في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل والحصار المشدد المفروض على شمال قطاع غزة منذ ما يقارب 55 يومًا، يبرز مستشفى العودة كإحدى المنشآت الصحية التي شكلت عاملًا مهمًا من عوامل الصمود الأساسية في مواجهة الكارثة الإنسانية والصحية المتفاقمة.
مستشفى العودة الذي يُشكل جزءًا من القطاع الأهلي الصحي، يواصل تقديم الرعاية الصحية لسكان شمال القطاع، رغم تعرضه للاستهداف المباشر ثلاث مرات منذ بدء العدوان، في محاولة لتخفيف معاناة السكان المحاصرين.
خلال هذه الهجمات، فقد المستشفى ستة من طواقمه العاملة، كما شهد اعتقال مديره، الدكتور أحمد مهنا، في محاولة جديدة من الاحتلال لشلّ عمل المستشفى وإعاقة تقديم الخدمات الطبية في المنطقة التي تعد من أكثر المناطق تضررًا جراء العدوان المستمر.
أجرى “نون بوست” حوارًا خاصًا مع الأستاذ محمد صالحة، القائم بأعمال مدير مستشفى العودة، لإبراز الواقع الصحي والإنساني في شمال قطاع غزة، وتسليط الضوء على التحديات الكبرى التي تواجه المستشفى، بما في ذلك النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية والوقود، إلى جانب المعاناة اليومية التي تعيشها الطواقم الطبية في ظل ظروف غاية في الخطورة.
هذا اللقاء يضع القارئ أمام صورة شاملة لحجم المأساة الإنسانية التي يعيشها سكان شمال غزة، ويبرز الدور البطولي الذي يؤديه مستشفى العودة في تقديم الرعاية الصحية، رغم التحديات والتضحيات الجسيمة التي تواجهه.
في أي سياق اتخذت إدارة مستشفى العودة قرارها بالثبات ومواجهة التهديدات الإسرائيلية، رغم أن الحرب كانت في ذروتها، وخاصة في شمال قطاع غزة؟ وما الدوافع والمبررات التي وقفت وراء هذا القرار الحاسم؟
منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، اتخذ مستشفى العودة قرارًا حاسمًا وواضحًا: البقاء في الميدان ومواصلة تقديم الخدمات الصحية لسكان شمال القطاع، رغم التهديدات الإسرائيلية المتكررة بإخلاء المستشفى.
في الأسبوع الأول من الحرب، أصدرت قوات الاحتلال أوامر بإخلاء المستشفى، لكن الإدارة رفضت هذه الأوامر بشكل قاطع. جاء هذا القرار انطلاقًا من التزام المستشفى الإنساني والأخلاقي، لضمان استمرار الرعاية الصحية لشريحة كبيرة من سكان شمال غزة الذين يعتمدون بشكل أساسي على خدماتها، في ظل غياب بدائل أخرى.
لطالما تساءلنا نحن والآخرون: “لو لم يتخذ مستشفى العودة قراره الأخلاقي والمبدأي بالاستمرار، فما كان سيكون مصير عشرات الآلاف من المواطنين الذين أنقذ حياتهم وساهم في الحفاظ على سلامتهم؟” هذا التساؤل يجسد المبرر الجوهري لوجود المستشفى واستمراره في العمل، رغم كل التهديدات والمخاطر التي تواجهه.
يؤدي مستشفى العودة دورًا محوريًا في تقديم الرعاية الصحية شمال قطاع غزة، لا سيما بعد خروج معظم مستشفيات المنطقة عن الخدمة. وعلى مدار أكثر من تسعة أشهر، كان المستشفى الوحيد في شمال غزة الذي يقدم خدمات جراحة العظام، وهو أمر بالغ الأهمية، إذ إن أكثر من 70% من الإصابات التي تتطلب تدخلًا طبيًا تحتاج إلى عمليات جراحة العظام.
خلال فترة توقف مستشفى كمال عدوان والمستشفى الإندونيسي عن العمل لأكثر من شهر ونصف، اضطلع مستشفى العودة بدور المستشفى الرئيسي في تقديم الرعاية الصحية الشاملة لسكان شمال القطاع، بما يشمل مدن بيت لاهيا، بيت حانون، وجباليا ومخيمها. حتى التخصصات التي لا تقع ضمن نطاق عمل المستشفى تم تغطيتها بفضل تفاني الطاقم الطبي، الذي تحمل مسؤولية جسيمة في ظل تعطل المستشفيات الأخرى.
في هذه الفترة الحرجة، عملت جميع أقسام المستشفى بكامل طاقتها، حيث امتلأت الأسرة بالجرحى والمرضى الذين كانوا في أمسّ الحاجة للرعاية العاجلة، ما يعكس التزام المستشفى بتقديم الخدمات الصحية رغم الظروف القاسية.
كيف واجه الموظفون فكرة الاستمرار في أداء عملهم رغم الخطر المباشر الذي يهدد حياتهم؟ وكيف تمكنت الطواقم الطبية من الموازنة بين غريزة البقاء والنجاة، والواجب الإنساني النبيل المتمثل في إنقاذ أرواح المصابين وتقديم الرعاية لهم؟
الموظفون في مستشفى العودة، مثل أي أشخاص آخرين، يشعرون بالخوف الطبيعي على حياتهم وحياة عائلاتهم، لكن ما يميزهم هو صلابتهم وإيمانهم العميق برسالتهم الإنسانية. منذ اليوم الأول للعدوان، اتخذ العاملون والمتطوعون قرار الصمود، متحدين المخاطر المحيطة بهم، وأثبتوا التزامهم بأداء واجبهم الإنساني داخل المستشفى.
ما يزيد على 35% إلى 40% من الموظفين نزحت عائلاتهم إلى جنوب قطاع غزة، بينما بقوا هم في شمال القطاع لمواصلة عملهم. هذه التضحية تجسد إيمانهم العميق بدورهم في إنقاذ الأرواح، رغم كل التحديات.
إحدى أبرز القصص الملهمة تتعلق بالسيدات العاملات في المستشفى، حيث اضطر بعضهن إلى البقاء على رأس عملهن لفترة تجاوزت العام، بعيدًا عن عائلاتهن النازحة إلى الجنوب. في مجتمعاتنا، قد يكون من المعتاد أن يقدم الرجال مثل هذه التضحيات، لكن قيام السيدات بذلك يعكس مستوى استثنائيًا من العطاء والتفاني.
دائمًا ما أقول إن هؤلاء السيدات هن طليعة أبطال الصمود في مستشفى العودة، ونماذج مشرفة تجسد معاني الإنسانية والتضحية في خدمة المجتمع.
على الصعيد الإنساني، كيف يؤثر اضطرار العاملين في مستشفى العودة للانفصال عن عائلاتهم لأكثر من عام على قدرتهم على التماسك والصمود، خاصة في ظل انقسام العائلات بين شمال القطاع وجنوبه؟ وكيف يتمكن الموظف من موازنة متابعة احتياجات عائلته مع أداء واجبه الوظيفي؟
كما ذكرت، عدد كبير من موظفي مستشفى العودة انفصلوا عن عائلاتهم منذ بداية العدوان الإسرائيلي، بسبب التزامهم بالواجب وضمان استمرارية تقديم الخدمات الصحية في شمال قطاع غزة. في المقابل، اضطرت عائلاتهم للنزوح إلى جنوب القطاع هربًا من العدوان. أنا شخصيًا واحد من هؤلاء الموظفين؛ فأسرتي تقيم حاليًا في جنوب القطاع بينما أواصل العمل في المستشفى شمال القطاع منذ أكثر من عام وشهرين.
هذا الوضع ليس سهلًا على الإطلاق. في ظروف الحرب، يحتاج أفراد الأسرة إلى وجود مقدم الرعاية معهم. أوضاع النزوح، التي تشمل فقدان المنازل والممتلكات والشعور المستمر بعدم الأمان، تزيد من الضغوط النفسية، خاصة على الأطفال الذين يعانون من الخوف والقلق. كأب وزوج، يمثل الانفصال عبئًا نفسيًا كبيرًا ليس فقط على العاملين، بل أيضًا على زوجاتهم وأطفالهم الذين يحتاجون إلى دعمهم ووجودهم لتخفيف آثار العدوان.
معاناة الانفصال تتضاعف بشكل خاص بالنسبة للسيدات العاملات في المستشفى. لدينا ست سيدات يعملن في المستشفى في شمال القطاع بينما عائلاتهن نزحت إلى الجنوب. طوال 14 شهرًا من العدوان، لم يتمكنّ من رؤية أطفالهن أو جمع شمل عائلاتهن. هذا يعكس مستوى استثنائيًا من التضحية والالتزام برسالتهن الإنسانية، وهو أمر نفتخر به جميعًا.
فيما يتعلق بمتابعة احتياجات عائلات العاملين، فإن مستشفى العودة جزء من جمعية العودة الصحية والمجتمعية، التي تعمل جاهدة لتوفير الدعم للعائلات النازحة. تسعى الجمعية إلى تلبية جزء من احتياجات أسر العاملين الذين نزحوا إلى الجنوب، سواء من خلال الدعم المادي أو تأمين متطلبات الحياة الأساسية، وذلك لتخفيف الأعباء الكبيرة التي تواجهها هذه الأسر في ظل العدوان المستمر.
ما هي الخدمات التي يقدمها مستشفى العودة بجانب خدمات الإسعاف والطوارئ؟ وكيف ساهمت هذه الخدمات في تحسين الواقع الصحي في شمال قطاع غزة؟
إلى جانب خدمات الإسعاف والطوارئ، يقدم مستشفى العودة مجموعة من الخدمات المتنوعة تشمل الرعاية الصحية للنساء والولادة، بالإضافة إلى الجراحات التخصصية مثل الجراحة العامة، وجراحة العظام، وجراحة الأنف والأذن والحنجرة، وجراحة المسالك البولية.
لكن نتيجة للحصار الأخير على شمال قطاع غزة، تعرضت بعض هذه الخدمات للتوقف. تم تعطيل خدمة جراحة العظام بعد اعتقال قوات الاحتلال للدكتور محمد عبيد، رئيس قسم جراحة العظام والجراحات الترميمية في المستشفى. كما توقفت خدمات جراحة الأنف والأذن والحنجرة وجراحة المسالك البولية بسبب صعوبة عودة الأطباء المتخصصين من مدينة غزة إلى المستشفى بعد إغلاق الطرق من قبل الاحتلال.
علاوة على ذلك، توقفت العمليات الجراحية المجدولة، حيث يقتصر إجراء العمليات الآن على الحالات الطارئة فقط بسبب شدة العدوان. حاليًا، هناك جراح واحد فقط في شمال قطاع غزة بأكمله يعمل في مستشفى العودة لتقديم خدمات الجراحة العامة وإجراء العمليات المنقذة للحياة.
لولا وجود مستشفى العودة، لكانت هناك فجوة كبيرة في تقديم العديد من الجراحات والخدمات الصحية الأساسية لسكان شمال قطاع غزة. لقد لعب المستشفى دورًا حيويًا في تلبية هذه الاحتياجات، وساهم في إنقاذ حياة آلاف المرضى والجرحى الذين لم يكن لديهم أي بديل للحصول على الرعاية الصحية الضرورية.
من المعروف أن مدير مستشفى العودة السابق تعرض للاعتقال داخل المستشفى ولا يزال قيد الاعتقال، وتوليتم المسؤولية بعده. كيف تواجهون هذا الخطر المستمر، وما هي نظرتكم لإمكانية تعرضكم للاعتقال؟
بعد اعتقال الدكتور أحمد مهنا، مدير مستشفى العودة، وتحملي مسؤولية إدارة المستشفى، أصبحت مدركًا تمامًا للخطر الدائم الذي يهددني بالاعتقال في أي لحظة. عندما قررنا الالتزام بواجبنا الإنساني وتقديم الخدمات الصحية لشمال قطاع غزة، كنا على علم بالتحديات الجسيمة التي قد نواجهها نتيجة لهذا القرار الأخلاقي والإنساني، ونحن مستعدون لتحمل تلك التضحيات.
لكن هذا الموقف لا يخصني وحدي، بل هو تجسيد للروح الجماعية بين جميع العاملين والمتطوعين في المستشفى. أستمد قوتي من رؤية الزملاء والزميلات الذين يعملون بلا توقف، ليلًا ونهارًا، البعض منهم يواصل العمل على مدار 24 ساعة، ويأخذ قسطًا صغيرًا من النوم على كراسيهم ليستعيدوا نشاطهم ويستمروا في تقديم الرعاية.
بصراحة، نحن جميعًا ندرك أن مصيرنا قد يكون إما الشهادة أو الاعتقال، ولكننا لا نرى أنفسنا أفضل من أولئك الذين سبقونا في التضحية والوفاء بواجبهم الإنساني. نحن مستعدون لتقديم أي تضحية مطلوبة، لأننا نؤمن أن ما نقوم به هو جزء من رسالتنا الأخلاقية والإنسانية.
ما الأضرار التي وقعت على مستشفى العودة نتيجة العدوان المباشر، سواء البشرية أو المادية؟ وكم مرة تعرض المستشفى لهجمات مباشرة؟
تعرض مستشفى العودة للاستهداف المباشر أكثر من 12 مرة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، ما أسفر عن أضرار جسيمة في مختلف أقسام المستشفى، شملت المبيت في المبنى الشرقي وغرف العمليات، ما أدى إلى تعطيل 50% من القدرة السريرية للمستشفى. كما استهدفت الهجمات خزانات المياه ومحطة التحلية، ما أثر بشكل مباشر على قدرة المستشفى في توفير المياه اللازمة لتقديم الخدمات الصحية.
لم تسلم سيارات الإسعاف التابعة للمستشفى من الهجمات المباشرة، ما أدى إلى تدميرها بالكامل وخروجها عن الخدمة، كما طالت الأضرار طوابق الإدارة، حيث تم استهداف الطابق الخامس في المبنى الغربي، بالإضافة إلى استهداف مستودعات الأدوية والمستلزمات الطبية ثلاث مرات، ما خلف خسائر كبيرة في الإمدادات الحيوية.
العدوان شمل أيضًا تدمير الجسر الذي يربط بين مبنيي المستشفى، واستهداف المستودع المركزي الذي يحتوي على كميات كبيرة من الأدوية والمستلزمات الطبية. علاوة على ذلك، تضررت سيارات الخدمات الإدارية وسيارات النقل الأخرى، ما أدى إلى خروج جميع المركبات عن الخدمة.
في الوقت الراهن، لا توجد أي سيارة إسعاف قادرة على تقديم خدماتها للمواطنين في شمال قطاع غزة. ويتم نقل المصابين إلى أقسام الطوارئ باستخدام وسائل بدائية، مثل حملهم على الأكتاف أو باستخدام عربات تجرها الحيوانات.
ما أبرز تجارب حصار مستشفى العودة؟ وكيف تعاملت الطواقم الطبية مع تهديدات الإخلاء القسري؟
في شهر ديسمبر/كانون الأول 2023، تعرض مستشفى العودة لحصار استمر 18 يومًا، اعتقلت قوات الاحتلال الدكتور أحمد مهنا، مدير المستشفى خلال هذه الفترة. وفي مايو/ أيار 2024، واجه المستشفى حصارًا آخر استمر 13 يومًا، وفي اليوم الرابع من الحصار، أُجبرنا على إخلاء المستشفى بالقوة. ورغم ذلك، رفضنا المغادرة بالكامل بسبب وجود جرحى ومرضى داخل المستشفى، فقد بقيت مجموعة صغيرة من العاملين إلى جانب هؤلاء المرضى والجرحى حتى انتهاء الحصار.
مع انتهاء الحصار، عاد الموظفون الذين أُجبروا على المغادرة إلى مواقع عملهم في اليوم الأول، وبدأنا فورًا بإعادة تنظيم عمل المستشفى وأقسامه. في نفس اليوم، أجرينا عمليات جراحية للتعامل مع عشرات الإصابات التي وصلت بعد الحصار، واستأنف المستشفى تقديم خدماته بشكل سريع جدًا، ما يعكس التفاني الكبير للطواقم الطبية.
الروح الجماعية والعزيمة التي يتمتع بها العاملون في المستشفى تُعد مكونًا رئيسيًا من مكونات الصمود والثبات. إذا قُيِّمت الموارد والإمكانات المتاحة مقارنة بحجم الخدمات التي يقدمها المستشفى وعدد الحالات التي يتم التعامل معها، سيظهر بوضوح حجم الجهود الجبارة التي تبذلها الطواقم الطبية للتغلب على التحديات المستمرة والمتفاقمة. هذه الروح هي التي تصر على استمرار عمل المستشفى رغم الحصار والعدوان القاسي الذي يتعرض له شمال قطاع غزة.
هل عانى الطاقم الطبي من آثار الحصار المشدد والتجويع الذي تعرض له شمال قطاع غزة لأشهر طويلة؟
في كل تجارب حصار مستشفى العودة الثلاث خلال أشهر العدوان، عانت الطواقم الطبية من آثار التجويع الشديد. وصل بنا الحال إلى تناول وجبة واحدة فقط في اليوم، وهي وجبة صغيرة جدًا ومتواضعة، بالكاد تكفي لسد رمق أي إنسان. خلال الحصار المشدد في ديسمبر/كانون الأول 2023، واجهنا صعوبات شديدة في توفير الطعام للجميع داخل المستشفى.
تحاول إدارة المستشفى دائمًا الاحتفاظ بمخزون محدود جدًا من الطعام، يتم التعامل معه بإدارة وترشيد صارمين. هذا المخزون لا يقتصر على تغطية احتياجات الطواقم الطبية فحسب، بل يشمل أيضًا المرضى والمرافقين. مستشفى العودة يأخذ على عاتقه مسؤولية إطعام كل من هو داخل أروقته، في ظل انعدام وجود أي أسواق أو نقاط لشراء الاحتياجات الغذائية شمال قطاع غزة. وبالتالي، فإن الكميات المخزنة في المستشفى هي المصدر الوحيد للطعام، وتكفي لفترة زمنية محدودة للغاية.
تجليات الحصار، وخاصة في عملية التجويع، أثرت بشكل كبير على صحة كل من في المستشفى. جميع من كانوا داخل المستشفى، بمن فيهم الطاقم الطبي، عانوا من وعكات صحية نتيجة سوء التغذية. في لحظة معينة، تحوّل الجميع، بما في ذلك الأطباء والممرضون، إلى مرضى يحتاجون إلى العناية الصحية. رغم ذلك، استمر الطاقم في أداء واجباته الطبية في أثناء تلقيه العلاج من آثار المجاعة.
بالمحصلة الموظفون في مستشفى العودة ليسوا بمعزل عن معاناة سكان شمال قطاع غزة، بل هم جزء من هذه المعاناة، وواجهوا نفس الظروف القاسية التي مست الجميع.
هل توجد مواقف إنسانية معينة تذكرونها خلال عام من الصمود في تقديم الخدمات الصحية في شمال قطاع غزة؟
بالطبع، هناك العديد من المواقف الإنسانية التي لا تُنسى. من المعروف أن عمل المستشفى هو عمل إنساني بحت، ودائمًا ما نؤكد أنه على الرغم من تدمير البنية التحتية في قطاع غزة، وخسارتنا لأرواح كثيرة، ومنازلنا، وكل مقومات حياتنا الطبيعية، فإننا لم نفقد إنسانيتنا وقيمنا وأخلاقنا.
خلال فترة عمل المستشفى، برزت العديد من المواقف الإنسانية المشرقة، خصوصًا تلك المتعلقة بالأطفال. من أبرز هذه المواقف، أتذكر طفلة كانت محاصرة معنا داخل المستشفى في أثناء حصار ديسمبر/كانون الأول 2023 الذي استمر 18 يومًا. هذه الطفلة فقدت والديها وكانت وحيدة داخل المستشفى. تعاملنا معها كأنها فرد من عائلتنا، وحرصنا على توفير كل أشكال الرعاية لها، سواء من مأكل أو ملبس أو مكان للنوم، بالإضافة إلى الدعم النفسي المستمر، حتى انتهى الحصار وتمكن أقاربها من الوصول إليها.
كما أن هناك العديد من المواقف التي لا يمكن حصرها. زملاؤنا في المستشفى دائمًا ما يواجهون مواقف لحظية تتطلب لمسة إنسانية إضافة إلى أداء واجبهم الطبي. على سبيل المثال، هناك الأطفال الناجون من مجازر فقدوا جميع أفراد أسرهم، أو المصابون الذين يعانون من صدمات نفسية حادة نتيجة الاستهداف المباشر. هذه الحالات تتطلب التعامل مع المصابين بشقيها الطبي والنفسي.
إدارة المستشفى حريصة جدًا على أن تظل الجوانب الإنسانية أولوية، وألا يطغى ضغط العمل على مراعاة هذه الجوانب. هذا الالتزام بالقيم الإنسانية هو ما يُميز مستشفى العودة، ويُظهر قوة الطواقم في التعامل مع الظروف الصعبة دون التخلي عن جوهر رسالته.
في ظل العدوان المستمر على شمال قطاع غزة منذ أكثر من 50 يومًا، كيف تصفون الأوضاع الإنسانية في المنطقة؟ وما طبيعة الواقع الصحي الذي يعيشه السكان هناك؟
الوضع الإنساني في شمال قطاع غزة مأساوي للغاية. منذ أكثر من 50 يومًا من الحصار المشدد، لم تدخل أي مساعدات إنسانية إلى السكان أو المؤسسات الصحية ومراكز الإيواء. يعيش السكان في ظروف قاسية، حيث تنعدم أبسط مقومات الحياة.
الوضع الصحي في شمال القطاع يواجه انهيارًا شبه كامل نتيجة العدوان الإسرائيلي المباشر والحصار. منظومة الإسعافات خرجت تمامًا عن الخدمة، بما في ذلك سيارات إسعاف مستشفى العودة، والهلال الأحمر، والخدمات الطبية الحكومية. كما توقف الدفاع المدني عن العمل بسبب الاستهداف المباشر من الاحتلال.
النقص الكبير في الطواقم الطبية، خاصة المتخصصين في الجراحة، أدى إلى صعوبة التعامل مع الحالات الطارئة. فقد مئات المواطنين حياتهم بسبب غياب التدخلات الجراحية التخصصية. نحاول جاهدين تحويل بعض الحالات الحرجة جدًا من مستشفى العودة إلى المستشفيات العاملة في مدينة غزة، لكن غالبية هذه المحاولات تُعيقها عراقيل الاحتلال. هناك حالات يفقد أصحابها حياتهم في أثناء انتظار موافقة الاحتلال أو خلال الطريق نتيجة التعطيل المستمر.
النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية والوقود يضاف إلى معاناة المستشفيات، وخاصة مستشفى العودة. نقوم بإجراء عمليات منقذة للحياة، مثل جراحات الأوعية الدموية التي تُجرى لتجنب بتر الأطراف، باستخدام إمكانيات متواضعة جدًا أو معدومة. للأسف، تنجح بعض العمليات بينما يفشل بعضها الآخر بسبب نقص الموارد والطواقم المتخصصة، كما أدى اعتقال الطبيب المتخصص في جراحة العظام، الذي كان يغطي معظم الحالات في شمال القطاع، إلى فقدان العديد من المرضى لإمكانية الحصول على علاج فعال.
طالبنا بإيفاد فرق طبية لتغطية الاحتياجات المُلحة، لكن الاحتلال يمنع وصول هذه الوفود ويقيد إمكانية المستشفيات لتقديم خدماتها الصحية شمال قطاع غزة. حتى الآن، لم يتسلم مستشفى العودة أي كميات كافية من الوقود أو المستلزمات الطبية، فلجأنا للحصول على كميات محدودة جدًا من الوقود المخصص لمستشفى كمال عدوان، رغم الخطورة الكبيرة للتنقل بين المستشفيين بسبب العدوان المكثف في تلك المنطقة.
على سبيل المثال، تعرضت امرأة حامل في شهرها الرابع للاستهداف المباشر عند بوابة مستشفى كمال عدوان، ما أدى إلى استشهادها مع جنينها وإصابة زوجها بجروح خطيرة.
كل شخص يتحرك شمال قطاع غزة يكون عرضة للاستهداف. محيط المستشفى يتعرض يوميًا لإطلاق نار وقصف مستمر، بما في ذلك إلقاء القنابل في ساحة المستشفى. العديد من الجرحى لا يمكن إسعافهم، ويبقون على الأرض ينزفون حتى استشهادهم. هناك عشرات الشهداء والجرحى ملقون على الطرقات دون أن يتمكن أحد من الوصول إليهم بسبب خطورة الأوضاع.
كيف تقيمون دور المؤسسات الدولية في تأمين الحماية للطواقم الطبية وتوفير الاحتياجات الضرورية؟
هناك بعض المحاولات المستمرة من المؤسسات الدولية لتقديم إسهام أوسع وأكثر تأثيرًا، إلا أن إجراءات الاحتلال الإسرائيلي تشكل دائمًا حاجزًا يعوق هذه الجهود. التعنت الإسرائيلي يضع الطواقم الصحية في موضع الاستهداف ويترك المستشفيات بلا أي شكل من أشكال الحصانة، رغم وضوح النصوص والاتفاقيات الدولية، خاصة اتفاقية جنيف، التي تنص على حماية المنشآت الصحية والعاملين في القطاع الصحي خلال ظروف الحرب. مع ذلك، فإن الواقع المأساوي شاهده العالم بأسره، حيث نُقل حجم الاستهداف للمستشفيات والطواقم الصحية عبر وسائل الإعلام والبث المباشر.
حتى الآن، لا توجد مساحة حقيقية لعمل المؤسسات الدولية على الأرض. يقتصر دورها على محاولات الضغط لإدخال بعض المستلزمات وأغلبها لا ينجح. على سبيل المثال، مستشفى العودة لم يتلقَّ أي مستلزمات طبية أو أدوية أو وقود منذ أكثر من شهرين، رغم الاحتياجات الملحة. حتى منظمة الصحة العالمية لم تتمكن من إدخال أي من هذه الضروريات حتى اللحظة. الأسوأ من ذلك، أن الاحتلال يمنع وصول الطعام إلى المستشفى منذ بداية الحصار المشدد على شمال قطاع غزة.
أما على صعيد الحماية، فلا يوجد أي شكل من أشكال الحماية الفعلية للطواقم الطبية. لم تستطع أي جهة دولية تجنيب المستشفيات نيران الاستهداف المباشر. في مستشفى العودة وحده، استُشهد ستة من الطواقم العاملة خلال فترات الحصار السابقة: ثلاثة منهم نتيجة قذيفة مدفعية، وثلاثة آخرون برصاص القنص المباشر. هذا الواقع يعكس الفشل الكبير في حماية الطواقم الطبية، رغم كل النصوص الدولية الداعية إلى ذلك.
ما هي رسالتكم للمجتمع الدولي وأهم مطالبكم؟
رسالتنا دائمًا أن الأولوية القصوى يجب أن تكون لإيقاف المجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة عمومًا، وفي شمال القطاع على وجه الخصوص. نطالب المجتمع الدولي بالتحرك الفوري لفتح ممرات آمنة لنقل مئات الجرحى الذين يحتاجون إلى تدخلات جراحية عاجلة لإنقاذ حياتهم.
كما ندعو إلى الضغط على الاحتلال للسماح بإدخال الأدوية والمستلزمات الطبية والوقود اللازم لتشغيل المستشفيات وضمان استمرار تقديم خدماتها الصحية. نطالب أيضًا بالإسراع في إدخال المساعدات الإنسانية لسكان شمال قطاع غزة، حيث بات انتشار المجاعة يشكل تهديدًا خطيرًا لحياة الكثيرين بعد ما يقارب شهرين من انعدام أي شكل من أشكال الإغاثة.
نلفت الانتباه إلى أن المؤسسات الإنسانية العاملة، بما في ذلك الأونروا وطواقم الأمم المتحدة، مُعطّلة بشكل كامل وممنوعة من تقديم الخدمات أو التحرك داخل شمال القطاع. هذا الوضع يتطلب تحركًا دوليًا عاجلًا وفاعلًا للضغط على الاحتلال وفتح المجال أمام تقديم المساعدات الإنسانية وإنقاذ أرواح آلاف السكان المحاصرين.