكل الجديد الذي يريده الاحتلال الإسرائيلي لغزة كحالة خاصة تحمل السلاح، هي “المؤقت” تتضمن مشاريع إغاثية مؤقتة، تُبقي صانع القرار بغزة في حاجتها الدائمة بعد إغلاق كل المداخل المالية عليه، دون عملية تنمية أو نمو، فالنمو الاقتصادي مربوط تمامًا بالصادرات.
خيارات حماس والفصائل في غزة محدودة بين الحرب والقبول بالحلول المؤقتة، لكن لا أمل في المصالحة الفلسطينية على المدى القريب خصوصًا بعد قرار ترامب اعتبار الضفة الغربية ضمن سيادة الاحتلال الإسرائيلي
ولا تنمية فالتنمية مربوطة بالمشاريع التنموية وليست الإغاثية، لذلك أي مشاريع اقتصادية قادمة لغزة ستكون في اتجاهين: الأول إشغال الناس بعيدًا عن حديث المقاومة والسياسة والثوابت اليومية وإسكات صوت غزة للاستمرار بعملية التطبيع التامة مع العرب، ثانيها إعطاء الفرصة لغزة لصناعة قرارها بنفسها وبمراقبة المصريين كضابط سياسي والقطريين كضابط مالي دون تحقيق تنمية شاملة، بهدف إبقاء الانقسام الفلسطيني، وفي هذا الإطار لم تقدم السلطة أي مبادرة جدية حتى الآن لوقف حالة الانقسام السياسي، فكل المؤسسات السياسية الرسمية للسلطة في حالة تفرد ومقاطعة من إجماع الفصائل الفلسطينية الكبيرة.
خيارات حماس والفصائل في غزة محدودة بين الحرب والقبول بالحلول المؤقتة، لكن لا أمل في المصالحة الفلسطينية على المدى القريب خصوصًا بعد قرار ترامب اعتبار الضفة الغربية ضمن سيادة الاحتلال الإسرائيلي، وتقويض سلطة السلطة الفلسطينية فيها، ومحاولات تحويلها إلى ما يشبه الإدارة المدنية فقط، أما غزة فستبقى على حالة “الذوبان المؤقت” والحلول المؤقتة دون الوصول لحالة الحرب.
عمل الاحتلال الإسرائيلي في المرحلة الأخيرة من الانقسام الفلسطيني على تقويض صانع القرار الفلسطيني في الضفة وغزة، وأدخل الوساطة المصرية والقطرية للمحافظة على حالة الهدوء في غزة مقابل المساعدات التي هي مطلب حماس في مأزقها المالي، ما يعني تمامًا العودة إلى الإطار القديم من العلاقة بين المساعدات وحالة الأمن، وارتهان ذلك بمدى قدرة حماس على ضبط الأمن، وتعتبر حماس أي حالة مؤقتة مقبولة ما دامت تحتفظ بسلاحها.
لكن الخطير في الأمر العمل على ذوبان السلاح أمام حاجة الناس للحياة، ومحاولة الاحتلال الإسرائيلي استخدام سياسة العصا والجزرة وكذلك حماس عبر التصعيد، قد لا يكون خيارًا دوليًا مقبولًا أمام التحذيرات الدولية المستمرة من خطورة الأوضاع الاقتصادية في غزة، فإن التفريج المؤقت الآن بات واضحًا أمام قدرة حماس على ضبط الأمن في غزة، وهو ما يعني “أمننة المساعدات” لحماس.