“كرة القدم لم تعد مجرد لعبة أصبحت أسلوب حياة” جاءت هذه الكلمات على لسان جورج ويا أعظم لاعبي القارة السمراء وهو اللاعب الإفريقي الوحيد الحائز على جائزة أفضل لاعب في العالم، معبرة عن نظرته الفلسفية لهذه اللعبة وتأثيرها الذي ضرب بجذوره جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وقد استطاع الأورغوايني إدواردو غاليانو، عن طريق كتابه “كرة القدم بين الشمس والظل” أن يكشف لنا قبح وجمال هذه اللعبة، وكيف أنها تعكس لنا حقيقة هذا العالم، فيقول غاليانو: “كرة القدم مرآة العالم، تقدم ألف حكاية وحكاية فيها المجد والاستغلال والحب والبؤس، وفيها يبدأ الصراع بين الحرية والخوف من المطالبة بها، باتت كرة القدم تخضع لقوانين السوق، بحيث يلعب اللاعبون من أجل الربح أو لمنع خصومهم من الربح، فيما يظهرون بين الناس كمن يجعل الوهم ممكنًا”.
ولو قمنا باستبدال كلمة كرة القدم بكلمة حياة الإنسان المعاصر لن نجد صعوبة في فهم هذه الكلمات المتراصة ولن يختلف المعنى كثيرًا، ففي ظل هيمنة الرأسمالية على العالم باتت الحياة بكل أشكالها تمثل سوقًا كبيرًا علت فيه القيم المادية على كل شيء والربح هو الهدف السامي فيها، وأن السعي في طريق غير تحقيق الأهداف المادية يعد دربًا من الخيال.
أصبح الإنسان المعاصر و”الاغتراب” الذي طالما وصف أعراضه ماركس مترابطين بل أصبح سمة من سماته، فيمكننا أن نقول إن اللاعب يركض لاهثًا على شفير الهاوية، في جانب تنتظره سماوات المجد، وفي الجانب الآخر ينتظره النسيان والفشل، ويمكننا أن نرى هذا بكل وضوح على الإنسان هو في نفس الصراع دون كرة يركض لاهثًا من أجل الحصول على الشهادة ومن ثم الحصول على وظيفة ثم يحاول الحصول على مكانة راقية في المجتمع، وفي ظل ركضه يكون محاطًا بالرعب من السقوط من قطار المجتمع، فيجد الإنسان نفسه في صراع دائم مع بني جنسه للحصول علي مكان له، ليس فقط في المجد بل في الحياه الطبيعية، فيغترب ليس فقط عمن حوله بل عن ذاته.
لماذا أصبحت كرة القدم الرياضة الأولى عالميًا؟
ربما تمكننا الإجابة عن هذا السؤال من معرفة الرابط وأوجه التشابه بين كرة القدم والحياة، يقول علماء الأنثروبولوجيا إن الرياضة هي انعكاس القيم الأساسية والحياة المجتمعية على شكل ثقافات تحدد الأطر العامة لحياة الإنسان، فكرة القدم ثقافة حقيقية لجميع البشر باختلافاتهم الاجتماعية والثقافية، حيث تحمل هذه اللعبة فيها جينات الشعوب وثقافتهم كما يحمل شريط الـDNA الصفات الوراثية لهم.
كان السبيل الوحيد للهروب من الهرم الاجتماعي حيث الزنوج في الأسفل والبيض في الأعلى، هو كرة القدم، فكما وصفها غاليانو قائلاً: “الكرة هي العصا السحرية التي يمكنه أن يؤم بها”
يقول الشاعر الكبير محمود درويش: “ونحن أيضًا نحب كرة القدم، ونحن أيضًا يحق لنا أن نحب كرة القدم، ويحق لنا أن نرى المباراة، لم لا؟ لم لا نخرج قليلاً من روتين الموت”، في فترة القصف الإسرائيلي لبيروت عام 1982، حيث رأى درويش أن كرة القدم أبسط الحقوق التي يجب أن يمتلكها الشعوب، وأنها الطريق الأصح لتحرر الشعب من ضغوط الحياة والحروب والموت، أما في أدغال إفريقيا تتعلم أشبال الأسود اللعب مع باقي أشبال زمرتها ليس من أجل التسلية فقط، بل من أجل التعلم والتمرن ومن أجل البقاء على قيد الحياة في البرية.
ولا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة لأشبال البشر في هذه القارة المغتصبة، فيلعب الأطفال بعرض وطول القارة كرة القدم حفاة الأقدام، ليس فقط من أجل التسلية بل من أجل البقاء على قيد الحياة أيضًا، فعليه أن يلعب ليذهب إلى بلاد البيض فيأتي بالشهرة والمال ويوفر الحياة لعائلته بالإضافة إلى إمكانية حصوله على جنسية هذه البلاد.
كان السبيل الوحيد للهروب من الهرم الاجتماعي حيث الزنوج في الأسفل والبيض في الأعلى هو كرة القدم، فكما وصفها غاليانو قائلاً: “فالكرة هي العصا السحرية التي يمكنه أن يؤم بها، فقد توفر له الطعام أو تحوله إلى بطل، وربما إلى إله”.
تستطيع كرة القدم أحيانًا توفير حياة عادلة رغم أنف أصحاب السلطة، ففي جانبها الجميل والحر تملك أن توفر الحرية والمساواة للبشر بمختلف ألوانهم وطبقاتهم، فنرى الماركسي الشهير الإيطالي أنطونيو غرامشي يقول: “كرة القدم هي مملكة الوفاء البشري التي تمارس في الهواء الطلق”، ونجدها مصدرًا للشعور بالكبرياء والانتصار والإحساس بالاستقلالية كالشعوب التي عانت من ويلات الاستعمار مثل الشعب الجزائري الذي ثار على محتله الفرنسي على أرض الملعب كما ثار عليه في جولات القتال.
كرة القدم تظهر من عين صغيرة على أنها مباراة 90 دقيقة في الملعب بين 22 لاعبًا فقط، لكنها في حقيقتها حياة أخرى مليئة خارج الملعب بالقصص والحكايات والتأملات
فاز المنتخب الجزائري على المنتخب الفرنسي عام 1975 على أرض ملعب “5 يوليو” في الجزائر، وقد عزف النشيد الوطني الجزائري أمام المنتخب الفرنسي وانتهت المباراة بتحية المنتخب الفرنسي لنظيره الجزائري بعد 13 عامًا من الاستقلال وتحت أعين الرئيس الجزائري هواري بومدين آنذاك، وقبلها بثلاثة عقود على الضفة الأخرى من البحر كان فريقا إقليم الباسك وبرشلونة يخوضان مبارياتهما في أوروبا والولايات المتحدة كرمز للمقاومة الديمقراطية ضد فاشية فرانكو آنذاك في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، وفي أثناء حرب التشاكو بين بوليفيا وباراغواي، شكل الصليب الأحمر في الباراغواي فريقًا لكرة القدم وأخذ يجول في الأرجنتين والأوروغواي للعب مباريات وجمع الأموال الكافية لمعالجة الجرحى من الطرفين، فدائمًا ما كانت كرة القدم قادرة على توجيه شغف وحماس محبيها نحو أمور إنسانية.
كرة القدم تظهر من عين صغيرة على أنها مباراة 90 دقيقة في الملعب بين 22 لاعبًا فقط، لكنها في حقيقتها حياة أخرى مليئة خارج الملعب بالقصص والحكايات والتأملات، يقول الفيلسوف الوجودي والكاتب الفرنسي الجزائري الذي كان حارسًا لمرمى جامعة الجزائر قبل أن يقتلعه الفقر إلى الأدب: “تعلمت أن الكرة لا تأتي مطلقًا نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها، وقد ساعدني ذلك كثيرًا في الحياة، وخصوصًا في المدن الكبيرة، حيث إن الناس لا يكونون مستقيمين عادة”.
فبنظرة تأمل تجد أن كرة القدم والحياة وجهان لعملة واحدة، فهي ليست عادلة ولا كاملة دائمًا لمن يريدها مثل الحياة، فتحمل في طياتها السعادة والشقاء، فبينما يستمر نجومها المحترفين في لعبها بكرات تتدحرج من القرية الباكستانية عمر قوت التي تصنع بيد الطفل محمد أشرف، الذي حالما تأتيه الفرصة لتعلم الإنجليزية سيتوقف عن صنعها، فحينها سيكون قادرًا على قراءة الكلمات المكتوبة على العلامة التي يلصقها على الكرة “هذه الكرة ليست من صنع الأطفال”، والى حين أن يتعلم محمد أشرف الإنجليزية ستظل الحياة والكرة في فلسفتها تسير جنبًا إلى جنب مع الحياة.