ترجمة وتحرير نون بوست
ليس من المعتاد أن تتصدر الانتخابات البلدية في تركيا عناوين الصحف في وسائل الإعلام الدولية، لكن التصويت على انتخابات 31 آذار/ مارس المنصرم في تركيا لفت الانتباه في الداخل والخارج. ولعل أبرز محطاتها السباق المحتدم على منصب عمدة مدينة إسطنبول، أكبر مدن البلاد وعاصمتها الاقتصادية، والتي لا يزال الصراع حول ترأسها قائمًا.
وبغض النظر عن النتيجة النهائية، دحضت الانتخابات الادعاءَات الشعبية وغير المدعومة من قبل بعض وسائل الإعلام الغربية والنقاد بأن الديمقراطية التركية قد ماتت، ليظهر جليًّا أن هذه الديمقراطية تنبض بالحياة. والجدير بالذكر أن اتفاق الجمهور، وهو تحالف بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، حصل على أكثر من 53 بالمئة من الأصوات المحلية وحافظ على شعبيته.
وفي الوقت ذاته، حقق مرشحوا المعارضة بعض المكاسب، لاسيما في العاصمة أنقرة. ولا تزال بلدية إسطنبول محل نزاع في حين تتعامل الهيئة العليا للانتخابات، وهي هيئة قانونية ومستقلة، مع التحديات وفقًا للقانون التركي بطريقة شفافة. وعقب إتمام الانتخابات البلدية، ستجد تركيا نفسها في خضم فترة طويلة خالية من الانتخابات ستستمر حتى سنة 2023، وهو ما سيمنح الرئاسة التركية أربع سنوات ونصف للتركيز على اقتصادها والأزمة الراهنة في سوريا وقدرتها الدفاعية.
على الصعيد الداخلي، ستمثل إعادة الاقتصاد التركي إلى المسار الصحيح أولوية الإدارة العليا، لاسيما وأن تركيا شهدت هجومًا اقتصاديًا غير مسبوق ومدمّر تمكنت من النجاة منه خلال الأشهر القليلة الماضية. وانبثق عن هذه الهجمات درس ثمين مفاده أن الحكومة التركية بحاجة إلى اتخاذ الخطوات اللازمة لجعل اقتصادها أكثر مرونة تجاه الصدمات الخارجية. تأمل تركيا في تعزيز اقتصادها من خلال النمو القائم على التصدير والاستثمار في التكنولوجيا وخلق فرص العمل بحلول سنة 2023.
ومن المقرر أن تكشف الحكومة التركية عن خطة لمكافحة التضخم في أسعار المواد الغذائية الشهر المقبل
خلال الأسبوع الماضي، كشف وزير الخزانة المالية التركية، بيرات البيرق، عن خطة الإدارة للتحول الهيكلي، والتي تركز على تعزيز اقتصاد السوق الحرة في تركيا، وتنفيذ الإصلاحات الضريبية وتعزيز توزيع أكثر عدلاً للثروة. وأعاد البيرق التأكيد على التزام دولته بالنظام المالي وتقديم سندات دين بقيمة 4.92 مليار دولار لرسملة بنوك الدولة ومساعدة البنوك الخاصة على رفع مستويات رأس المال لديها لمعالجة المعضلات التي تواجهها على المدى القصير.
على المدى الطويل، تخطط الإدارة لإدخال نظام معاشات فردية جديد يعتمد على مستوى الدخل، ومن المقرر تكشف الحكومة التركية عن خطة لمكافحة التضخم في أسعار المواد الغذائية الشهر المقبل. وفي الوقت ذاته، ستكرس إدارة أردوغان وقتها وجهدها لوضع حد لتهديدات الأمن القومي القادمة من سوريا.
على الرغم من أن تركيا أبدت استعدادها وقدرتها على مواصلة الحرب ضد الإرهاب والتطرف في المنطقة، عكس الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قراره الأولي بسحب القوات من سوريا تحت وطأة السياسات الخارجية ووزارة الدفاع الأمريكية. وبغض النظر عن قرار واشنطن، يتوجب على الأتراك الأخذ بزمام الأمور وتوليها بأنفسهم.
خلال السنوات القليلة الماضية، عملت تركيا على دحض خطر الإرهاب المجاور بصفة جزئية عن طريق استهداف المنظمات “الإرهابية” مثل حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة في شمال سوريا. يتمثل الهدف التركي التالي في تحرير المنبج التي لا تزال خاضعة لاحتلال فرع حزب العمال الكردستاني السوري، فضلًا عن القضاء على جميع الأنشطة الإرهابية بين نهر الفرات والحدود السورية العراقية.
تركيا لا تزال أحد أكبر المساهمين في دفاع الحلف الأطلسي.
هذه ليست مجرد خطة معزولة لمكافحة الإرهاب ولكنها جزء من استراتيجية أوسع لجعل سوريا آمنة مرة أخرى وتيسير العودة الطوعية والدائمة للاجئين السوريين إلى أرضهم الأصلية. لطالما شاركت تركيا في جميع الفعاليات الرامية للتوصل لحلول سلمية للأزمة السورية، بما في ذلك القمم التي أُجريت في جنيف وأستانا. لا تزال تركيا متمسكة بموقفها الرسمي وهو أن لا مكان للرئيس بشار الأسد في سوريا، حيث يفتقر إلى الشرعية للعب أي دور في فترة ما بعد الصراع. تأمل تركيا في وضع حد نهائي لسفك الدماء في سوريا جنبًا إلى جنب مع أصدقاؤها وحلفائها، بما في ذلك روسيا والولايات المتحدة.
على الرغم من امتلاك تركيا لثاني أكبر جيش في الناتو، إلا أن الحرب الأهلية السورية أقنعت القيادة التركية بأن البلاد بحاجة إلى تعزيز دفاعاتها الجوية. وبعد بحث مطول دام ثلاث سنوات عن أفضل التقنيات المتاحة وشروط العقود الملائمة، أبرمت تركيا اتفاقا مع روسيا لثبيت نظام إس 400 للدفاع الصاروخي على أراضيها.
بالنظر إلى أن هناك العديد من الحلفاء الذين يمتلكون نظام الدفاع الصاروخي الروسي، على غرار اليونان، افترضت تركيا بشكل معقول أن أصدقاؤها وحلفاؤها سيحترمون سيادتها. تجدر الإشارة إلى أن الاتفاق بأكمله كان بشكل علني ولطالما كانت السلطة التركية تتحدث عن تطلعاتها في وسائل الإعلام.
ومع ذلك، اتخذت الولايات المتحدة موقفا غير مفهوم لمحاولة التحدث مع تركيا للخروج من هذه الصفقة المنجزة قبل بضعة أشهر فقط من تسليم نظام إس 400 في تموز/يوليو القادم. ولا تزال القيادة التركية عاجزة عن فهم السبب الذي يدفع الولايات المتحدة لمنع حليفها في الناتو من الاستثمار في دفاعها الوطني بعد أن كانت قد رفضت بيعها معدات مماثلة في المقام الأول.
لا يزال الموقف التركي كما هو، حيث يقوم على الاهتمام بالعلاقات الودية مع البلدان المجاورة والقوى الإقليمية الأخرى مثل أي بلد آخر. ولا يعني تعاون تركيا مع روسيا في مجالات الطاقة والدفاع الوطني والمجالات الأخرى أنها تمتلك نظرة سلبية حول حلف الناتو، ولعل ما يؤكد ذلك هو حقيقة أن تركيا لا تزال أحد أكبر المساهمين في دفاع الحلف الأطلسي.
بناء على ذلك، ستنتهز الرئاسة التركية الفرصة للتركيز على حل المشكلات الملحة ومعالجة القضايا الطويلة الأمد على مدى السنوات الأربع والنصف القادمة. ولقد شهدت لبلاد نمواً اقتصادياً تاريخياً تحت قيادة رجب طيب أردوغان، ناهيك عن جذب مئات المليارات من الدولارات من الاستثمارات الأجنبية المباشرة وظهورها كقوة ذات ثقل كبير في المنطقة. ومن جهتها، تعد الإدارة التركية بمواصلة السير على المنوال ذاته والمزيد من الإنجازات خلال السنوات الأربع والنصف القادمة.
المصدر: الجزيرة