عزل البشير أو تم خلعه، هو الآن رهن الاحتجاز والإقامة الجبرية لدى الجيش، بعد أشهر من الاحتجاجات، رفضًا لرجل استمر 30 عامًا في السلطة وكان يخطط للمزيد، الثورة السوادنية تنجح بالجهود الذاتية ودون مساعدة تذكر من مجتمع دولي لا يفعل أكثر من المطالبة بضبط النفس والتعبير عن أمنياته بمستقبل أفضل، ولا يتحرك بشكل مؤسسي إلا للحصول على رأس البشير فقط، لتقديمه للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهي جهود سلبية لن تساهم في نقل البلاد للديمقراطية التي يطلبها الشعب السوداني ويعض بالنواجذ عليها.
أين يقف السودان في اهتمامات العالم؟
حتى الآن، الجميع يترقب، لا مساندة واضحة من بلدان العالم، لإحالة السودان إلى حكم ديمقراطي تحت قيادة مدنية، بعكس تصور الجيش الذي يرى ضرورة المرور بمرحلة انتقالية مدتها عاميين، تحت حكم المجلس العسكري، وهي صيغة مرفوضة حتى الآن، وأطاحت برئيس المجلس العسكري الانتقالي في السودان عوض بن عوف الذي أعلن في بيان بثه التليفزيون الرسمي، أنه اختار الفريق عبد الفتاح البرهان رئيسًا جديدًا للمجلس، وأدى البرهان بالفعل اليمين الدستورية لاستلام مهامه رسميًا.
عوض بن عوف يتنحى عن رئاسة المجلس العسكري الانتقالي ويعين عبد الفتاح برهان خلفًا له
السؤال الذي يطرح نفسه عن التطورات الأخيرة: كيف يمكن إقامة الديمقراطية في السودان، وجميع القوى الدولية، بداية من الولايات المتحدة والجامعة العربية والاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، لا يدعون إلا لضبط النفس، وأقسى ما يمكن أن يقدموه، الأمل في غد أفضل، مع أنهم يعلمون جيًدا كيف تندلع الثورات ولا تملك في حوذتها إلا أوساط سياسية مضطربة ونخبة أكاديمية تنحاز دائمًا للأنظمة المنهارة أو للحلول المنبثقة عنها، ومعارضة مهما علا صوتها لا تملك الإمكانات الفكرية والسياسية والحقوقية لقيادة البلاد بمفردها، فلا هي تمرست على ذلك ولا تملك أصلاً تجارب ديمقراطية ناصعة داخلها، تسمح لها بتطبيقها على المجتمع؟
المعطيات السابقة تؤكد أن المجتمع الدولي ليس مستعدًا لدعم الديمقراطية في المنطقة، فالشهية الدولية فقدت زخمها لتأييد مثل هذه الحركات الديمقراطية، خوفًا من احتمالات الفوضى، فلن تكون تداعيات ثورة السودان بالنسبة لهم أفضل كثيرًا مما حدث وما زال حتى الآن في الانتفاضات باليمن وسوريا وليبيا وغيرهم من البلدان التي طالتها رياح التغيير، فشعار القوى الدولية الآن، الحذر ثم الحذر، والتركيز الكامل على الاستقرار، وهي إشارات يبدو أن المجلس العسكري السوداني يلتقطها جيدًا، وإن كان يتصرف برزانة حتى الآن مع المطالب الشعبية.
لن تكفي البيانات والأمنيات من المجتمع الدولي، لتنفيذ رغبة أبناء السودان في تسليم السلطة إلى حكومة انتقالية مدنية تعبر عن قوى الثورة
يصر الجيش السوداني رغم تقديم بعض التنازلات على الإشراف على حكومة انتقالية مدة عامين، بعدها تجري البلاد انتخابات، وهي خيارات سبق لأغلب المؤسسات العسكرية في المنطقة اللجوء إليها، ولكن مخرجاتها لم تفزر نظامًا ديمقراطيًا، سواء بسبب تعنت الأطياف المشاركة في الثورات وعدم وعيها وجهلها بأبجديات الانتقال إلى نظام مدني ديمقراطي وما يستلزمه ذلك من قوانين حداثية تستوعب الجميع وتعلو فوق الأيدلوجيا والمشروعات الخاصة، أم لسعي الأنظمة القديمة للعودة إلى السلطة مجددًا.
المهم أن مآلات المنطقة أفرزت في النهاية أنظمة لا تقنع المحتجين في السودان، إذ يرون ضرورة كاملة لعدم الإذعان لهذه الرؤى العسكرية، ويشجعون السودانيين على تنظيم الاحتجاجات والبقاء في الشوارع للمطالبة بحكومة مدنية كاملة.
كيف يمكن للمجتمع الدولي مساعدة الثوار؟
لن تكفي البيانات والأمنيات من المجتمع الدولي لتنفيذ رغبة أبناء السودان في تسليم السلطة إلى حكومة انتقالية مدنية تعبر عن قوى الثورة، وهي مطالب واضحة تستلزم عدة قرارات فورية من القوى الدولية المختلفة للمساعدة في وضع أسس من البداية لقيادة المسار الديمقراطي وتحييده عن قوى الشر التي قد تدخله إلى مسارات الفوضى، في ظل ديون هائلة واقتصاد يعاني وشبكات متعارضة في المصالح وجماعات مسلحة لم يظهر رأيها وموقفها الحقيقي حتى الآن.
جون تيمين مدير برامج فريدوم هاوس في إفريقيا، وبعض المؤسسات المؤيدة للديمقراطية في المنطقة والداعمة لها، رصدوا عدة نقاط لدعم الديمقراطية الناشئة في السودان، أولها التوقف عن نهج الجلوس والمشاهدة لما يمكن أن يفعله حزب المؤتمر الوطني، فطول الانتظار يزيد من فرص حدوث سيناريو لأسوأ حالات القمع العنيف، فالعمل الدبلوماسي القوي يفتح المجال لزيادة فرص تحقيق نتائج أكثر إيجابية، ومن أجل ذلك طالبت هذه المؤسسات بإصدار بيانات واضحة تعترف بحق مواطني السودان في الاحتجاج وتثني على الطريقة المنظمة والسلمية التي يتصرفون بها.
المعطيات السابقة، يبدو أنها تدرس التاريخ السوداني بعناية، وهو جزء لا يتجزأ من تاريخ المنطقة
المؤسسات الدولية تضع في روشتتها للانتقال الآمن، ضرورة تحمل المجتمع الدولي مسؤولياته في تجنب إراقة الدماء وإظهار ضبط النفس واحترام حقوق الإنسان وإعلان دعمه الواضح لمطالب الشعب السوداني والمساعدة في وضع أساس للانتقال السلمي للسلطة، من خلال التأكيد على التعامل فقط مع حكومة ديمقراطية، تحترم القانون الدولي لحقوق الإنسان، وتذكير الحكومة السودانية بأنها ستحاسب على سلوك قواتها الأمنية، ولكن الحذر الدولي قد يخاطر بفقدان الفرصة النحيلة، لانتزاع حل من أسنان الكارثة المحتملة، على حد تعبير هذه المؤسسات.
المعطيات السابقة، يبدو أنها تدرس التاريخ السوداني بعناية، وهو جزء لا يتجزأ من تاريخ المنطقة، فالرئيس البشير قبض على السلطة لمدة 30 عامًا رغم الضغوط الدولية، ولم يتخل عن دعم الحركات المتطرفة ولم يترك خيار العنف في دارفور ولم يهتم كثيرًا بإحالته للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وغيرها من الفظائع، فأشرف أيضًا على حرب أهلية طويلة الأمد بين شمال وجنوب السودان، انتهت باتفاق سلام في عام 2005 ولكنها أدت في النهاية إلى تفكك بلده واستقلال جنوب السودان عام 2011، لذا يخشى المحتجون أن يكون سيناريو المرحلة الانتقالية استمرار بوجوه أخرى لنفس النظام تقوي شوكتها وتدعم شبكة مصالحها داخليًا وخارجيًا، ووقتها لن تفلح أي ضغوط في التعامل معها، وبدلاً من التحرك نحو الديمقراطية وحكومة يقودها المدنيون، ستنزلق البلاد إلى مستنقع الفوضى.
ماذا في جعبة العالم؟
بحوذة المجتمع الدولي الكثير من الأوراق التي يمكن استخدامها لدفع السودان إلى مستقبل أفضل، و”الضغط الدبلوماسي” في وقت مبكر جدًا على السلطة الحاليّة للامتثال لمطالب السودانيين ومساعدتهم في التحول الديمقراطي، قبل أن تحتكم البلاد إلى النزعات العرقية والطائفية، وتبرز المشروعات الأيدلوجية المتطرفة بجميع ألوانها وأشكالها، ويتصارع كل منهم على سن أسنانه لابتلاع البلاد، كما هو الحال في البلاد العربية التي مرت على نفس الفخاخ قبل 9 أعوام.
يرتبط السودان بعلاقة إنمائية قوية مع الاتحاد الأوروبي الذي يكثف جهوده فيه للمساهمة في تهيئة بيئة اجتماعية اقتصادية أكثر شمولاً، تهدف لتعميق مشاركته في برامج مكافحة الهجرة
ويملك السودان واقعًا جغرافيًا فريدًا، إذ يقف على مفترق طرق بين جنوب صحراء وشمال إفريقيا وشبه الجزيرة العربية، كما يربط شرق إفريقيا بليبيا ومصر والاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف، واقتصاديًا يعاني السودان من الصراعات بالبلدان المحيطة به التي أدت إلى نزوح أعداد كبيرة من الناس، لا سيما في دارفور التي ما زالت تدير الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على انفصال جنوب السودان عام 2011.
يرتبط السودان بعلاقة إنمائية قوية مع الاتحاد الأوروبي الذي يكثف جهوده فيه للمساهمة في تهيئة بيئة اجتماعية اقتصادية أكثر شمولاً، تهدف لتعميق مشاركته في برامج مكافحة الهجرة، وعلى الرغم من عدم تصديق السودان على اتفاقية كوتونو المنقحة التي تربط بين 78 دولة من إفريقيا والكاريبي والهادي بدول الاتحاد الأوروبي لمدة 20 عامًا جديدة، وفقًا لقواعد منظمة التجارة العالمية، إلا أن الاتحاد الأوروبي لا يزال ملتزمًا تجاه شعب السودان.
وتقدم أوروبا منذ عام 2010 نحو 196 مليون يورو من صندوق التنمية الأوروبي لتلبية احتياجات الأشخاص الذين يعيشون في المناطق المتأثرة بالصراع، كجزء من هذا الدعم الشامل، كما يقدم للسودان منذ مارس 2016 نحو 100 مليون يورو من خلال صندوق الطوارئ التابع للاتحاد الأوروبي لإفريقيا، لتنفيذ التدابير الخاصة للاتحاد في دارفور والولايات الشرقية للبحر الأحمر وكسالا وجدارف، ويركز في هذه المساعدات على توفير الاحتياجات الأساسية في التعليم والصحة وسبل العيش والأمن الغذائي وتعزيز المجتمع المدني والحكم المحلي وبناء السلام.
يستفيد السودان من تمويل برامج الجهات الفاعلة في مجال الأمن الغذائي غير التابعة للاتحاد الأوروبي، وهي أداة تسهم في الاستقرار والسلام
كما يقدم الاتحاد، من الصندوق الاستئماني للطوارئ، برنامج تطوير وحماية بقيمة 15 مليون يورو للاجئين والمجتمعات المضيفة في شرق السودان والخرطوم، كما يقدم له 40 مليون يورو من مشروع تحسين قدرة البلدان على طول طريق شرق الهجرة لتحسين إدارة الهجرة، وجميعها إجراءات يهدف من خلالها الاتحاد الأوروبي الوفاء بتعهدات قطعها على نفسه خلال قمة الهجرة بين إفريقيا والاتحاد الأوروبي التي انعقدت في فاليتا نوفمبر 2015، لتسهيل تقدم الحوار بشأن الهجرة بين الاتحاد الأوروبي وإفريقيا، وخص السودان في هذه الاتفاقية الكثير، على المستوى الثنائي وعلى المستوى الإقليمي.
كما يستفيد السودان أيضًا من تمويل برامج الجهات الفاعلة في مجال الأمن الغذائي وغير التابعة للاتحاد الأوروبي، وهي أداة تسهم في الاستقرار والسلام وتمرير الأفكار الأوروبية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى مجتمع يقف على قدميه الآن، رافضًا كل الحلول الوسط، وهو واجب المجتمع الدولي، فإما الديمقراطية وإما المجهول!