رغم غياب التحديد الدقيق لمجال عمليات “رد العدوان” التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية في ريفي حلب الغربي وإدلب الشرقي، فقد اتسعت محاور الاشتباكات لتضم مدينة حلب، وتتجه لتصبح أوسع نطاقًا، وقد تجاوزت حدود مناطق خفض التصعيد التي خسرتها المعارضة في الحملة العسكرية للنظام السوري والميليشيات الإيرانية عام 2020.
في تلك الحملة، تمكنت قوات النظام والميليشيات المدعومة جوًا من روسيا من فرض سيطرتها على مناطق شاسعة ضمن منطقة خفض التصعيد الرابعة، ما أدى إلى نزوح أكثر من مليون شخص من السكان الأصليين والمهجرين من مختلف المحافظات السورية وفي مقدمتها حلب، وهو ما خلق أزمة إنسانية كبرى.
اليوم، تبدو استعادة المعارضة لهذه المناطق خطوة حاسمة ليس فقط على الصعيد العسكري، بل أيضًا لتخفيف الضغط السكاني الكبير عن شمال غربي سوريا، حيث أدى تزايد أعداد السكان في العام الحالي إلى تفاقم الفجوة بين الموارد الاقتصادية والبنية التحتية المتاحة في تلك المناطق المحدودة جغرافيًا.
حدود خفض التصعيد
كشف مصدر أمني في وزارة الدفاع التركية، وفقًا لما نقلته “رويترز”، أن العملية التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية تحت مسمى “ردع العدوان” شمال غربي سوريا، تجري ضمن حدود منطقة خفض التصعيد المتفق عليها بين روسيا وإيران وتركيا في إدلب عام 2019.
وأشار المصدر إلى أن توسع العملية جاء نتيجة انسحاب قوات النظام السوري من مواقعها، موضحًا أن الهجوم كان ردًا على الهجمات التي شنها النظام في المنطقة مؤخرًا، وأكد أن أنقرة تراقب عن كثب تحركات المعارضة، مع اتخاذ جميع التدابير اللازمة لضمان سلامة القوات التركية المنتشرة هناك.
تجدر الإشارة إلى أن الحدود الجغرافية لمنطقة خفض التصعيد الرابعة تم تحديدها في الجولة السادسة من “مسار أستانا” في سبتمبر/أيلول 2017، وشملت محافظة إدلب وأجزاء من أرياف حلب وحماة واللاذقية شمال غربي سوريا، ما يجعل العمليات الحالية ضمن نطاق التفاهمات السابقة.
لكن رغم اتفاقات التهدئة المتكررة، فإن النظام السوري والميليشيات الإيرانية واصلوا التوغل البري تدريجيًا في منطقة خفض التصعيد الرابعة، ما دفع كلًا من تركيا وروسيا إلى إبرام “اتفاق سوتشي” في 17 سبتمبر/أيلول 2018، بعد عام من اتفاق الجولة السادسة في “مسار أستانا”.
بحسب اتفاق سوتشي، تقرر إنشاء نقاط مراقبة تركية وروسية، مع إقامة منطقة عازلة خالية من الأسلحة الثقيلة لفصائل المعارضة، يتراوح عرضها بين 15 و20 كيلومترًا، كما تولت تركيا مسؤولية سحب السلاح الثقيل من خطوط التماس ونقله إلى المناطق الداخلية، إضافة إلى إبعاد الجماعات الراديكالية (الجهادية) عن المنطقة، على أن يتم ذلك بحلول منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2018.
ووفق الاتفاق أيضًا، كان من المفترض أن تتولى وحدات من الشرطتين التركية والروسية مراقبة المنطقة المنزوعة السلاح، مع فتح حركة المرور على طريق حلب – اللاذقية (M4) وطريق حلب – حماة (M5) بنهاية عام 2018، باعتبارهما من أهم الطرق الدولية في سوريا.
ورغم ما ورد في اتفاق سوتشي، استمرت قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية، بدعم جوي روسي، في شن عمليات عسكرية ضمن المنطقة العازلة، مستهدفة الطرق الرئيسية، ما تسبب في خرق الاتفاقية، فيما بررت روسيا هذه الخروقات باتهام تركيا بعدم الالتزام الكامل ببنود الاتفاق الذي ينص على سحب السلاح الثقيل والقضاء على “المجموعات الإرهابية”.
ضحايا التصعيد والسيطرة
تشمل منطقة خفض التصعيد الرابعة العديد من المدن والبلدات الواقعة على طريق الـM5، بدءًا من ريف حلب الشمالي مثل عندان وحريتان وحيان، مرورًا بكفر حمرة وخان العسل في الريف الغربي، وصولًا إلى الزربة وكفر حلب والراشدين وخان طومان وتل العيس في ريف حلب الجنوبي.
أما في ريف إدلب الجنوبي والشرقي، فتضم مدنًا رئيسية مثل سراقب ومعرة النعمان وجرجناز والتمانعة وخان شيخون وكفرنبل، وفي ريف حماة، تشمل بلدات مروك واللطامنة وكفرزيتا وكفر نبودة وشير مغار.
تمكن النظام السوري والميليشيات الإيرانية من السيطرة على تلك المناطق بدعم الطيران الروسي، خلال حملات عسكرية متتالية بدأت أواخر عام 2018 واستمرت حتى الربع الأول من 2020، وشملت هذه السيطرة مناطق تقع خارج اتفاقية خفض التصعيد والمنطقة العازلة، مثل معرة النعمان، ما أدى إلى موجات نزوح واسعة للسكان الأصليين والنازحين، سواء بسبب العمليات العسكرية أو التهجير القسري.
شنت قوات النظام السوري، مدعومة بالميليشيات الإيرانية والطيران الروسي، 5 عمليات عسكرية كبرى بعد الجولة السادسة من “اتفاق أستانا”، مستهدفة مناطق خفض التصعيد، إذ انطلقت الحملة الأولى في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، وأسفرت عن نزوح نحو 37 ألف شخص، وفق مركز جسور للدراسات.
أما الحملة الثانية، فبدأت في 25 ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته، وأدت إلى نزوح حوالي 41 ألف شخص، وتبعتها في فبراير/شباط 2019، الحملة الثالثة، وكانت الأوسع نطاقًا، حيث سيطرت قوات النظام خلالها على مساحة تبلغ 580 كيلومترًا مربعًا، ما تسبب في نزوح نحو 960 ألف شخص، بالإضافة إلى محاصرة إحدى نقاط المراقبة التركية.
وفي يناير/كانون الثاني 2020، شن النظام السوري مدعومًا بالميليشيات الإيرانية والطيران الروسي حملة عسكرية هي الأوسع من حيث المساحة، حيث سيطر على 2255 كيلومترًا مربعًا، ما أدى إلى نزوح نحو 635 ألف شخص، وإطلاق تركيا عملية “درع الربيع” بمشاركة فصائل الجيش الوطني السوري لوقف زحف قوات النظام والميليشيات.
وبحسب إحصائيات الأمم المتحدة (أوتشا)، بلغ عدد النازحين خلال الفترة الممتدة من ديسمبر/كانون الأول 2019 حتى منتصف فبراير/شباط 2020 نحو 830 ألف شخص، 60% منهم من الأطفال، اتجه معظمهم إلى المخيمات والمناطق الحدودية مع تركيا، في واحدة من أسوأ موجات النزوح التي شهدتها المنطقة منذ بدء النزاع.
كيف يمكن أن تخفف الأعباء السكانية؟
تسببت الحملات العسكرية التي شنها النظام السوري والميليشيات الإيرانية بين عامي 2018 و2020 في تفاقم الوضع الإنساني، حيث ازدادت أعداد النازحين، بعد أن فر آلاف السكان الأصليين والمهجرين سابقًا إلى المخيمات الواقعة قرب الحدود السورية التركية، هربًا من القصف المستمر والمعارك الطاحنة التي شهدتها مناطقهم.
ومع توقف المعارك الكبرى واشتداد عمليات الإغارة والاشتباكات المتقطعة، استمر النظام السوري وميليشياته المدعومة بالطيران الروسي في قصف المناطق السكنية، ما جعل العودة إلى المدن والبلدات المستهدفة أمرًا صعبًا، خاصة بعد تشكل الحدود الحالية لمناطق إدلب وغربي حلب.
واجه النازحون والمهجرون في مناطق شمال غربي سوريا تحديات كبيرة تتجاوز الجانب المعيشي، حيث كانوا يعانون من نقص في فرص العمل ومصادر الدخل، إضافة إلى تفشي بعض الظواهر الاجتماعية المقلقة نتيجة الظروف القاسية، كما ازداد الوضع سوءًا خلال فصول الشتاء والصيف.
العملية العسكرية لم تضع حدودًا جغرافية واضحة، كما تشير بيانات فصائل المعارضة، التي تركز على تأمين المناطق المحررة وردع الهجمات المتكررة من النظام والميليشيات الإيرانية
أشار تقرير سابق لـ”نون بوست” إلى ارتفاع ملحوظ في أعداد السكان بهذه المناطق خلال عام واحد، بسبب عدة عوامل. من أبرزها عمليات ترحيل اللاجئين السوريين من تركيا، وعودة النازحين من لبنان إلى سوريا، بالإضافة إلى الهجرة الداخلية نحو مناطق الشمال السوري بسبب الصعوبات التي يواجهها السوريون في محاولة الهجرة إلى أوروبا. وباتت هذه المنطقة ملاذًا للكثيرين، ما شكل ضغطًا إضافيًا على الموارد والبنية التحتية التي كانت بالفعل غير قادرة على استيعاب هذا العدد المتزايد.
وحسب تقرير المكتب الأممي لتنسيق الشؤون الإنسانية في سوريا (أوتشا)، فإن عدد السوريين في مناطق شمال غربي سوريا يصل إلى نحو 5.1 مليون نسمة، بينما يؤكد فريق منسقو استجابة سوريا أن الأعداد في تلك المناطق بلغت نحو 6.6 مليون نسمة، حيث يشكل النازحون والمهجرون في المخيمات والمدن والبلدات نحو 49% من إجمالي السكان.
أما فيما يتعلق بالنازحين في المخيمات، فقد وصل عددهم إلى نحو مليوني و33 ألفًا و823 شخصًا، موزعون على حوالي 1833 مخيمًا ومركز إيواء، بالإضافة إلى المخيمات العشوائية الممتدة من مدينة جرابلس في شمال شرقي حلب وصولًا إلى منطقة جسر الشغور في جنوب غرب إدلب.
كان الوضع قبل الحملة العسكرية لنظام الأسد والميليشيات الإيرانية عام 2020 يشير إلى أن مساحة منطقة إدلب كانت تقدر بـ5125 كيلومترًا مربعًا، لكن فصائل المعارضة فقدت نحو 1755 كيلومترًا مربعًا من تلك المساحة بسبب الهجمات العسكرية، ما دفع السكان الأصليين والنازحين إلى مغادرة المنطقة، وتكدسهم في مناطق أخرى في شمال غربي سوريا.
وبحسب الباحث في مركز جسور للدراسات، بسام السليمان، فإن استعادة منطقة خفض التصعيد في إدلب من قبل فصائل المعارضة يمكن أن يساهم في تخفيف الضغط السكاني على الموارد الاقتصادية والبنية التحتية في المنطقة، كما أشار السليمان إلى أن زيادة السيطرة على أراضٍ إضافية من شأنه توفير فرص جديدة للدخل، خاصة أن العديد من السكان يعتمدون على الزراعة كمصدر رئيسي للعيش، ما يساعدهم في إعادة بناء حياتهم ومنازلهم التي دُمرت جراء الحروب.
واعتبر أن الاستقرار الذي قد يسهم فيه استعادة هذه الأراضي يفتح الأفق أمام عودة العديد من المدنيين الذين اضطروا للهجرة بسبب القصف والعمليات العسكرية، ما سيساهم في إعادة توزيع السكان بشكل أكثر توازنًا بين المناطق التي تأثرت بالصراع في شمال غربي سوريا.
رغم أن تركيا أعلنت عن أهداف عملية “ردع العدوان” في إطار منطقة خفض التصعيد، فإن العمليات العسكرية التي تشنها فصائل المعارضة السورية تتجاوز تلك الأهداف المبدئية، خصوصًا مع تقدمها في حلب، ما يعكس خروجًا عن حدود الرؤية التركية.
العملية العسكرية لم تضع حدودًا جغرافية واضحة، كما تشير بيانات فصائل المعارضة، التي تركز على تأمين المناطق المحررة وردع الهجمات المتكررة من النظام والميليشيات الإيرانية، بالإضافة إلى استعادة مناطق يمكن أن تكون نقطة انطلاق لعودة النازحين والمهجرين الذين تضرروا من الصراع في السنوات الأخيرة.
ختامًا، عملية “ردع العدوان” تعد خطوة نحو إعادة الاستقرار في مناطق شمال غربي سوريا، وتهيئة الظروف المواتية لعودة ملايين النازحين والمهجرين السوريين إلى مناطقهم الأصلية، بما فيها مدينة حلب وأريافها الغربية والشمالية، وأرياف إدلب الشرقية والجنوبية، بعد سنوات من العيش في المخيمات والتشرد، فضلًا عن تسهيلات عودة اللاجئين السوريين من بلدان اللجوء.