هل يستطيع “تولستوي” أن ينقذ روسيا؟

ترجمة وتحرير نون بوست
إن الأحداث الدرامية التي تعصف بالمنطقة الأوكرانية الروسية لا تخضع فقط لمعايير الجغرافيا السياسية، إنها حالة عميقة من الوعي الوطني ظلت هكذا لقرون، والأدب الروسي هو أفضل مكان يمكنك أن ترى فيه ذلك! إنك يمكنك أن ترى ذلك في السؤال الذي يحمله فيلاديمير بوتين والذي قد يجد إجابته في ذلك الأدب الكلاسيكي الروسي الذي ازدهر في القرن التاسع عشر: ما هو مصدر عظمة بلادنا؟
في مقاربة الإجابة على هذا السؤال، يمكننا القول إن بوتين – الذي يقول إن ليو تولستوي وفيودور ديستوفيسكي هم كتابه المفضلين – لديه اتجاهين منفصلين تمامًا للاختيار بينهما: الأول هو إيمان ديستوفيسكي بالاستثناء الروسي، أو اعتقاد تولستوي بعظمة كل تجربة إنسانية بغض النظر عن الجنسية، الثقافة، أو الدين، لكن مع الأسف، يبدو أن بوتين قد اختار ديستوفيسكي وليس تولستوي.
آمن ديستوفيسكي بأن روسيا لديها مهمة مقدسة لبناء إمبراطورية مسيحية يكون الروس على رأسها، هذه النظرة التبشيرية جاءت من حقيقة أن ديستوفيسكي رأى أن روسيا هي الأمة الأكثر تقدمًا من الناحية الروحية والعقلية بين كل الأمم، الأمة التي مهمتها توحيد وقيادة الآخرين، لقد قال في 1881 أن مهمة روسيا هي “توحيد جميع الناس من جميع قبائل الجنس الآري”.
تولستوي، من جانبه كان يكره هذا النوع من التفكير الاستعلائي، معتقدًا أن لكل أمة تقاليدها الفريدة، رأى تولستوي ألا أحد أفضل أو أسوأ من الآخرين، كان تولستوي وطنيًا، يحب شعبه، وظهر ذلك بجلاء في روايته “الحرب والسلام”، لكنه لم يكن قوميًا متعصبًا، وطالما أعرب عن اعتقاده بعبقرية كل أمة وتميز كل ثقافة.
لقد كان تولستوي متميزًا تمامًا في كتاباته بالقدرة على كشف حقيقة شخصياته بشكل كامل وواضح وغير متحيز، بغض النظر عن جنسيتهم. في كتابه “حكايات سيفاستوبول” والذي استوحاه من تجربته الخاصة كجندي روسي مقاتل ضد قوات العثمانيين والبريطانيين والفرنسيين في حرب القرم في الخمسينات من القرن التاسع عشر، أظهر تولستوي إنسانية شخصياته سواء كانوا روس، بريطانيين أو فرنسيين.
للأسف، ووسط كل الاضطرابات في الشخصية الروسية التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفيتي، اتجه الروس إلى التشبث أكثر برؤية ديستوفسكي عن الرؤية الأكثر كونية وإنسانية وهدوءًا التي تبناها تولستوي، وبعد كل مآسي التاريخ الروسي في القرن العشرين، والإهانات التي جلبتها لهم السنوات العشرين الماضية منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، صار العديد من الروس العاديين يبحثون عن دليل لا شك فيه بجدارتهم بين الأمم.
هذه تحديدًا هي الشريحة التي يلعب عليها بوتين! إن بوتين نادرًا ما يقتبس من تولستوي في خطاباته، لكنه دومًا ما يقتبس من فلاسفة القرن العشرين، من المبشرين بالمجد الروسي أمثال سولوفييف، بيرديايف، أو إليين، الذين تأثروا هم أنفسهم بكتابات ديستوفيسكي ونظرته القومية.
في مقابلة تليفزيونية في شهر أبريل الماضي، قال بوتين “إن سقوط الاتحاد السوفيتي كان أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين، لقد كان مأساة حقيقية للشعب الروسي”، كما ذهب أبعد من ذلك في تبني نظرية المؤامرة التي يهيم بها العامة قائلاً “إن هناك العديد من القوى في العالم التي تخشى قوتنا،وعظمتنا؛ لذلك فإنهم سعوا إلى تقسيمنا إلى دويلات”.
إن الاستماع إلى بوتين في تلك المقابله وغيرها من الخطب الأخيرة، سيورث لديك إحساسًا بأنك لا تسمع بوتين في 2014 مبررًا غزو القرم، لكن ربما تشعر بتلك النبرة التي تبناها السوفييت في 1941 عندما هاجم هتلر حدود أوكرانيا، أو حتى في 1812 عندما عبر نابليون نهر نيمان لغزو روسيا! إن كل تلك الأحداث تظل راسخة في الوعي القومي للروس حتى اليوم، ولذلك فقد وجدت كلمات بوتين التي تحمل العديد من الإشارات السلبية، صدى بين الغالبية العظمة من الشعب الروسي.
إن الخوف من الأجانب يجري في جسد بوتين مجرى الدم، لقد توفي أحد أشقائه في الحصار الخانق الذي فرضه النازيون على لينينغراد خلال الحرب العالمية الثانية، كما قُتلت جدته في تلك الحرب، واختفي أخواله من على الجبهة دون أن يتركوا أثرًا. وبالنظر إلى خلفية بوتين وإلى ماضي روسيا، فإن نظرة الرجل حول “عالم معاد لروسيا المتفوقة العظيمة” تبدو نظرة منطقية للغاية.
لكن القوة الحقيقية، كما يعرفها تولستوي، تأتي من التواضع وليست الغطرسة، وهذه هي الرسالة الأساسية التي يوصلها، ليس فقط من خلال “حكايات سيفاستوبول”، وإنما أيضًا من خلال روايته الأشهر “الحرب والسلام” والتي تحكي قصة الغزو النابليوني الفاشل لروسيا عام 1812.
في الوقت الذي يؤكد فيه بوتين أن عظمة روسيا تنبع من قدرتها على فرض حصار على جارتها أوكرانيا، يعتنق تولستوي وجهة نظر مختلفة تمامًا: عظمة روسيا تنبع من قدرة شعبها في الحفاظ على كرامتهم في وجه العدوان والتمسك بالبوصلة الأخلاقية الواضحة حتى في أصعب الأوقات.
إن هذا النوع من العظمة تظهره شخصيات روايته مثل الجندي الروسي المجهول، الذي ساعد صاحب متجر لحماية متجره من اللصوص في ظل الفوضى العارمة التي جاءت مع احتلال موسكو، أو تلك الفتاة المراهقة التي أصرت على أن تترك عائلتها ممتلكاتهم لكي يتركوا مكانًا في العربات للجنود الجرحى، أو للخادمة العجوز التي تعطي ورقة نقدية من فئة 25 روبل لشخص غريب تمامًا يظهر لها ليخبرها أنه من أقرباء العائلة التي تخدمها.
إنها أيضًا تلك العظمة التي ظهرت في شخصية القائد العام للقوات الروسية، كوتوزوف، الذي يحبه قواته ويرأف تجاه أعدائه، إلى الحد الذي يجعله يمتنع عن مهاجمة الجنود الفرنسيين الجرحى أثناء رحيلهم، رغم حث بعض جنرالاته إياه على القيام بذلك.
إنها لم تكن مصادفة أن يقول “نيلسون مانديلا” أن رواية “الحرب والسلام” التي قرأها في محبسه في جزيرة روبن هي روايته المفضلة، وأنه يعتبر كوتوزوف نموذجًا للقيادة الإنسانية والفعالة في ذات الوقت.
وهناك أيضًا “بيير بيزوخوف” طيب القلب الذي يرث أكبر ثروة في روسيا، لكن تتابع الأحداث يوصله إلى الوقوع في الأسر لدى الفرنسيين، وعندما يعتقد أن الأمور لا يمكن أن تصبح أسوأ، يتم جلب بيزوخوف أمام فرقة الإعدام، ليكتشف بمعجزة أنه تم إحضاره كشاهد لا ليتم إعدامه، ليدرك حينها ضعفه التام، وأن كل أوهامه حول قوته، وسلطته وإيمانه بالنظام العالمي أو بالعدل أو الإنسانية قد تحطمت تمامًا.
وبعدما يخرج من الأسر، يخرج سليمًا، لا جسديًا فقط، بل روحيًا أيضًا، فيخرج غير ساخط ولكن بالتزام بمضاعفة اعتقاده في الرحمة والعدل، يحاول بعد الحرب أن يوحد المحافظين والليبراليين للعمل من أجل مستقبل أفضل للبلاد.
هذه هي النماذج التي أبرزها تولستوي، لكن مع الأسف يبدو أن بوتين لم يستلهم إلا شخصية نابليون نفسه، الإمبراطور المغرور الذي يتصور أنه الاستراتيجي الذي لا يُقهر، لكن لم يتحقق هدفه الذي طال انتظاره، لم يقهر موسكو وإن قهرها، فالنصر كلفه تسعة أعشار جيشه، ولم يطل النصر أبدًا، إذ استنفذ الجيش كل طاقته في طريق العودة إلى أوروبا، الرسالة التي يريد تولستوي أن يوصلها وفقدها بوتين تمامًا: “عندما تعتقد أنك تفوز، ربما نكون نخسر، أو حتى ربما نكون نزرع بذور دمارنا”!
إن “الفتح” الروسي للقرم وقعقعة السيوف على حدود أوكرانيا قد يبدو خطوة استراتيجية بارعة لإعادة الهيمنة الروسية، ولكن سنوات قليلة أو حتى أشهر، ستثبت التراجع الشديد للدب الروسي، ستتصاعد العقوبات، ستصبح روسيا منبوذة دوليًا أكثر فأكثر، والتحديات الإدارية والثقافية بدأت تلوح في الأفق بالفعل مع إعادة دمج شبه جزيرة القرم مرة أخرى في روسيا. إن المناورة النابليونية التي قام بها بوتين كلفت بلاده الكثير حتى الآن، ليس فقط سياسيًا واقتصاديًا، وإنما من حيث المبادئ أيضًا!
لكن إذا قلنا إن ديستوفيسكي وضع دون قصد الأساس الفلسفي الذي يستند إليه الآن بوتين، فإن تولستوي يقدم الحل، إنه يوفر مسارًا بديلاً يمكن روسيا من العودة إلى مكانها كدولة عظمى، عبر التواضع، وليس الغطرسة. وكما كتب تولستوي في “الحرب والسلام”: “ليست هناك عظمة حيث لا يوجد الخير والبساطة والحقيقة”.
المصدر: ديلي بيست