نهاية شهر ديسمبر/كانون الأوّل، بدأ حراك السودان من مدينة عطبرة المدينة الثانية في محافظة نهر النيل بعد عاصمتها الدامر، عندما خرج طلاب المدارس وعمال السكة الحديد لتناول وجبة الإفطار بالمطاعم وسط المدينة غير أنهم فوجئوا بانعدام الخبز، فقاموا بإغلاق الشارع المؤدي إلى مبنى التلفزيون.
تواصل الحراك، إلى غاية اليوم، رغم رحيل عمر البشير عن السلطة، فالشعب يرى أن مطالبه لت تتحقّق بعد، وما حصل ماهو إلا التفاف على حراكه السلمي، وللوصول إلى غايتهم اتخذ السودانيون أساليب عدّة في الاحتجاج، نتعرّف عليها في هذا التقرير لنون بوست.
مظاهرات في كلّ مكان
بداية الحراك السوداني كانت بالمظاهرات، حيث خرج الآلاف في مناطق مختلفة من السودان، منها العاصمة الخرطوم، احتجاجا على ارتفاع سعر رغيف الخبز غلاء المعيشة وندرة السلع الأساسية، ليرتفع سقف المطالب فيما بعد إلى المطالبة بإسقاط نظام عمر البشير الذي يحكم البلاد منذ عقود عدة.
في هذه المظاهرات الكبرى، ردد المحتجون الهتاف الذي بدأ في احتجاجات عطبرة “شرقت شرقت.. عطبرة مرقت” مع تخصيص المتظاهرين أسماء مدنهم. كما هتفوا بشعارات “الشعب يريد تغيير النظام”، و”حرية سلام وعدالة.. الثورة خيار الشعب”، و”نحن مرقنا ضد الناس الأكلو عرقنا.. ضد الناس القتلوا ولدنا”.
قاطع السودانيون بنك أم درمان الوطني التابع للجيش وشركة سين للغلال التابعة لجهاز الأمن ومستشفيات الزيتونة ويستبشرون وعلياء
لم يقف النظام مكتوف الأيدي بل سارع إلى تعزيز قبضته الأمنية بفرض حالة الطوارئ في بعض المدن لتطويق الاحتجاجات والحدّ من انتشارها، كما اعتقل العديد من المتظاهرين وقتل العشرات منهم، ما دفع المحتجين إلى التظاهر ليلا لتلافي القمع، وضمان استمرار الحراك الجماهيري، وتم تنسيق تلك المظاهرات عبر الاستعانة بلجان الأحياء والمقاومة لمعرفتهم الدقيقة بدوائرهم الجغرافية.
اجتاحت المظاهرات معظم مدن السودان
وشارك في هذه المظاهرات مئات الآلاف من السودانيين من مختلف الأعمار والتوجهات الفكرية والسياسية، التقى الجميع في الشوارع والساحات، رفضا للبشير وسياساته، ورغبة في التحرّر من نظام حكمهم لعقود عدّة دون أن تشهد فيها البلاد تطوّرا يذكر.
مقاطعة الحكومة اقتصاديا
لم تخلو احتجاجات السودان من ابتكارات للهروب من الطوق الأمني الذي فرض على المحتجين، من ضمنها مقاطعة الحكومة اقتصاديا، فقد أطلق تجمع المهنيين السودانيين (كيان نقابي مستقل) حملة مقاطعة اقتصادية، لعدد من الشركات الخاصة والمصارف والمشافي، التي قال إنها تابعة لمؤيدين للحكومة.
واعتبر التجمع -الذي يتبنى المظاهرات المطالبة بإسقاط البشير منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي- أن المقاطعة الاقتصادية أداة جديدة ومجربة من أدوات المقاومة السلمية، وعرّف التجمع المقاطعة بأنها “عملية التوقف الشعبي الطوعي وبشكل جماعي عن استخدام أو شراء أو التعامل مع أي سلعة أو خدمة تنتجها أو تقدمها مؤسسة أو شركة تدعم النظام وأجهزة قمعه ماليا أو سياسيا أو تسيء لشعبنا العظيم وثواره”.
اعتصام أعداد كبيرة من السودانيين أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة
من بين البضائع المقاطعة، حدّد التجمع صحيفتي “المجهر السياسي” و”ألوان” لناشريها الهندي عز الدين وحسين خوجلي، وفضائية “سودانية 24” التي يديرها الطاهر حسن التوم “لتأييدها الحكومة ضد المحتجين”، وأيضا بنك أم درمان الوطني التابع للجيش وشركة سين للغلال التابعة لجهاز الأمن ومستشفيات الزيتونة ويستبشرون وعلياء، باعتبار أن بعضها تعود ملكيته لوزير الصحة بولاية الخرطوم مأمون حميدة، فضلا عن شركات تجارية أخرى.
الاعتصام في الساحات وأمام مقرّ القيادة العامة للجيش
إلى جانب المظاهرات ومقاطعة الحكومة اقتصاديا، لجأ السودانيون إلى الاعتصام في الساحات وأمام مقرّ القيادة العامة للجيش للضغط على السلطات الحاكمة لتحقيق مطالبهم المشروع، وتسليم حكم البلاد للمدنيين.
أبرز هذه الاعتصامات، الذي بدأ في السادس من ابريل/نيسان الحالي، حيث دخل ألاف المحتجين اعتصاما مفتوحا أمام مقر قيادة القوات المسلحة، للضغط على الجيش للانحياز لمطالبهم، بالتزامن مع دعوة تجمع المهنيين السودانيين إلى إعلان إضراب عام في السودان وطالبت بدعم الجيش للثورة.
من أشهر الأغاني التي ظهرت في أيام الاحتجاجات الأولى “الحس كوعك ولملم حرسك غفرك.. قسمًا عظمًا ناخد حقنا رغم دروعك”
يصادف يوم 6 أبريل اليوم الذي أعلنت فيه القوات المسلحة – في آخر ثورة شعبية للبلاد عام 1985 – وقوفها بجانب الشعب. في آخر ثورتين بالبلاد أطاحتا بأنظمة استبدادية عامي 1964 و1985 قدم الجيش دعمًا مهمًا للمتظاهرين، وفي كلتا الحالتين كان هناك تعاون وتنسيق بين المجموعات المهنية التي تقود الاعتصام والمعارضين في الجيش.
في عام 1964 رفض أعضاء منظمة الضباط الأحرار الذين تربطهم علاقة وثيقة بالجماعات الاشتراكية اليسارية العربية إطلاق النار على المتظاهرين، وفي 1985 قامت جماعة أخرى تحمل نفس الاسم بدور مشابه في تأكيد أن الجيش لا يستهدف الاحتجاجات الشعبية.
من بين الشعارات التي تردّدت في هذه الاعتصام، شعار “تسقط بس ” (يسقط النظام وانتهى الأمر) وأخرى حملت أساسيات الدولة المدنية التي يطالب بها المحتجون مثل “حرية، سلام، وعدالة..الثورة خيار الشعب”.
إضرابات عامة
أمام عدم تجاوب السلطات، وانتهاج الحلّ الأمني، لجأ السودانيون إلى سلاح الإضرابات العامة، حيث نفّذوا أكثر من إضراب عام طيلة الأشهر الأربعة الماضية، وذلك لمزيد الضغط على نظام البشير وإضعافه.
أخر هذه الإضرابات، كان يوم 6إبريل/نيسان، حين أعلن تجمع المهنيين السودانيين، خوض إضراب عام في البلاد بصفة متواصلة، حتى “تسليم السلطة إلى حكومة انتقالية مدنية”، وشملت هذه الخطوة القطاعات المهنية الخاصة والعامة، بما في ذلك القضاء والهندسة والزراعة والبيطرة والتعليم والنقل، وذلك في جميع أنحاء البلاد.
الفن.. أحد الأساليب الناجعة
لعبت الأغاني الثورية السودانية، دورا مهمّا في الاحتجاجات أيضا، ومن أشهر الأغاني التي ظهرت في أيام الاحتجاجات الأولى “الحس كوعك ولملم حرسك غفرك.. قسمًا عظمًا ناخد حقنا رغم دروعك”، وأيضا “يا بلاد النور يا راس الخير.. لا بد يوم باكر يبقى أخير.. الدمعة تفارق الوجدان.. ودموع الغبش الصابرة تسيل.. صبرك لو طال ما باقى كثير يا بلادي”.
هذه الأغاني جعلت من المرأة التي تدعى آلاء صلاح، تتحوّل إلى أيقونة الاحتجاجات في البلاد، حيث تقاسم العديد عبر العالم الفيديوهات التي تظهرها ، بثوبها الأبيض وقرطها الذهبي، وهي تطلق الأغاني وسط المتظاهرين أمام مقر القيادة العامة للجيش في العاصمة الخرطوم.
لقبت آلاء صلاح بلقب “كنداكة” على الشبكة العنكبوتية، وكانت الأبيات التي هتفت بها تقول “نحن سقينا النيل، بدمنا الفاير.. حبوبتي (أي جدتي) كنداكة” أي الملكة النوبية. وألهبت آلاء صلاح الجماهير بأغانيها، وألهمت العديد من الفنانين التشكيليين لرسم صورتها.
هذه الأساليب الاحتجاجية وغيرها من قوى ضغط، ساهمت بدرجة كبيرة في رحيل عمر البشير عن السلطة بعد 3 عقود من الحكم، ويبقى الآن على السودانيين استكمال ثورتهم التي أمنوا بها، وعدم ترك الجيش يلتف على مطالبهم.