لا شك أن حزب العدالة والتنمية تلقى ضربة بخسارته بلديات أنقرة وإسطنبول وأنطاليا أمام حزب الشعب الجمهوري، مما جعل هناك حالة رأي عام أو انطباع لدى القارئ العربي أن الحزب تعرض لهزيمة ساحقة أو أنه لن يستطيع المنافسة في الانتخابات القادمة، وقال بعض المتابعين إن قصة نجاح الحزب انتهت، وفي الواقع يوجد في هذا شيء من المبالغة.
ومما لا شك فيه أن النتيجة الحاليّة لها تأثير عميق وكبير يستدعي يقظة واهتمام كل حزب لكل صوت يمكن أن يحصل عليه، ولكن بقراءة موضوعية يوجد عدد من النقاط الإيجابية بالنسبة لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية التي أجريت في تركيا في 31 من مارس 2019 رغم خسارته لبلديات مهمة مثل أنقرة وإسطنبول وأنطاليا وعدم تمكنه من الفوز ببلدية إزمير رغم ترشيحه لشخصيات قوية ومعروفة لرئاسة هذه البلديات.
1- الانتخابات القادمة بعد 4 سنوات ونصف
لن تستفيد المعارضة التركية من هذا الإنجاز الذي حققته بفوزها ببلديات أنقرة وإسطنبول حسب النتائج الأولية كما لو كانت الانتخابات العامة في تركيا ستجرى بعد شهرين أو 3 من الآن، ولذلك فإن القرار الذي اتخذه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي قام من خلاله بتبكير الانتخابات العامة إلى شهر يونيو 2018 بدلاً من إجرائها في شهر أبريل أو مايو 2019 كان قرارًا له قيمته، حيث جنب الحزب دخول الانتخابات في ظل وضع اقتصادي غير إيجابي وفي ظل وضع لم تكن المعارضة فيه آنذاك قد توصلت لآلية للتوافق على مرشح واحد، ورغم أن النتيجة تعطي للجميع مؤشرات قوية لضرورة العمل وبذل كل الجهود للفوز بأصوات الناخبين، فإن 4 سنوات ونصف قد تكون كافية وبعيدة لتستفيد المعارضة مما حققته كما لو كانت الانتخابات بعد أشهر من الآن.
صحيح أن حزب العدالة والتنمية خسر حتى الآن رئاسة البلدية في إسطنبول وأنقرة، لكن طبيعة الانتخابات البلدية في تركيا التي تفصل بين انتخاب رئيس البلدية الكبرى ورؤساء البلديات الصغرى داخل البلدية الكبرى تجعل عدد أعضاء حزب العدالة والتنمية في مجلس البلدية الكبرى أكثر من عدد أعضاء حزب الشعب الجمهوري
ولكن هنا أيضًا ينبغي أن نتوقف عند نقطة مهمة وهي أن حزب العدالة والتنمية سيكون أمام تحدٍ في إيجاد التوازن بين إجراءات الإصلاح الاقتصادي التي ستتطلب تدابير تقشف ورفع لبعض الأرقام التي قد تؤذي المواطن وبين رضا المواطن وكسب صوته.
2- عضوية المجالس البلدية في المدن الكبرى
صحيح أن حزب العدالة والتنمية خسر حتى الآن رئاسة البلدية في إسطنبول وأنقرة، ولكن طبيعة الانتخابات البلدية في تركيا التي تفصل بين انتخاب رئيس البلدية الكبرى ورؤساء البلديات الصغرى داخل البلدية الكبرى تجعل عدد أعضاء حزب العدالة والتنمية في مجلس البلدية الكبرى أكثر من عدد أعضاء حزب الشعب الجمهوري، وكما ذكر في مجلة كرايتر التركية فإن الأرقام المتوقعة لمجالس بلديات إسطنبول وأنقرة للأحزاب هي كالتالي:
تشكيل المجلس البلدي المتوقع في أنقرة وفق النتيجة الحاليّة: يحصل تحالف الجمهور (العدالة والحركة القومية) على 105 أعضاء ويحصل تحالف الأمة (حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد) على 42 عضوًا، وبالتالي تكون الأغلبية في المجلس لحزب العدالة ولحليفه الحركة القومية.
أما إسطنبول فإن تشكيل المجلس البلدي المتوقع فيها تبعًا للنتيجة الحاليّة: حصول حزب العدالة 180 عضوًا وحزب الشعب الجمهوري على 135 عضوًا وبالتالي تكون الأغلبية في المجلس لحزب العدالة ولحليفه الحركة القومية.
لو تم إقرار النتيجة الحاليّة بفوز حزب الشعب الجمهوري ببلدية إسطنبول فإن موضوعًا جدليًا سيطرح للنقاش وهو موضوع العلاقة بين رئيس البلدية والمجلس البلدي بشأن الصلاحيات وهذا على الأغلب سيحد من حرية رئيس البلدية
وللمجلس البلدي في تركيا صلاحيات مهمة منها أنه يقر/يرفض الخطط الإستراتيجية للبلدية ويقر الميزانيات والمشاريع وله حق متابعة وتقييم أداء العاملين كما يتدخل في ديون البلدية وبرامج استثمارات البلدية ويقر خطط الإعمار ويحدد قيمة رسوم وضرائب البلديات ويحدد أسماء الشوارع والأزقة وغيرها من الصلاحيات.
لو تم إقرار النتيجة الحاليّة بفوز حزب الشعب الجمهوري ببلدية إسطنبول فإن موضوعًا جدليًا سيطرح للنقاش وهو موضوع العلاقة بين رئيس البلدية والمجلس البلدي بشأن الصلاحيات، وهذا على الأغلب سيحد من حرية رئيس البلدية على عكس البلديات التي فاز بها حزب العدالة والتنمية التي يتكون أغلب المجلس البلدي فيها من أعضائه.
3- الفوز في الشرق والجنوب الشرقي
فاز حزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات في 3 بلديات مهمة في منطقة الشرق والجنوب الشرقي ذي الأغلبية الكردية على حزب الشعوب الديمقراطية، حيث حصل حزب العدالة والتنمية على بلديات مدن شرناق وأغري وبيتليس وهي إحدى النقاط الإيجابية بالنسبة لحزب العدالة والتنمية في انتخابات 31 من مارس، حتى إن الرئيس التركي وجه شكرًا خاصًا لما وصفه في حديثه بـ”أخوتي الأكراد” لدعمهم، مع العلم أن الأصوات المؤيدة لحزب الشعوب الديمقراطية في الغرب وفي مدن مثل إسطنبول وإزمير ذهبت لحزب الشعب الجمهوري.
وبالطبع هنا أسباب لا بد أن نتوقف عندها عندما نتحدث عن فوز حزب العدالة والتنمية بـ3 مدن في الشرق هي شرناق وبيتليس وأغري من حزب الشعوب الديمقراطية الذي كان من أهمها:
1- التواصل مع العشائر الكردية في المنطقة والحصول على دعمها.
حزب العدالة والتنمية بحاجة للتواصل مع الناخب الكردي في الغرب ومراعاته في خطاب حملته الانتخابية، فنجاح الحزب في الشرق يعطيه أملاً في كسب المزيد من الدعم في تلك المنطقة
2- نجاح الفترة الماضية بتقديم خدمات ملموسة للمواطنين من خلال إدارة ما يسمى بـ”القيوم” وهم أشخاص عينتهم الدولة لإدارة البلديات بعد مقاضاة رؤساء البلديات السابقين تتعلق بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني.
3- تقديم حزب العدالة لمرشحين أكراد يحظون بالدعم الشعبي في هذه المدن.
4- إنهاء وزارة الداخلية لعمليات التهديد التي كان يمارسها حزب العمال الكردستاني على الناخبين في العمليات الانتخابية السابقة.
وتبين هذه الأسباب أن حزب العدالة والتنمية بحاجة للتواصل مع الناخب الكردي في الغرب ومراعاته في خطاب حملته الانتخابية، فنجاح الحزب في الشرق يعطيه أملاً في كسب المزيد من الدعم في تلك المنطقة وفي الغرب أيضًا، وإن كان الغرب ليس بهذه السهولة نظرًا لأن أنصار الحزب هناك مؤدلجين بطريقة أقرب للعداء مع حزب العدالة والتنمية والحركة القومية.
4- التعلم من الأخطاء
كما يذكر العديد من المحللين الأتراك المؤيدين منهم والمعارضين لحزب العدالة والتنمية فإن حزب العدالة والتنمية حزب يتعلم من أخطائه بعد كل تجربة يخوضها، ولهذا فإن خسارة المدن الكبرى ستجعل الحزب يراجع ما فعله في المرحلة السابقة بشكل كامل للتصالح مع الناخب وسيراجع الأسباب التي أدت لهذه النتيجة سواء ما تعلق منها باختيار المرشحين أم تكتيكات الحملة الانتخابية.
قد يرى كثيرون أن تراجع حزب العدالة إن صح التعبير هو بسبب تحالفه مع حزب قومي ولكن تحالف الجمهور المكون من حزب العدالة والتنمية والحركة القومية حصل على نسبة 52% تقريبًا في عموم تركيا
وهنا أيضًا يقتضي التنويه أن هناك خللاً جرى في هذا الموضوع في الانتخابات البلدية، حيث بدا أن هناك انتقادات متكررة في الانتخابات السابقة ومنها على سبيل المثال ترشيح أشخاص ليس لديهم قبول كبير ودعم كبير من المجتمع أو يوجد بينهم وبين المجتمع حاجز ما، أما حزب الشعب الجمهوري فقد بدا متعلمًا من أخطائه، حيث حرص على عدم استفزاز قيم الشعب الدينية وقدم مرشحين محافظين وكأن اللعبة الانتخابية تقول إنها مع الحزب الذي يستطيع أن يتعلم من أخطائه بشكل أكبر.
5- نتيجة التحالف مع الحركة القومية في عموم تركيا
قد يرى كثيرون أن تراجع حزب العدالة إن صح التعبير هو بسبب تحالفه مع حزب قومي ولكن تحالف الجمهور المكون من حزب العدالة والتنمية والحركة القومية حصل على نسبة 52% تقريبًا في عموم تركيا فيما حصل تحالف الأمة المكون من الحزب الجيد والشعب الجمهوري على 37% والمدعوم من حزب الشعوب الديمقراطية في مدن الغرب كما حصل حزب الشعوب الديمقراطية على قرابة 4%.
وحصول تحالف الجمهور على نسبة 52% رغم المشاكل الاقتصادية وارتفاع معدلات التضخم والبطالة هي رسالة من الناخب بدعم النظام السياسي القائم مع أن الناخب أراد أن يوجه تنبيهًا أو “قرصة أذن” لحزب العدالة والتنمية في بعض البلديات.
مع كل هذه النقاط من بين أمور أخرى سيبدو حزب العدالة والتنمية أكثر راحة في حال تمت إعادة الانتخابات في إسطنبول وهو خيار ما زال واردًا حتى الآن وإذا استطاع الحزب الفوز بها من جديد فستكون نقطة إضافية له وكذلك يمكن أن تكون نقطة استفزاز للمعارضة تحثها على بذل مزيد من الجهود للمنافسة عليها وعلى استحقاقات أكبر.