“يجب أن نتنبه دائمًا إلى أننا لا نشتري من الغرباء أكثر مما نبيع لهم؛ لذلك يجب علينا إفقار أنفسنا وإثرائهم”. هذه الكلمات، التي كُتبت عام 1549، والتي نُسبت إلى الدبلوماسي الإنجليزي توماس سميث، هي واحدة من أوائل التعبيرات المعروفة لما أصبح يُطلق عليه “الإتجارية أو مذهب التجاريين”، ويُعرف في اللغة العربية المعاصرة بأنه “نزعة للمتاجرة من غير اهتمام بأي شيء آخر“.
هذه الكلمات يمكن أن تنطبق في زمننا الحاضر، حتى أنه من الممكن أن يغرد بها بسهولة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب – وهو أبرز تاجر اليوم – على صفحته في “تويتر”، إذ يعتقد ترامب – أو يقول على الأقل – أن الولايات المتحدة تخسر عندما تدير عجزًا تجاريًا مع بلدان أخرى، ويبدو أن الكثير من الأمريكيين يوافقون على ذلك.
ومع ذلك، قدم الاقتصاديان آدم سميث وديفيد ريكاردو القضية الحاسمة ضد “المذهب التجاري” في مقابل تأييدهما للتبادل التجاري الحر منذ أكثر من 200 عام، وأقنعت حججهم كل خبير اقتصادي تقريبًا منذ ذلك الحين، لكن يبدو أنهم حققوا جولات محدودة مع الجمهور الأوسع، حيث تُظهر استطلاعات الرأي دعمًا عامًا ضعيفًا للتجارة الحرة وفهمًا أقل لمزاياها وأهدافها.
مفارقات التجارة الحرة
تساهم التجارة الحرة في حركة ملايين الأطنان من البضائع، وتجلب الكثير من الرخاء إلى العالم، وهذا شيء جميل حتى الآن، لكن الحمائية والانعزال يعتبران من الأمور السيئة، فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب يفرض رسومًا جمركية عقابية على واردات الصلب، ويهدد الأوروبيون والصين بالرد على ذلك، فهل هي بداية حرب تجارية؟
بينما تحتفل بعض الدول بعلو سقف ما حققته في التصدير لبلدان العالم تدمر التجارة الحرة وجود الكثيرين في بلدان أخرى
كما سبق أن عبّر ترامب مرارًا عن معارضته لاتفاقات التجارة الحرة متعدّدة الأطراف مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية “نافتا” واتفاقية “الشراكة عبر المحيط الهادئ”، فيما وصف الاتفاقية التجارية الجديدة بين أمريكا والمكسيك وكندا بأنها تحل الكثير من العيوب والأخطاء في اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية.
….I am a Tariff Man. When people or countries come in to raid the great wealth of our Nation, I want them to pay for the privilege of doing so. It will always be the best way to max out our economic power. We are right now taking in $billions in Tariffs. MAKE AMERICA RICH AGAIN
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) December 4, 2018
ويشير ذلك إلى الخداع الذي يُمارس في التجارة العالمية، فالنزاع حول التجارة الحرة مليء بالتناقضات، فبينما تحتفل بعض الدول بعلو سقف ما حققته في التصدير لبلدان العالم تدمر التجارة الحرة وجود الكثيرين في بلدان أخرى، فمن هم الفائزون الحقيقيون؟
في ميناء هامبورغ، بوابة البضائع من الشرق الأقصى، يجري تصدير البضائع الألمانية إلى جميع أنحاء العالم، وتصل إليه 9 مليون حاوية سنويًا أغلبها من الصين، وهناك رسوم على الواردات إلى الاتحاد الأوروبي، منها 10% على السيارات من آسيا أو أمريكا، والهواتف الذكية بدون رسوم، لكن الرسوم الجمركية معقدة، وهناك الآلاف منها بتنوعات غير محدودة.
في فيلم دعائي تقدم شركة “فوجي تا” الصينية نفسها بفخر كأكبر شركة لصنع الدراجات الهوائية في العالم، وتدعم الدولة الصينينة مثل هذه الشركات ماليًا، لكن ليس لهذا السبب وحده تنتج الصين بأسعار لا تُنافس، فبإمكانها إغراق العالم بأكماله بقدرتها على تصنيع مئة مليون دراجة في العام، وهذا كابوس لبعض الشركات في هذا المجال، فالعقوبة التي فرضها الاتحاد الأوروبي تحمي صناعة الدراجات الهوائية الأوروبية.
العقوبات الجمركية تجعل الدراجات الهوائية الصينية أغلى ثمنًا في أوروبا؛ أي أنها تعيق الاستيراد، ولكنها تمثل حمائية خالصة أيضًا، لهذا السبب تتم معالجة هياكل الدراجات التي تأتي من الصين في تايوان، وهذا يلغي العقوبة الجمركية، وفي أوروبا تجري فقط عملية التجميع النهائي على الهياكل الصينينة، وهذا يؤمِّن العمل لمئة ألف شخص في أوروبا.
عندما فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات جمركية على الدراجات الهوائية من الصين، أتت فجاة دراجات هوائية من كمبوديا وأندونيسيا وماليزيا وبلدان أخرى إلى الاتحاد الأوروبي، وعندما تبين أن الأمر يتعلق بدراجات صينية تم فرض عقوبات جمركية على تلك البلدان أيضًا. الآن تقوم تونس بالتصدير والنتيجة عقوبة جمركية جديدة.
مع اتخاذ هذه الاجراءات تحاول الصناعة الصينية بكافة الطرق، فاليوم الوصول إلى أجزاء من الدراجات من الصين، أمَّا الهيكل المعدني فيتم تصنيعه في مكان آخر كتايوان مثلاً، وهناك يحدث ما يُسمى “إضافة القيمة”، وهذا يعني عدم فرض عقوبة جمركية عند الإدخال إلى الاتحاد الأوروبي.
الولايات المتحدة أيضًا تبين كيف سيبدو الأمر في حال عدم حماية سوق الدراجات الهوائية من خلال العقوبات الجمركية. في السابق كانت المتاجر تبيع الماركات الأمريكية المعروفة التي تُنتج في أمريكا، لكن لوضع تغير كليًا منذ بضع سنوات، بقيت هناك بعض الماركات، لكن منشأ الدراجات هو نفسه دائمًا، إنه الصين.
توصل التُجار إلى أنه بدون حمائية كتلك المتبعة في أوروبا سيُغرَقون بالدراجات الهوائية الصينية، فإغراق الأسعار من جانب الصين دَّمر الكثير من الوظائف في أمريكا – كما في بنسلفينيا – حيث كانت صناعة الدراجات الهوائية قوية، وفي حين يهدد الرئيس ترامب بالكثير من العقوبات الجمركية فإن الدراجات الهوائية ليست بينها.
خدعة التجارة الحرة
التجارة العالمية هي بالفعل تجارة رابحة بالنسبة لبعض الدول الأوربية، ففي السنة الماضية صدَّرت ألمانيا بضائع بقية 1.2 بليون يورو، وصدَّر الاتحاد الأوربي والصين أكثر مما استوردا، وسجلت ألمانيا فائضًا قدره 250 مليار يورو، أمَّا أمريكا فقد سجلت عجزًا قدره نصف بليون، حيث تستورد أكثر بكثير مما تصدِّر وتراكم الديون على نفسها، فالعجز لدى آحدهم يعني فائضًا لدى الآخر.
لم تنعكس سياسات الحمائية التجارية التي أنتهجتها البلدان إيجابًا على النمو والتنمية الاقتصادية، بل أوجدت حالة من الريع استفاد منها فقط بعض رجال الأعمال المقربين من الأنظمة الحاكمة
الإنتاج الرخيص في الصين كلَّف خسارة مئات الآف الوظائف، وعلى الأخص في أمريكا، ففي فيلادلفيا (أكبر مدن ولاية بينسلفينيا الأمريكية) تزدهر المدينة، لكن في الريف اختفت الوظائف ومعها المعامل كما هو الحال في كل أنحاء أمريكا، وهو ما أدِّى إلى إطلاق مبادرات وصيحات تحذير تشجع على استبدال عروض المنتجات العالمية بأخرى محلية بهدف إنقاذ أماكن العمل التي انتقل بعضها إلى المكسيك، بعد أن أدَّى إغلاق المعامل إلى إفراغ المنطقة من السكان.
لكن ماذا سيحصل إذا اشترى الجميع منتجات محلية فقط، وأغُلقت الحدود، وسادت الحمائية؟ وتُعرف على أنها السياسة الاقتصادية لتقييد التجارة بين الدول حماية الإنتاج الوطني من المنافسة الأجنبية، من خلال طرق مثل رفع الرسوم الجمركية على السلع المستوردة، و تحديد كمياتها والحصص التقييدية، ومجموعة متنوعة من غيرها من الأنظمة الحكومية المقيدة التي تهدف إلى تثبيت الواردات والحد من الاستيراد ومنع ولوج السلع الأجنبية إلى الأسواق الداخلية.
نعود إلي بداية القرن العشرين لتوضيح الأمر، ففي هذا التوقيت سجَّلت التجارة العالمية الحرة والعولمة أول النجاجات، وبعدها ساءت الأمور، حيث غرقت أمريكا في الكساد الكبير، ودخلت ألمانيا في أزمة اقتصادية قاسية، وكان اللجوء إلى الانعزال النصيحة حينها.
في بداية ثلاثينيات القرن الماضي بحثت أمريكا عن التعافي في اعتماد حمائية عدوانية، فرفعت الرسوم الجمركية بشكل كبير لحماية الصناعة وأماكن العمل. ألمانيا أيضًا أغلقت حدودها، ونشأ مزيج خطير من الحمائية والقومية، وكانت النهاية المشؤومة هي الحرب العالمية الثانية التي شهدت انهيار شبه تام للتجارة الدولية.
بعد الحرب انطلق عالم مزعزع لبناء نظام تجاري جديد أقوى، وكانت النتائج مثيرة للإعجاب، حيث عُقدت الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة، والجماعة الاقتصادية الأوروبية، واتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، بالإضافة إلى العديد من الصفقات التجارية الأخرى.
وحتى اليوم تقوم منظمة التجارة العالمية – التي مقرها جنيف – بتنظيم التجارة الحرة، وتتعهد بـ”الرخاء للجميع” من خلال التجارة الحرة، لكنها لم تنجح أبدًا في تحقيقه، بل على العكس، تتعرض المنظمة لانتقاد شديد، بينما أمريكا تحت قيادة ترامب تتجاهلها تقريبًا.
لمنع إغراق الأسواق بالمنتجات الصينية فرض الاتحاد الأوروبي 53 عقوبة جمركية على الصلب والسيراميك وحتى ألواح الكوي
هل نحن مهددون بدوامة هبوط جديدة بفعل الحمائية أم علينا التدقيق أكثر في الوضع؟ يؤكد العديد من الاقتصاديين أن البلدان التي حققت مستويات متقدمة من التنمية في العقود الأخيرة (مثل كوريا الجنوبية والصين والهند والبرازيل) لم تنفتح على التجارة الحرة إلا بعد أن بنت نسيجًا في مجال المقاولات وآلة إنتاجية وطنية قادرة على مواجهة المنافسة الأجنبية والتصدير في اتجاه الأسواق الدولية، وكذلك كان الأمر بالنسبة للقوى الاقتصادية الأخرى (مثل الولايات المتحدة وألمانيا واليابان) التي طورت صناعاتها في مراحل سابقة تحت سقف الحمائية.
لكن في المقابل أخفقت كثير من البلدان النامية في بناء صناعات متطورة وقادرة على المنافسة الدولية، كما بيَّن المؤرخ الاقتصادي بول بيروك في كتابه “أساطير وتناقضات التاريخ الاقتصادي”، وبحسب قوله، لم تنعكس سياسات الحمائية التجارية التي أنتهجتها هذه البلدان إيجابًا على النمو والتنمية الاقتصادية، بل أوجدت حالة من الريع استفاد منها فقط بعض رجال الأعمال المقربين من الأنظمة الحاكمة.
المنافسة الرخيصة
في مدينة “ميول أكا” في ولاية فورستنبرغ، حيث المدينة مزدهرة والحركة البناء قوية، تنتج مجموعة “شتويلا” البلاط من كل الأنواع، لكنها تواجه مجموعة منافسة قوية من الصين، فأسعار البلاط الصيني لا تُنافس، لذلك فرض الاتحاد الأووبي عقوبة جمركية (26% رسوم إضافية) على هذا البلاط البلاط المستورد، وهذا يحمي الوظائف المحلية من المنافسة القادمة الشرق الأقصى.
بات نساء القرى في الغابة المطيرة شمال العاصمة الكاميرونية ياوندي مرغمات الآن على زراعة نبات الكاسافا، بعد أن توقفت زراعة البصل منذ أغرق البصل المستورد من أوروبا السوق
العقوبة الجمركية على البلاط هي إجراء وقائي خالص، لكنها –كما يقولون- تحمي الوظائف وتساعد على تطبيق معايير إنتاجية وبيئية أفضل من تلك الموجودة في الصين، وبدون هذه الحمائية لا يستطبع البلاط الألماني والأوروبي منافسة البلاط الصيني، وربما يصبح البلاط المصنوع في ألمانيا أمر من الماضي.
ولمنع إغراق الأسواق بالمنتجات الصينية فرض الاتحاد الأوروبي 53 عقوبة جمركية على الصلب والسيراميك وحتى ألواح الكوي، وتغطي منظمة التجارة العالمية رسوم مكافحة الإغراق، وتزدهر الحمائية، لكن في حين يكون الاتحاد الأوروبي قادرًا على فرض عقوبات جمركية، لم تستطع دول أخرى أن تفعل ذلك.
على سبيل المثال، بات نساء القرى في الغابة المطيرة شمال العاصمة الكاميرونية ياوندي مرغمات الآن على زراعة نبات الكاسافا، بعد أن توقفت زراعة البصل منذ أغرق البصل المستورد من أوروبا السوق، وتراجعت كميات البصل المحلي في سوق ياوندي، ولا يقتصر تضرر المزارعين على البصل وحده، فهناك منتجات أخرى مثل الثوم الصيني الذي يُغرِق الكاميرون ذات التربة الخصبة.
طوال سنوات تقوم شركات أوروبية بتصدير قطع الدجاج التي لا يرغب فيها أحد في أوروبا إلى الكاميرون، وهو ما أضر بتربية الدجاج لدى السكان المحليين، فلم يعد أحد يشتري الدجاج المحلي إلى أن تصرفت الكاميرون بشكل حمائي، ومنعت استيراد قطع الدجاج، لتبدأ الأمور في التحسن من جديد، وعاد الأمل إلى القرى الصغيرة التي تتعايش من تربية الدجاج، وأصبح سوق الدجاج في ياوندي مليء بالحيوانات المحلية بعد سنوات من إغراق فضلات اللحوم الأوروبية للسوق.
يدمر فائض الإنتاج الأوروبي أسواق الكاميرون، وما يحدث مع البصل يمكن أن يحدث مع منتجات زراعية أخرى، وكان من المفترض أن ترفع الكاميرون رسوم الاستيراد كما فعلت ألمانيا مع الصين، لكنها لا تستطيع ذلك، فهذا ممنوع بموجب اتفاقية التجارة الجديدة مع الاتحاد الأوروبي، والتي لا تسمح برفع الرسوم الجمركية بغرض الحماية.
وتروج الكثير من دول أوروبا إلى أنه “بدون الحمائية لم يكن لتصبح دولاً صناعية”، فخلال حقبة الإمبراطورية أغلق رئيس وزراء مملكة بروسيا أوتو فون بسمارك الحدود لإغلاق الأسواق أمام الحبوب والخشب من روسيا، كما حمى الإنجليز أنفسهم أيضًا، وهم اخترعوا علامة “صُنع في ألمانيا” ليستطيع البريطانيون التعرف على السكاكين الرخيصة القادمة من ألمانيا.
التجارة الحرة تجلب الرخاء للكثير من الناس، ولكنها توسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء
إذًا الحماية من الخارج وسيلة ناجعة، لكن الكاميرون لا تستطيع تطبيقها لأنه لا يمكن حماية المنتجات الزراعية الأخرى بما يكفي بعد عقد اتفاقية منتجات التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، والأمر مشابه لبقية الدول الإفريقية، فاتفاقيات التجارة الحرة التي يريد الاتحاد الأوربي فرضها على البلدان الإفريقية “منحازة ولم تعد مناسبة لهذا الزمن”.
كذلك العمل الحرفي والصناعة يحتاجان إلى الحمائية في الكثير من الدول الإفريقية، فهما لا يزالان في البدايات، فعلى سبيل المثال، بوسع الكاميرون تصنيع دراجات نارية متينة، لكن اليوم تأتي هذه الدرجات من الصين، فالتجارة الحرة تجلب الرخاء للكثير من الناس، ولكنها توسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
على سبيل المثال، يمتلك أغنى 10% من الناس 90% من الثروة، بينما النصف الأفقر لا يملك شيئًا تقريبًا، ويكون الرابح هو من استثمر الأموال في أسهم الشركات العالمية، فقد استطاعت الشركة الأم لجوجل “ألفابت” مضاعفة قيمتها السوقية خلال سنوات قليلة، وتضاعفت قيمة شركة “أبل” 10 مرات، وخلال الفترة نفسها زاد الإنتاج الاقتصادي للعالم كله بمقدار الثلث فقط، أمَّا رأس المال فيتدفق بحرية حول العالم، ويربح القطاع المالي يربح من حركة رأس المال العالمية الحرة.
وحدها الضرائب لا تزال غير منظمة عالميًا، وهكذا تضع الشركات الكبرى حوالي 2.5 بليون يورو في ملاذات التهرب الضريبي في جزر كايمن أو بنما، هناك حيث لا توجد رقابة، ولهذا السبب تعلو الاحتجاجات أكثر كما في الاجتماع الأخير لمنظمة التجارة العالمية في بوينس أيرس، حيث اُتهمت المنظمة بأنها “لوبي لخدمة مصالح الدول الصناعية وشركاتها الكبيرة العالمة على مستوى العالم”.
الحمائية المستترة
في عام 2010، تبنى الكونغرس الأمريكي قانونًا يقضي بالتعامل مع البلدان التي تتدخل من أجل الإبقاء على أسعار صرف عملاتها الوطنية عند مستوى يقل عن قيمتها الفعلية، على أنها تمارس نوعًا من الإغراق بهدف دعم صادراتها في تنصل تام من مقتضيات الاتفاقيات التجارية الدولية.
يسمح هذا القانون لوزارة التجارة بفرض رسوم جمركية تعويضية على الواردات الأمريكية القادمة من هذه البلدان، وقد تضررت الصين التي تتهمها الولايات المتحدة بالتلاعب بقيمة اليوان وممارسة الإغراق عبر سعر الصرف من هذا الإجراء الحمائي، وتراجعت صادراتها إلى السوق الأمريكية خلال السنوات الأخيرة.
ليس الاتحاد الأوروبي وحده الذي ينتهج سياسية الدعم الزراعي، والذي تباركه منظمة التجارة العالمية، وإنما تعتبر الولايات المتحدة وبعدها اليابان من أكبر الدول الداعمة لهذا القطاع في بلدانها
وتمثل المساعدات المالية التي تقدمها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للمزارعين المحليين نموذجًا آخر يشهد على اللجوء إلى الإجراءات الحمائية بهدف حماية قطاع اقتصادي كامل (الزراعة) غير قادر على الصمود أمام المنافسة الخارجية دون الاتكال على ميزانية الدولة، فقد قد قامت المفوضية الأوروبية مؤخرًا بصرف 500 مليون يورو من أجل دعم قطاع الزراعة في أوروبا الذي يعاني من أزمة، وخصصت 150 مليون يورو لدعم مربي الأبقار ومنتجي الألبان وتعويض خسائرهم، بعد أن شهد إنتاج الألبان تراجعًا كبيرا في بلدان الاتحاد، وهنا يكون الخاسرون هم صغار المزارعين في الجنوب الفقير.
وينفق الاتحاد الأوروبي ما يزيد عن ثلث موازنته السنوية، والتي تبلغ 120 مليار يورو لدعم القطاع الزراعي في بلدانه، تُضاف إليها 10 مليارات يورو أخرى تخصص للتنمية الريفية، وليس الاتحاد الأوروبي وحده الذي ينتهج سياسية الدعم الزراعي، والذي تباركه منظمة التجارة العالمية، وإنما تعتبر الولايات المتحدة وبعدها اليابان من أكبر الدول الداعمة لهذا القطاع في بلدانها، خصوصًا إذا ما تعلق الأمر بالمحاصيل المخصصة للتصدير، ما يساعد على بيعها في الأسواق العالمية بأسعار زهيدة.
كما تقدم ألمانيا دعمًا بقيمة 280 يورو للهكتار (ما يُقارب 2.47 فدان)، وفي الإجمالي تدعم قطاع الزراعة بأكثر من 60 مليار يورو سنويًا، والنتيجة هي فائض في إنتاج الحليب ولحم الخنزير، والذي يتم تصديره بسعر رخيص إلى الصين، وهذا يؤدي بشكل حتمي إلى خفض الأسعار العالمية للمنتجات الزراعية، الأمر الذي يؤرق مزارعي الدول الفقيرة بالأساس.
هذا ما يفعله الأمريكيون أيضًا، فهم يدعمون بشكل كبير قطاع الزراعة وتقوم شركات الزراعة الغنية بالتصدير بالمليارات إلى كل العالم، ما ساعد منتجاتها الزراعية التي عادة ما تعرض بأسعار زهيدة على اقتحام أسواق الدول الأخرى وخاصة في قارت يإفريقيا وآسيا، مهددة بذلك الزراعة المحلية ومستقبل الفلاحين في تلك الدول.
وإلى جانب هذه المبالغ الضخمة التي ترصدها الدول الغنية لقطاعها الزراعي، توفر اتفاقية الزراعة العالمية معدلات حماية مرتفعة لمزارعي الدول المتقدمة، وذلك عن طريق فرض وتطبيق تعريفات جمركية عالية، تضاهي خمسة أضعاف التعريفات الجمركية التي يتم فرضها على السلع الصناعية، كما أن هناك حصص كَمية ضئيلة تخصص من قبل الدول الغنية لدخول المنتجات الزراعية الأجنبية إلى أراضيها، مما يحول دون الدخول الحر لمحاصيل الدول النامية إلى أسواقها.
ووسط هذا الصراع الدائم على الثروة، والذي يولِّد رابحين وخاسرين، تصبح فرص بعض الدول قليلة، فبدون الحمائية لن تكون التجارة عادلة أبدًا، وتحتاج المواد الغذانية بشكل خاص إلى حمائية من المنافسة الرخيصة سواء في الجنوب الفقير كما في الكاميرون أو في دولة صناعية غنية كما هو الحال في ألمانيا.