قال السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، إن الرئيس الجمهوري المنتخب دونالد ترامب، يريد أن تنتهي الحرب في غزة وتُبرم صفقة لتبادل الأسرى والرهائن قبل تسلمه مهام منصبه بشكل رسمي في 20 يناير/كانون الثاني المقبل، مضيفًا في مقابلة له مع موقع “أكسيوس” أن الرئيس الفائز يحتاج إلى التوصل لاتفاق في غزة، قبل أن يتمكن من التركيز على أهدافه الرئيسة في السياسة الخارجية بالمنطقة، والتي على رأسها تطبيع العلاقات بين “إسرائيل” والسعودية، والتحالف الإقليمي ضد إيران.
ويرى غراهام العائد من جولة له في الشرق الأوسط، هي الثانية خلال هذا الشهر، التقى خلالها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن “أفضل سياسة تأمين ضد حماس ليست إعادة احتلال إسرائيل لغزة، بل إصلاح المجتمع الفلسطيني. والدول العربية هي الوحيدة القادرة على القيام بذلك”.
يتزامن هذا الحديث مع حراك دبلوماسي تقوده مصر وقطر من أجل التوصل إلى اتفاق أو هدنة على الأقل لوقف إطلاق النار في غزة وإبرام صفقة تبادل، حيث زار وفد مصري تل أبيب قبل يومين فيما يتوجه اليوم وفد من حماس للقاهرة، للنقاش حول المقترح الذي قدمه الجانب المصري في محاولة لاستغلال جهود التهدئة في لبنان والتي أسفرت عن اتفاق مؤقت لإنجاز خطوة مماثلة في قطاع غزة الذي يتعرض لحرب إبادة مكتملة الأركان على مدار أكثر من 420 يومًا… فهل يرغب ترامب حقًا في إنهاء الحرب في غزة قبل تسلم مهام ولايته الجديدة؟
وعود مسبقة بإنهاء الحرب
تعهد ترامب خلال حملته الانتخابية الرئاسية بإنهاء الحرب في غزة ولبنان، بل وفي أوكرانيا كذلك، وفي لقاءاته التي عقدها مع ممثلي الجالية العربية والإسلامية في عدد من الولايات الأمريكية شدد على أنه لو كان متواجدًا في الحكم لما وقعت هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
الفكرة ذاتها شدد عليها في أحاديثه المتكررة مع نتنياهو، حتى بعد فوزه في الانتخابات، حيث طالبه خلال اتصال هاتفي بينهما “عليك أن تنهيها وتفعل ذلك بسرعة”، رغم استدراكه لهذا الأمر بمخاطبته قائلًا: “احصل على انتصارك وتجاوزه، الحرب يجب أن تتوقف، يجب أن يتوقف القتل”.
وفي اتصال هو الأول من نوعه منذ 2017 تعهد ترامب لرئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، خلال مهاتفة الأخير له لتهنئته بعد الفوز في الانتخابات، عن عزمه العمل على إنهاء الحرب في غزة، مؤكدًا أنه سيعمل من أجل وقف الحرب، مبديًا “استعداده للعمل مع الرئيس عباس والأطراف المعنية في المنطقة والعالم من أجل صنع السلام في المنطقة”، وفقًا لبيان صادر عن مكتب رئيس السلطة.
لكن هذا لا يعني تخلي ترامب عن “إسرائيل” التي تحظى بدعمه المطلق لها على طول الخط، أو إجبارها على وقف الحرب دون تحقيق أهدافها، ففي أول مناظرة إعلامية له مع الرئيس الديمقراطي جو بايدن قبل انسحابه من السباق، عارض ترامب مساعي بايدن إلى وقف إطلاق النار في غزة، قائلًا إن “إسرائيل هي من تريد أن تستمر في الحرب، ويجب السماح لهم بإنهاء عملهم” في إشارة إلى القضاء على حماس وتحقيق أهداف الحرب المعلنة.
تناقض غير مثير للجدل
بالعودة إلى سياسات ترامب إزاء ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي خلال ولايته الأولى يلاحظ أن حجم الدعم الذي قدمه للمخطط الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي لم يقدمه رئيس أمريكي آخر، إذ لم يجرؤ من سبقوه من حكام الولايات المتحدة على اتخاذ قرار بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، رغم اعترافهم بالقدس كعاصمة لدولة الاحتلال.
كما خرق ترامب الملفات الحساسة التي ظلت متأرجحة على طاولة المفاوضات العربية الإسرائيلية لعقود طويلة، تلك المتعلقة بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس، وذلك حين طرح ما عُرف إعلاميًا بـ”صفقة القرن”، لتكون خطة للسلام، والتي تضمنت احتفاظ الكيان المحتل بمعظم المستوطنات في الضفة وخرق ممنهج وجذري لكل القرارات الدولية الصادرة بهذا الشأن.
وأوغل الرئيس الأمريكي السابق خلال ولايته الأولى في تقديم كل قرابين الولاء والطاعة لدولة الاحتلال، حين قاد موجة التطبيع الأكبر في تاريخ المنطقة، حيث نجح في الزج بالإمارات والبحرين والمغرب – ومن بعدهما السودان – دفعة واحدة نحو حظيرة التطبيع فيما عرفت باتفاقات “أبراهام” وهي الخطوة التي ما كان يحلم بها الإسرائيليون أنفسهم.
يكشف هذا التوجه وتلك السياسات التي تفاخر بها ترامب حينها وأكد على مواصلتها في حال عودته للمشهد مرة أخرى، عن حجم البون الشاسع بين ما مارسه عمليًا حين كان في السلطة، وما يصرح به خلال الآونة الأخيرة، فكيف يجمع بين النقيضين؟ الدعم المتطرف لـ”إسرائيل” وفي نفس الوقت إنهاء الحرب وفرض السلام كما يزعم؟
دبلوماسية في خدمة الاحتلال.. ما الخيارات؟
بات واضحًا أن ترامب الذي كان يواجه خلال ولايته الأولى اتهامات بالتطرف والتعطش الواضح للتشدد وفقدان التوازن في سياسته الخارجية وتقديراته السياسية، يحاول اليوم أن يعود بصورة أكثر إيجابية، مرتديًا عباءة رجل السلام الذي يحاول إنهاء الحروب ووقف القتال وفرض الأمن والأمان والاستقرار على كل المناطق الملتهبة في العالم وليس على الساحة الفلسطينية فقط.
وتكشف الأسماء التي اختارها ترامب لإدارته الجديدة عن ملامح سياسته المحتملة خلال ولايته الثانية، والتي تتخذ من الاقتصاد قاعدتها الأبرز، فيما يمثل دعم الاحتلال أحد الأركان الرئيسية لها، وعليه فمن المرجح أن تكون الدبلوماسية هي أداة الضغط الأقوى بيد الرئيس الجديد لترجمة سياسته لإنهاء الحرب في الشرق الأوسط، لكنها الدبلوماسية أحادية الاتجاه، التي تميل نحو خدمة الأجندة الإسرائيلية على حساب القضية الفلسطينية.
ثمة خيارات محتملة وسيناريوهات متوقعة يمكن لترامب الاستناد إليها لإنهاء الحرب في غزة، على رأسها فرض اتفاق بشروط إسرائيلية، يحقق أهدافها ويقوض من حضور المقاومة، وهو الاتفاق الذي قد تُضطر بعض الأنظمة العربية الموالية – أو المنبطحة – للرئيس العائد مجددًا للترويج له وممارسة ضغوطها على حماس وفصائل المقاومة للموافقة عليه.
ومن الممكن أن ينبثق عن هذا الاتفاق صفقة سريعة وخاطفة يغازل بها ترامب المقاومة ودول الطوق بامتيازات اقتصادية أو أمنية أو سياسية نظير إنهاء الحرب وفرض السلام المؤقت، خاصة أن الرئيس الجمهوري يجيد بشكل لافت إبرام مثل تلك الصفقات الخاطفة التي يتعامل معها بعقلية “السمسار والتاجر” القادر على اختيار مداخل الإقناع وأدوات الضغط بحنكة وفي الوقت المناسب.
وبعد تحييد “حزب الله” كجبهة إسناد قوية لغزة، وإرضاخ طهران لمقارباتها الخاصة، وانشغال بقية محور الممانعة بتطورات المشهد في سوريا، قد يجد ترامب في تلك الأجواء الفرصة المناسبة لفرض ما يُعرف بـ”سلام الأمر الواقع” حيث بقاء الوضع على ما هو عليه مع فرض هدن مؤقتة لوقف إطلاق للنار وإبرام صفقة تبادل دون تغيير المشهد الميداني، أو على الأقل تجميده، مع منح المقاومة الفلسطينية الضمانات لعدم توتير الساحة مجددًا.
وبعيدًا عن مخاوف البعض في الداخل الإسرائيلي من احتمالية تغريد ترامب عكس عقارب الساعة الإسرائيلية في ظل ما يعانيه من خلل في الفكر وتناقضات في التوجهات وعدم القدرة على توقع قراراته، إلا أنه من المؤكد أن أي سيناريو أو خيار قد يلجأ له الرئيس الجديد لا شك أنه سيخدم الأجندة الإسرائيلية في المقام الأول، وسيكون بطبيعة الحال على حساب الفلسطينيين، هذا ما أكده خلال ولايته الأولى وما شدد عليه في حملته الانتخابية وما أقره بعد الفوز في الانتخابات.
هل يرغب ترامب في إنهاء الحرب قبل ولايته الجديدة؟
كان الاتجاه السائد قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة رغبة نتنياهو وحكومة اليمين المتطرف تفويت الفرصة على الديمقراطيين في تحقيق أي إنجاز سياسي بملف الحرب في غزة يمكن توظيفه دعائيًا خلال الانتخابات بما يعزز من فرص المرشحة كامالا هاريس، التي تعرضت لتصويت عقابي واضح من العرب والمسلمين – بسبب الموقف من الحرب والدعم المطلق لـ”إسرائيل” – خلال الماراثون الانتخابي، كان له أثره بطبيعة الحال على نتائج الانتخابات وخسارتها المدوية رغم استطلاعات الرأي التي كانت ترجح فوزرها.
ومع الانتصار الكاسح لترامب في الانتخابات واصل أنصار هذا الاتجاه مساعيهم لحرمان بايدن من أي مُنجز دبلوماسي يحفظ ماء الوجه قبل مغادرة البيت الأبيض، على أن يكون إنهاء الحرب وإبرام صفقة تبادل هي هدية نتنياهو وحكومته لترامب في ولايته الجديدة، بحيث يبدأها بانتصار سياسي يُحسب لسياسته الخارجية مع بدايات تولي المهمة رسميًا.
إلا أن التصعيد الذي شهدته الجبهة اللبنانية والضغوط التي تعرضت لها حكومة نتنياهو، سياسيًا وشعبيًا وعسكريًا، لم يسعفها في ترحيل المكافأة ليناير المقبل، فأُجبرت على الرضوخ والموافقة على إبرام اتفاق مؤقت لوقف إطلاق النار في لبنان، في محاولة لتبريد وعزل جبهة الإسناد الأهم والأكثر تأثيرًا منذ بداية الحرب في غزة أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ومع وصول الحرب في غزة إلى طريق مسدود، حرب بلا رؤية ولا هدف، بالتوازي مع صمود المقاومة وثباتها رغم ما تعرضت له من ضربات وخسائر، وتمسك الغزيين بإجهاض مخطط الترحيل والتهجير القسري في مواجهة آلة التدمير الوحشية والحصار العنصري الذي يتعرضون له، باتت الأمور أكثر صعوبة، خاصة بعدما أثير حول بقاء نصف المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس على قيد الحياة، ما يجعل من استمرار الحرب مسألة عبثية قد تمتد لسنوات دون أي إنجاز إضافي ملموس يمكن تحقيقه.
وعليه ظهر توجه آخر، أكثر برغماتية، يتناغم مع عقلية ترامب وسياسته العملية التي تميل إلى تغليب الاقتصاد على السياسة، والمكاسب على الأيديولوجيات، والاستقرار على التوتر، حيث تصفير الأزمات في تلك البقعة الملتهبة من العالم، بما يساعد الرئيس الجديد على بدء مهام ولايته الجديدة دون أي مشكلات أو قنابل موقوتة تعيق أهدافه وطموحاته الأخرى التي يحاول من خلالها تعظيم مكاسب أمريكا الاقتصادية عبر شراكات وتحالفات مع دول الشرق الأوسط.
ومن هنا فإن الرئيس الجمهوري الفائز يحتاج – كما أشار غراهام – إلى التوصل لاتفاق في غزة، يُنهي به الحرب ويُبرم به صفقة تبادل، ويجمد به هذا الملف الذي كان سببًا رئيسيًا في تأليب الشارع الأمريكي وخسارة منافسته هاريس، قبل أن يدخل البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني المقبل، بما يمكنه من التركيز على أهدافه الرئيسة الأخرى في السياسة الخارجية بالمنطقة، والتي على رأسها تطبيع العلاقات بين “إسرائيل” والسعودية، والتحالف الإقليمي ضد إيران.
وأكد السيناتور الجمهوري أن “ترامب أكثر تصميمًا من أي وقت مضى على إطلاق سراح المحتجزين ويدعم وقف إطلاق النار الذي يشمل صفقة الرهائن. إنه يريد أن يرى ذلك يحدث الآن (…) أريد أن يعرف الناس في إسرائيل والمنطقة أن ترامب يركز على قضية الرهائن. إنه يريد وقف القتل وإنهاء القتال”، وتابع: “آمل أن يعمل الرئيس ترامب وإدارة بايدن معًا خلال فترة الانتقال لإطلاق سراح الرهائن والحصول على وقف إطلاق النار”.
وشهدت الأيام الماضية حراكًا مصريًا قطريًا أمريكيًا دبلوماسيًا مكثفًا، من أجل التوصل إلى اتفاق أو هدنة لإنهاء الحرب في غزة، حيث زار وفد مصري تل أبيب لعرض المقترح المقدم من القاهرة، التي استضافت رئيس الوزراء القطري قبل ساعات، والذي يتضمن تهدئة لمدة مؤقتة بين شهر وشهرين، تتضمن عمليات لتبادل الأسرى تسير بالتدريج، مع إعطاء أولوية لكبار السن وأصحاب الأمراض المزمن، على أن تكون تلك التهدئة فرصة لتواصل المفاوضات من أجل الوصول إلى اتفاق كامل لإنهاء الحرب في غزة بشكل نهائي، وفي المقابل من المقرر أن يزور وفد من حماس اليوم العاصمة المصرية لمناقشة المقترح بكل تفاصيله، حسبما ذكرت وكالة “رويتزر”.
وكانت وسائل إعلام عبرية قد تحدثت عن استعداد تل أبيب لعقد صفقة مع حماس، دون استبعاد “انسحاب جزئي” من محور فيلادلفيا، وهو إحدى النقاط الخلافية التي تحول دون التوصل لصفقة مع فصائل المقاومة، فيما أظهر استطلاع رأي أنجزته القناة 12 الإسرائيلية أن 71% من الإسرائيليين – 56% منهم من كتلة نتنياهو وأنصاره – يؤيدون إنهاء الحرب في غزة مقابل إبرام صفقة تبادل أسرى.
عطفًا على ما سبق، واستنادًا إلى تجربته السابقة خلال ولايته الأولى، فإن عباءة السلام التي يحاول ترامب ارتداءها لتجميل صورته الدولية لن تليق عليه، فالمقاسات مختلفة، والأبعاد متناقضة، ومن ثم فإن أي سياسة سيتبناها الرئيس الجديد في التعاطي مع ملف الحرب في غزة ستخدم المصالح الإسرائيلية في المقام الأول، بصرف النظر عما إذا كان إنهاء تلك الحرب – في إطار سياسة تصفير الأزمات – قبل تسلمه السلطة رسميًا يناير/كانون الثاني المقبل، أو تأجيل تلك الخطوة لتوظيفها سياسيًا كأول انتصار دبلوماسي في ولايته الجديدة.