تتجه الأنظار الآن نحو قوات المعارضة السورية وتقدمها السريع في مدينة حلب، العاصمة الاقتصادية لسوريا، بعد تحريرها لريف حلب الغربي بالكامل وسيطرتها على عشرات النقاط والقرى بما فيها مدينة سراقب الاستراتيجية، ضمن عملية اختراق استراتيجية تحققت خلال ساعات فقط من بدء معركة “رد العدوان” في فجر 27 نوفمبر/تشرين الثاني.
عملية الاختراق الأمني التي مكّنت المعارضة من السيطرة على مواقع وتلال استراتيجية، إلى جانب حجم الخسائر الكبيرة التي منيت بها قوات النظام، فتحت الباب أمام تساؤلات حول دور الميليشيات الإيرانية و”حزب الله” اللبناني، بعد إحداثهما تحولًا كبيرًا في مجريات المعارك على الأراضي السورية لصالح النظام في السنوات السابقة، وبدعم الطيران الروسي.
وفي ظل الأجواء الإقليمية والدولية المشحونة ضد المليشيات الإيرانية و”حزب الله”، سواء في لبنان أو سوريا، استفادت المعارضة السورية من هذه الظروف لنكئ جراح هذه المليشيات وتهديد وجودها في حلب، بعد أن باتت مقيّدة في تحركاتها على الأراضي السورية، خاصة بعد أن أصبحت أهدافًا مرصودة من سلاح الجو الإسرائيلي، ما عطل قدرتها على استجلاب العناصر والدعم اللازم.
بالمقابل، يبدو أن “حزب الله”، الذي يملك 38 نقطة وموقعًا عسكريًا في حلب، غائب عن مساندة النظام مقارنة بالسنوات الأولى للثورة السورية، أو على الأقل قبل الحرب الإسرائيلية على الجنوب اللبناني، فقد تعرض لخسارة معظم قواته في معاقله بمعركة قصيرة قبل شهرين على يد الكيان الإسرائيلي، الذي أجبره على توقيع اتفاق مذل بعد تكبده خسائر فادحة في قواته وبنيته العسكرية، وهي معطيات دفعت العديد من المراقبين للاعتقاد أن الحزب يتجه نحو مزيد من الضعف، وأن عصره الذهبي، الذي تحول فيه إلى قوة إقليمية عابرة للحدود، بدأ يشرف على الأفول.
خريطة تفاعلية تستعرض أبرز التطورات الميدانية لعملية “ردع العدوان”
إيران تدق ناقوس الخطر
مع أول هجوم لقوات المعارضة الذي وُصف بالأكبر منذ سنوات، سارعت قوات النظام للانسحاب وترك مواقعها، ما يبين أن هذه القوات لم تكن لتصمد طوال سنوات الحرب السورية لولا الدعم المستمر من الأذرع الولائية الإيرانية، وعلى رأسها “حزب الله”، إضافة إلى الدعم الجوي من الطيران الروسي.
في ضوء تطورات العملية التي ما زالت تخوضها المعارضة السورية على عدة محاور، تصدّر خبر مقتل عميد في الحرس الثوري الإيراني، كان يشغل منصب قائد القوات الاستشارية الإيرانية في المدينة، الأمر الذي يعكس بوضوح نية فصائل المعارضة في استئصال الوجود الإيراني كليًا من المنطقة.
بالمقابل، يبدو أن الوسائل الإعلامية الإيرانية بدأت تدرك خطورة عملية “رد العدوان” مع تسارع وتيرتها، فقد أورد موقع “كيهان” (الناطق بلسان المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي) أن “العملية تدق ناقوس خطر فتنة جديدة في سوريا، بالتزامن مع إعلان وقف إطلاق النار في لبنان”، مشيرًا إلى أن إيران دخلت الحرب في سوريا تحت ذريعة حماية المراقد الشيعية مما وصفته بـ”الخطر السني الذي تمثله المعارضة”، وفقًا لزعمها.
من جهته حذر إسماعيل بقائي، المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، من أن أي تأخير في التعامل مع المعارضة في سوريا سيعرض كل منجزات “مكافحة الإرهاب” في السنوات الماضية للخطر، ويؤدي إلى دخول المنطقة في حقبة جديدة من انعدام الأمن، كما وصف تحركات الفصائل المسلحة في شمال غربي سوريا بأنها جزء من “مخطط أمريكي-إسرائيلي”.
حزب الله ليس في وارد الانخراط بقوة كبيرة في المعركة بسبب انشغاله بتطبيق الاتفاق مع “إسرائيل”، ولكن من الممكن أن يرسل بعض المجموعات التخصصية للقتال إلى جانب الأسد
وأشار موقع “سي إن إن” إلى أن المعارضة السورية استغلت نقاط ضعف وكلاء إيران لشن هجوم مفاجئ، وهو ما قد يمكّن الفصائل المعارضة من الوصول إلى نقاط أعمق تتمركز فيها الميليشيات الإيرانية في مناطق مثل “خان طومان” و”العيس” و”الحضر”، لكن تقدم قوات المعارضة وتحرير “خان طومان” قلب التوقعات التي كانت تشير إلى أن المعركة ستكون دامية وتعيد الذاكرة إلى عام 2016، عندما وصفت وسائل الإعلام الإيرانية المعركة بـ”كربلاء إيران في سوريا”، لما تكبدته من خسائر فادحة وحرب استنزاف مفتوحة.
في حديثه لـ”نون بوست”، يرى عمار فرهود، باحث في الشأن العسكري وجماعات ما دون الدولة، أنه في ظل المعطيات الميدانية الحالية، فإن الميليشيات التابعة لإيران غير قادرة على إيقاف التقدم لأسباب واضحة، ويتوقع فرهود أن تحاول الميليشيات الدفاع بشكل قوي عن مدينة حلب، في مواجهة التصعيد العسكري المتسارع.
يعلل فرهود سبب عجز الميليشيات الإيرانية عن إيقاف تقدم المعارضة بسرعة إلى عدة عوامل، أبرزها التكتيكات الجديدة التي اعتمدتها القوات المهاجمة، والتي تحيّد التفوق الناري للميليشيات وتدفعها إلى الالتحام المباشر مع قوات المعارضة.
كما أشار إلى أن قوات المعارضة باتت أكثر تدريبًا على أسلوب قتال المشاة الحديث، على عكس ما كان عليه الوضع في عام 2020 حين خسرت أمام قوات النظام، كذلك أضاف أن المهاجمين ابتعدوا عن الإصرار على الاشتباك داخل الكتل السكنية الكثيفة مثل بلدة “عنجارة” و”كفرناها”، حيث يتبعون استراتيجية تطويق تلك المناطق بدلًا من اقتحامها مباشرة.
ويبدو أن الميليشيات الإيرانية أصبحت غير قادرة على صد هجمات المعارضة بسبب تشتيتها بعد تهشيم ذراعها الأقوى “حزب الله”، إضافة إلى أنها تخشى التحرك والتنقل خوفًا من انكشافها، خاصة بعد خسارتها خط الدفاع الأولي في ريف حلب، ما يعني أنه عندما تحاول تشكيل خطوط دفاعية جديدة، ستكون مواقعها وطرق إمدادها مكشوفة لـ”إسرائيل”، لا سيما في منطقة مطار حلب الدولي.
في هذا السياق، يشير الباحث فرهود إلى أن انهيار حزب الله في لبنان أمام “إسرائيل” بشكل سريع وكبير على أرضه وبين مجتمعه، أدى إلى انتقال حالة الخوف وفقدان الثقة إلى جميع ميليشيات إيران في المنطقة، وبناءً على ذلك، تعيش هذه الميليشيات حالة من الصدمة والتخبط، حيث تجد نفسها في موقف صعب بين الحفاظ على عناصرها وقواتها من جهة، ومتابعة العملية القتالية الدفاعية من جهة أخرى، لكن دون كشف كل أوراقها، خوفًا من تبعات ذلك عليها أمنيًا من الجيش الإسرائيلي.
هل يتجرأ “حزب الله” على التصعيد وسط التغيرات الميدانية؟
لا محالة أن قرار “حزب الله” المتهالك بالمشاركة مع قوات النظام على الجبهة الشمالية مرتبط بقرار إيران، إذ يعاني الحزب من تصدُع كبير في صفوفه نتيجة التطورات الداخلية في لبنان، التي أثرت عليه بشكل بالغ، لكن على الرغم من أن سوريا تمثل العمود الفقري اللوجستي لبناء ترسانة الحزب الصاروخية، وأن نظام الأسد يمارس نوعًا من السيطرة على هذا الدعم اللوجستي، فإن الحزب كان منزعجًا من عدم رغبة دمشق في دخول معركة واسعة على حدودها الجنوبية، خصوصًا في ظل الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على الجنوب اللبناني.
حسب حديث العقيد مالك الكردي لـ”نون بوست”، فإنه رغم تقاعس الأسد عن مساندة “حزب الله” في لبنان، فإن الأخير لا يملك خيار الرد بالمثل في حلب، فعدم استجابته تعني تعرضه لضغوط من الأسد في باقي المناطق السورية، خاصة في ريف دمشق والقلمون وحمص.
لذا، يجد “حزب الله” نفسه مضطرًا للقتال مكرهًا في الشمال السوري، خاصة بعد الاتفاق مع “إسرائيل” الذي يتضمن أحد بنوده الرئيسية انسحاب الحزب من الجنوب اللبناني بعتاده الثقيل، ما يعني أن الشمال السوري قد يصبح تجمعًا لعناصر “حزب الله” وعتاده، في ظل الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها في الجنوب والوسط السوري.
بدوره، يرى الباحث فرهود أن “حزب الله” لم يعد يملك ذلك الحضور المعنوي الذي كان يمنحه للمقاتلين والحلفاء بمجرد دخوله المعركة، بسبب الخسارة المدوية التي تلقاها على يد الجيش الإسرائيلي، لذلك فإن الحاضنة الشعبية والعسكرية السورية لم تعد تنتظر من “حزب الله” الكثير على مستوى الميدان.
وأضاف فرهود أن الحزب، في الوقت الحالي، ليس في وارد الانخراط بقوة كبيرة في المعركة بسبب انشغاله بتطبيق الاتفاق مع “إسرائيل”، ولكن من الممكن أن يرسل بعض المجموعات التخصصية للقتال إلى جانب قوات الأسد.
“نبل والزهراء” ورقتا ضغط
تقع قريتا “نبل والزهراء” الشيعيتين في ريف حلب الشمالي، وتحاذيان الطريق العام الذي يربط مدينة حلب بمدينة أعزاز الحدودية مع تركيا، وتمكنت قوات النظام والميليشيات الإيرانية من فك حصار فصائل المعارضة عن القريتين في فبراير/شباط 2016، بعد أربع سنوات من الحصار، ومنذ ذلك الحين أصبحت القريتان تعتبران من أهم قواعد “حزب الله”، لا سيما في الآونة الأخيرة، حيث تحولت إلى مستوطنتين لعائلات عناصر وقادة الحزب الذين فروا من لبنان هذا العام.
مؤخرًا، ادعت وكالة أنباء تسنيم أن مقاتلي عمليات “رد العدوان” هاجموا بلدتي نبل والزهراء في محافظة حلب. ويعتبر مراقبون هذا الهجوم بداية لإعادة إحياء نداء الثأر والتحشيد الطائفي، الذي تدخلت على إثره الأذرع الولائية الإيرانية في السابق، متخذة شعار “لن تسبى زينب مرتين” لتحفيز الميليشيات الشيعية للقتال في سوريا.
رسالة إلى أهالي نبل والزهراء بريف حلب#إدارة_الشؤون_السياسية #حكومة_الإنقاذ_السورية #الثورة_السورية #إدلب pic.twitter.com/i1XEy0a6Dl
— إدارة الشؤون السياسية – سوريا (@syriadpa) November 29, 2024
يقول العقيد الكردي إنه عندما يتعلق الأمر بالهجوم على نبل والزهراء، لا بد من ملاحظة تحرك العواطف الطائفية للدفاع عنهما، باعتبار أن هناك العديد من العوائل الشيعية في البلدتين، رغم ورود معلومات تفيد بهروب العائلات اللبنانية وبقاء المقاتلين فقط.
من جهته، يرى الباحث فرهود أن الوضع اختلف عما كان عليه في السابق، فالمعارضة ليست بوارد التهجير، ومن المتوقع أن يتم التوصل إلى اتفاق بشأن المدينتين، خاصة أن تركيا معنية بذلك، عدا عن التغيير الملحوظ في خطاب المعارضة، ما يعزز إمكانية التوصل إلى تسوية.
هل يغير الطيران الروسي مسار المعركة؟
شكّل سلاح الجو الروسي، من خلال تجريبه واستخدامه مئات الأنواع من الأسلحة في “ميدان الرماية السوري”، تحولًا كبيرًا في الملف السوري ككل، وكان له دور حاسم في العديد من المعارك لصالح النظام بعد التقدم الكبير الذي حققته فصائل المعارضة خلال سنوات الثورة.
منذ تدخل القوات الروسية عام 2015 لحماية نظام الأسد، قُتل نتيجة الغارات الجوية الروسية ما لا يقل عن 7 آلاف مدني بذريعة “مكافحة الإرهاب”، بالإضافة إلى تنفيذ ما لا يقل عن 237 هجومًا بذخائر عنقودية و125 هجومًا بأسلحة حارقة.
وحتى عام 2018، خاض أكثر من 63 ألف عسكري روسي قتالًا عسكريًا في سوريا، وشنت القوات الروسية الجوية 39 ألف طلعة دمرت خلالها 121 ألفًا و466 هدفًا تصفها روسيا بأنها “إرهابية”، وقتلت أكثر من 86 ألف شخص دون احتساب القتلى المدنيين.
كما بلغ عدد المواقع العسكرية الروسية في سوريا 105 مواقع حتى منتصف عام 2023، منها 20 قاعدة عسكرية و85 نقطة عسكرية لا تشمل الحواجز والثكنات والدوريات العسكرية، وتتركز أغلبها في حماة، حيث يوجد 17 موقعًا، تليها مدينتا الحسكة واللاذقية بـ14 موقعًا عسكريًا لكل منهما، وتعد هذه المواقع مكتظة بالقوات الروسية وميليشيات فاغنر الروسية، بهدف تعزيز القوات البرية.
ومع اليوم الثالث لإطلاق عملية “رد العدوان” أخلت القوات الروسية مواقعها ونقاطها العسكرية في منطقتي تل رفعت بريف حلب الشمالي ومعصران بريف إدلب الشرقي، على عكس المشهد في عام 2015، حين استخدمت روسيا قوة عسكرية كبيرة لصد هجمات المعارضة عن معركة حلب.
وفي أول تعليق لها على المعركة، دعا الكرملين السلطات السورية إلى “إعادة فرض النظام” بصورة عاجلة في محيط حلب، وهو ما لم تتمكن تلك السلطات من التعامل معه، إذا دخلت فصائل الثورة لحلب وفرضت سيطرتها على أجزاء واسعة من المدينة، الجمعة.
عن ذلك، يشير أستاذ القانون والعلاقات الدولية، سمير صالحة، إلى أن الانسداد السياسي في المشهد السوري وتجاهل دمشق المتكرر لدعوات أنقرة للتطبيع، فضلًا عن تجاهل المتغيرات الإقليمية في غزة ولبنان ومنصات آستانة وأوتشي والطاولة الرباعية، يدفع روسيا إلى التوجه نحو حماية مصالحها بعد هذه العملية العسكرية الواسعة.
مضيفًا في حديثه لـ”نون بوست”، أن روسيا تنظر بعين الاعتبار إلى موضوع تحميل أنقرة لنظام الأسد مسؤولية إغلاق أبواب الحوار، مشيرًا إلى أن موسكو أيضًا تعيش خيبة أمل نتيجة تعنت النظام في العديد من الملفات وتمسكه بالحليف الإيراني.
ويعتبر صالحة أن دمشق لا تزال تراهن على إيران، التي غيرت موقفها كثيرًا بناءً على ما جرى في لبنان، كما أن تعويل النظام على مجموعات “حزب الله” التي تعود إلى سوريا لدعمه تراجع أيضًا، بسبب الرسائل الإسرائيلية لدمشق، وإذا أرادت روسيا التدخل بشكل فاعل أكثر في هذه المعركة مع النظام، فعليها أن تدرس جميع هذه السيناريوهات بعناية.
وفي موازاة ذلك، يلاحظ تحليق الطيران الروسي في سماء شمال غرب سوريا واستهدافه عدة أماكن، لكن ليس بنفس الشدة التي كان يستخدمها عند أي تقدم لقوات المعارضة، ما يفتح احتمالات عدة حول ذلك التدخل المنضبط.
حسب موقع “وول ستريت جورنال”، فإنه من المرجح أن يحشد النظام قواته، ويحظى بدعم روسي في نهاية المطاف لإطلاق رد مضاد وحشي يدفع المقاتلين إلى التراجع، كما يمكن الأخذ بعين الاعتبار زيارة الأسد إلى موسكو للبحث عن إنقاذ حلب وتوقف انهيار الجبهات أمام ضربات المعارضة، غير أن مراقبين يرون أنه في حال التدخل الروسي، فإنه سيكون بهدف وقف تقدم المعارضة عبر الاتفاق السياسي مع أنقرة الداعمة لقوات المعارضة، وليس لاسترجاع المناطق التي تكلف روسيا الكثير في ظل انشغالها بالملف الأوكراني.
ختامًا، يمكن الجزم بأن هذه المعركة ستقوض التمدد الإيراني وميليشيات “حزب الله” في محافظة حلب، إضافة إلى إمكانية دفع الأطراف الدولية، لا سيما دول الخليج، لإعادة النظر في قضية تعويم النظام والحل السياسي الواقعي في سوريا، كما أن المعركة تمثل فرصة كبيرة لإعادة تصدير القضية السورية إلى أجندة السياسة الدولية بعد سنوات من الانكماش.